قلب فقد الأمان

قلب فقد الأمان

 أمان السيد

 amounii@ hotmail.com

تعلقت بأطراف ثوبه الوارف كتلك الخيمة العنبية المعانقة سطح بيتهم الكبير..

في عينيه طمأنينة تأسرك، في لمسة كفيه و ضمة ذراعيه الناعمتين ما يجعلك تستكين وتهدأ مهما حوصرت بالضجيج والصخب..في جبهته رقة، وأنفه ذو إباء بعيد هو عن الكثيرين.. كل ما فيه يغرقك بحنان وعطاء لا مثيل لهما..

- ماذا ينتظرنا هذا المساء؟ أما زلت تذكرين أم نسيت؟

لم تكن تتخيل أن تكون تلك الكلمات آخر ما سينطقه في حياته ..

أجابته بفرح وشقاوة طفولية:

- طبعا أليس هو موعدنا لكل خميس "غدا تشرق الشمس"؟ أمن الممكن أن أتوه عنه، إنه مسلسلنا الذي ننتظره ونراه معا في مثل هذا اليوم من كل أسبوع ..

- لن تريه فقد حرمتك منه اليوم..

بضحكة خفية أجابها.. يريد أن يعابثها كما اعتاد دوماً.. ابنته المحببة إلى قلبه كانت.. فرحه بها كما لم يفرح أب بأنثى.. كان يردد أن الإنسان المحظوظ هو من يرزق ببنت تكون بكر أولاده..

ابتسامته المخبوءة تلك أضاءت بدعابة لطيفة على وجهه.. ألقت ظلالها على وجهها ونفسها وقلبها.. سبحت روحها بين السحب.. في سماء لا تعرف لها بدايات أو نهايات.. كان موعداً للقاء عودها عليه، وعداً مفرحاً ألفته كل ليلة خميس..

لم تكن تدري أنه الموعد الذي لن يأتي...

حملت حقيبتها الطفولية، وإلى مدرستها انطلقت خفيفة الخطا، ورفائف من الحمام تتبعها، تحط على كتفيها، وغيمة سارحة في الأفق ترمقها بصمت ينذر بالأسى..

مساؤها أقبل يغصّ بشمسه التي ألف رحيلها الهادئ في توالي الأيام.. لكنها لا تريد الرحيل هذه الليلة، وسفرها تصحبه قوافل من الحزن دامسة.. فلا القمر راغب في عناق الأفق، ولا النجوم تناثرت عقد جمان أضاء الوجود..

عادت تنتعل حقيبتها ثقيلة، ولا حمام يتبعها.. وحدها تلك الغيمة السارحة في الأفق ترمقها بصمت..

فوق سطح بيتهم الكبير خيمة العنب.. صعدت تشكو إليها.. استغربت عناقيدها قلقها، وكأن عدوى أصابتها :

لم طالت غيبته؟ هل تراه نسي لقاءهما الذي ينتظرانه معا في هذه الساعات؟...

سمعت قرعاً ملحاً على باب بيتهم.. طالعها شاب في عينيه شحوب، وارتعاش، وصدمة مكبوتة، وشفتاه تطلبان شيئا ًبعبارات متلعثمة .. لم تتبين هويته ولم تفهم ما يطلب.. لكنها في قرارة نفسها أحست أن أمراً عظيماً قد حدث..

شعرت أنها تفقد إحساساً جميلاً.. ينسحب، يغادرها، لا يستأذنها.. في غفلة ما.. يسرق منها الأشياء.. أجملها..

أيمكن لإنسان أن يُقتلع هكذا دون رحمة من طمأنينته.. من ألفته.. من عبثه الطفولي.. من حضن أب دافئ.. ولمسة تطوف بك إلى حيث لا شيء يوصف أو يقال..

انهال الحزن كثيفاً وجارحاً.. هي والسماء تعانقتا، وبخطوات سريعة.. مجنونة ولاهثة.. أخذت تدور تحتها؛ تحت خيمة العنب التي عاشرتها عمراً؛ حين تدرس.. حين تلهو.. حين يحلو لها تأمل الأفق، ومجموعة الدب الأكبر والأصغر... إلى أن فقدت السيطرة على كل شيء حين رأت خيمة العنب تتمدد لتتحول إلى قطعة خشب مسطحة يحملها شخصان واجمان يمددان فوقها جسداً مسجىً ارتسم على شفتيه وعد مخبأ..

عادت لتتعلق من جديد، لا بأطراف الثوب الوارف، بل بتلك الخيمة العنبية التي استطالت في طريقها إلى السماء حاملة معها جنازة لقلب صغير فارقه الأمان.

              

 أمان السيد

[email protected]

- قاصة وكاتبة سورية من مواليد مدينة اللاذقية

- حاصلة على ليسانس في اللغة العربي، كلية الآداب. جامعة تشرين

- دبلوم في التأهيل التربوي من كلية التربية - جامعة دمشق.

مذيعة سابقة في إذاعة صوت الوطن العربي الكبير – طرابلس – ليبيا.

- تعمل حالياً بالتدريس في دبي- دولة الإمارات .

- نشرت كتاباتهاالأدبية في العديد من الصحف والمواقع الأدبية الإلكترونية.