مواجهة مؤجلة

زاهية بنت البحر

وقفتُ أمامه كرجلٍ لرجل، لم أعد ذاك الطفل الذي يرى والده بطول نخلة، وبقوة جبل، رأيته اليوم كما يرى الندَّ نده. قررت مواجهته بكل شيء، سأفرغ حصاد سني عمري من ألم عذابٍ غرسه في صدري وأنا ابن تسع، يومَ احتضنت تربة قلبي الغضة تلك النبتة بحنان أم رؤوم، غذتها بالقتام، وسقتها بالدموع، وسهرت عليها بنوايا الثأر ممن سلبني أمي.

كبرت النبتة، تمددت جذورها الشائكة في شراييني، ولحمي، وعظمي، أرقت فكري، وأجرتِ الدمع في عيني، واليوم تجتاحني غصونها وثمارها بثورة داخلي المكفهر، متمردة، تصرخ بتحدٍ غريب لا أستطيع لجمه، تريد الظهور للعيان بعد كبتها عمرا في ظلام الأسر. سأواجهه بكل شيء، لن أخافه، فقد بلغت من العمر أشده، ومن الرشد سنامَه، بينما أحنى الزمن ظهره، وذهب بقوته، وأسكن لونه شحوب القلق، وعينيه حزنا غريبا.

سألني وهو يرتدي سترته الرمادية: مابك لماذا تنظر إلي هكذا؟

ضبطت نفسي، لم أجبه.

كرر سؤاله بنبرة عالية هذه المرة، حدقت في وجهه، والصمت يلفني كثعبانٍ، اقشعر بدني وصورة أمي تمثل في خيالي باكية عندما ضربها وهي حامل، وقعت أرضا وهي تصرخ بصوتٍ فظيع هزَّ أركان الغرفة، رأيتها تتلوى من الألم ويداها ترتجفان فوق بطنها، حدجني يومها بنظرة ارتباك وهو يرفعها عن الأرض، حملها وخرج بها إلى المستشفى، ومنذ ذلك اليوم لم تعد إلى البيت، كان يصطحبني أحيانا لزيارة قبرها.

طال انتظاري لهذا اليوم يا قاتل أمي، سأخبرك بأنني رأيتك تضربها، لن أرحم شيخوختك، ولن أقبل منك اعتذارا بعد أن أفرغ ما في جعبة قلبي من أقوال في أذن قلبك القاسي. أطرق برأسه أرضا، وسألني للمرة الثالثة: مابك لماذا تحدق بي هكذا؟

قلت له: أبي لقد رأ ..

قاطعني رافعا رأسه نحوي وعيناه مغرورقتان بالدمع: لا تكمل، لن أقبل اعتذارك عن زيارة قبر أمك هذا اليوم، هيا بنا لقد تأخرنا.

أحسست زلزلة في عمق كياني، سمعت أصوات انهيار جسور، وهدير عاصفة تقتلع نبتة ما كانت تعرِّش في داخلي. للحظة كدت أسقط فيها فوق الأرض، بعضي  يصارع  بعضي، حقد وغفران، حزن وسعادة، هزيمة وانتصار، لم أدر ماذا أصابني، كنت تائها في مهب ريح هوجاء عصفت بي دون رحمة، أسبلت جفنَيَّ والدموع تغرق وجهي، وعندما فتحتهما كانت يد أبي تمسح عنهما ماء الألم، وابتسامة حنانٍ دافئة فوق شفتيه، وهو يدعو لأمي بالرحمة.

أحسست بالخجل منه ومن نفسي التي أتعبتني عشرين عاما.