يهوي واقفاً
هند جودة
شاعرة فلسطينية من غزة
لهــا أزهارٌ تراود القلب عن رجفته فلا يستعصم، العين تراقص اتساع أخضر تجده حيثما استدارت في هذا الجزء من أحلامنا وآلامنا...
في هذا الجزء المقيّد بالحديد والنار المسمى بنا والموسومين به كلعنة نحبها ونحملها خريطةً، أنفاس، وحيثما استدرنا، تبقى فلسطين ونبقى فلسطينيو الأصل والانتماء والموت..
الأشجار تتشابك أمام عينيّ كفّا لكف .. تمارس رقصة الدبكة في كل ربيع.. فرحة ً بأنها تنبض من جديد وأنها تنفس براعم َ ورحيق، وتتلقى قبلت النحل كلما فكّت الشمس عصابة الليل عن شعرها ونثرت ضفائرها على اتساع الصباح...
تعلَق ُ الأهداب بوشاح الخضرة المنساب على كتف السهل الممتدّ أمام أقدام حقلٍ يكتنز بأنوثة برتقالاته اللامعة..
شهية ٌ تلك الرائحة التي تزغرد بها خلف القلب، فتنتفح لها نوافذ الروح على مصراعيّ اللهفة والتوق
تعدو أصابعي نحو ملمسٍ مدبّب، تتعثر فوق سطحها البرتقالي، لتجد أنها لا تعرف الاستقامة بل تنحني في كل جوانبها وتقلبات مزاجها، وكأنها مثقلة ٌ بكومة الرحيق منذ الأزل، مواصلة بثه في كل مسامها منذ الأزل ..
أقترب برأسي واضعة أنفي على خدها البرّاق فأنتشي بحقل ٍ كامل يرقص الدبكة ويضج بالعرق أريجا عبر أثيرٍ ربيعيّ الملامح أخضر..
ترهقني رائحة البرتقالة بعد ذبحها ، تزعجني كسرّ تم إفشاؤه وأخمّن أن ربما في تقشيرها فضحٌ للّذة أفضلها مختلسة بين القشور وبيني، نبتلع عذوبة البرتقالة ويختفي ألقٌ كانت تصنعه استدارتها المغلقة على سرّ!
من جديدٍ أمرّر روحي على أناملَ خضراء جافة وكأني ألمس شوكا في حلقي أغصّ، جافةً بقيَتْ في حقل من تراب كالح، وكأنها نصبٌ تذكاريٌّ يشير إلى هلاك قبيلة ٍ من أشجار برتقالٍ كانت ذات ربيعٍ يباهي بها السحرّ، وتبالغ في نثره ذات اليمين وذات الشمال وفي كل جهات الروح التي لا تعدّ ولا تحصى..
أستطيع أن أواصل نشوة رحيقٍ يداعب حواسي، رغم أن الهواء مالح الحقيقة، وأن هذا الربيع جاء بغصنٍ يتيم مبتورٍ دون جذعه الحميم يؤكد للذاكرة أن لا تنسى، ويلقي على القلب تحية شوق ٍتشابه شهقة..
جرافةٌ من صلب لاكت بفكّيها موسم الحصاد، أعلنت كعادتها أنها أبشع من أن تسمح باكتشاف السرّ أو انتظار الفرح، وأن الرقصة هذه المرة مع الموت، مع الغياب .. مع بقاء الرحيق موارباً يبكي بصمتٍ وحرقة ويزور التراب كطيف، ويفتقد اشتعال الربيع ولثغ النحل على مفارق خديه..
أتنفس وجعي، أتنهّد قلبي، وأترك الغصن يهوي واقفا.