الخروج من بيت الموتى

الخروج من بيت الموتى

د. فاروق المناصير

كان ذلك في تلك الأيام الخوالي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي ، وفي أشهر الصيف الحارة ، حيث الرطوبة والسخونة والعرق المتصبب بغزارة ، والمناخ القائظ الملتهب ، حيث لا يتحمل أحدنا البقاء خارج الغرف المكيفة اتقاء من حرارة الشمس في أشهر القيظ الطويلة .

كان ذلك في إحدى الدول الخليجية العربية . يومها توقفت في حينا سيارة أجرة ونزلت منها خمسة أرجل : امرأة شابة وجميلة تلف جسدها بعباءة سوداء طويلة ، نسميها نحن أهل الخليج بـ (الدفة) ، وتتشح بحجاب أبيض ناصع البياض ، غطى نصف شعرها الأسود الداكن . ثم نزلت بعدها مباشرة امرأة طاعنة في السن بلغت على ما يبدو للعيان الثمانين عاماً ، وقد اتكأت على عكار مهترئ كأنه العرجون القديم ، ورجلين نحيلتين وجسد ناحل وضامر سكنته الأمراض ... أمراض الشيخوخة والسن ، وقد انحنى ظهرها واحدودب إلى الأمام ، في صورة بائسة كئيبة .

دار في خلدي حينها هذا السؤال : من هذه السيدة الشابة ومن تلك المرأة العجوز؟ ولماذا جاءتا إلى حينا المتواضع .. ولِمَ ؟

كنت حينها صغيراً في السن ، ألعب مع أترابي على قارعة الطريق العام ، وقد شدني هذا المشهد وأدهشني ولكني علمت بعد ذلك من هما هاتان السيدتان ، لقد كانت السيدة الشابة ابنة تلك المرأة العجوز، وقد جاءت إلى حينا لتُسكنها في حجرة قديمة مستأجرة تطل على أحد الشوارع الفرعية في ذلك الحي القديم . وهذه الحجرة بالذات كانت في الزمن البعيد قبراً لصاحبها الذي أوصى قبل مماته بأن يُدفن فيها ، وقد حقق أهالي الحي رغبته فدفنوه فيها بعدما عاش جُلّ حياته بين جدرانها ، مرافقاً للعوز والفقر والحاجة . وكانت هذه الحجرة تفتقد إلى الخدمات العامة من الماء والكهرباء فإذا حلّ الليل حلّ معه الظلام الدامس وأشباح الموتى وأرواحهم . كما كانت رائحتها منتنة وكريهة لقذارة المكان ووساخته .

أما لماذا أسكنت تلك المرأة الشابة أمها في هذه الحجرة المتواضعة فقد كان السبب هو طلب الخلاص من عناء الأم الطاعنة في السن وأمراضها العديدة ، بعدما اتفقت هي وزوجها على استئجار هذه الحجرة لهذه الأم المسكينة . ولم تكن يومها في تلك الدول الخليجية بيوت لرعاية العجائز والشيوخ ممن غدر بهم عقوق الأبناء والبنات وأهملهم الناس .

ولقد رأيت هذه العجوز تجلس كل يوم على عتبة الحجرة وتمد يدها للتسول من المارة من الصباح الباكر وحتى الظهيرة ، وكل ما تجمعه تسلمه لصاحب الحجرة ومالكها الجديد ، وهي في الواقع قروش قليلة ومعدودة لا تسمن ولا تغني من جوع ، وقد تكفلّت أسرتي بتقديم وجبتي الغداء والعشاء لها ، أما طعام الإفطار الذي نسميه نحن أهل الخليج (الريوق) فقد كانت تأتي به بنت صغيرة من أسرة أخرى في حينا .

ومضت الأيام على هذه الوتيرة إلى أن جاءت ليلة ليلاء كانت شديدة الحر والرطوبة ، حيث دخلت العجوز حجرتها وأقفلت بابها الخشبي المعروف آنذاك ، وياليتها ما فعلت ذلك ..فقد اشتد عليها الحر والرطوبة الخانقة والظلام الدامس وقد سمع المارة الخارجون من مسجد الحي أنيناً كأنين المكلوم يخرج وينبعث من تلك الحجرة ، وللأسف لم يتحرك أحد لإنقاذ هذه العجوز مما هي فيه من عناء وابتلاء إلى أن أصبح الصباح وجاءت البنت الصغيرة كعادتها وهي تحمل صينية الإفطار وطرقت الباب مرات عدة ، ولكن لم يفتح لها فأخبرت أمها فجاءت مسرعة واستعانت بأحد المارة في فتح البا فوجدوا المرأة العجوز ساقطة على وجهها وهي تشرف على الهلاك وقد احمر جسدها الناحل الضعيف فنقلوها إلى المستشفى وهناك بقيت أسبوعين . وقال الطبيب الذي أشرف على علاجها :

ـ إذا أرجعتموها إلى نفس المكان فإنها ستموت حتماً ، ولكن ما الحيلة وقد هجرتها ابنتها العاقة ، ولا نعرف أحداً من ذويها ؟ لذلك أرجعت إلى نفس المكان ، وإن شئت فقل : إلى نفس القبر!

وما هي إلا ثلاثة أيام حتى تكررت نفس المأساة فلما كسر الباب وجدوها ميتة ، وقد انكبت على وجهها بعدما عجزت عن فتح الباب لتظفر بنسمة هواء نقية .

وحملها أهل الحي إلى مثواها الأخير وهم يترحمون عليها ويستغفرون لها ، ويصبون لعناتهم القاسية على ابنتها العاقة التي أهملتها حتى لحظة الوفاة .

وكنت مع الذين شيعوا جنازتها إلى المقبرة ، ولكنني كنت أقول :

ـ ما أقسى هذه الحياة وما أقسى الناس فيها .. لقد تركوا هذه المسكينة تموت بهذه الصورة البشعة دون أن يقدموا لها شيئاً وكان بإمكانهم أن يوصلوا لها الكهرباء ، وأن يضعوا لها مكيف هواء ، ولكنهم لم يفعلوا ، فماتت بهذه الطريقة البشعة ، وذهبت إلى ربها تشتكي إليه عقوق الأبناء وموت الرحمة في قلوب الناس .

ألا ما أقسى هذه الحياة وأقسى ما فيها .

بهذه الكلمات المؤلمة والحزينة ختم الأستاذ الجامعي حديثه لطالباته الباكيات وقد تفجرت الدموع من أعينهن . أما هو فقد جلس على الكرسي ليمسح عن عينيه الدامعتين بقايا الدموع النافرة من مقلتيه وهو يدعو لها بالرحمة والغفران .

(*) لقد ودرت هذه القصة في كتابي " ليست هنا حكومة ظالمة " ص 118 ، وهنا إضافات قليلة .