الفنان الموهوب ..
الفنان الموهوب ..
وجميلة الجزائرية ..
د . فاروق المناصير
كان ذلك في (رمضان) عام 2000م ، حينما أفطرت وذهبت للصلاة في السمجد ، وبعد رجوعي عرّجت على (سوبر ماركت) لأشتري بعض الحاجيات .
وجدت في (السوبر ماركت) البائع الخليجي وشاب مصري وهما يتجاذبان أطراف الحديث ، فعرّفني الأخ الخليجي بالشاب المصري وقال لي :
ـ إنه فنان موهوب ويعزف على آلة (الأورج) في أحد فنادق البحرين .
سألته عن اسمه فقال :
ـ اسمي (محمد) .
سألته : هل أنت متزوج ؟
فردّ عليّ الأخ الخليجي :
ـ هذا فنان وهو في كل ليلة يتزوج بامرأة أو بفنانة من العاملات معه في الفندق .
سألته : يا أخي (محمد) هل تُصلي ؟
فردّ عليّ بلهجته المصرية :
ـ كلا ، ما ركعهاش ولا ركعة . ـ أي ر أركعها ولا ركعة واحدة ، يقصد الصلاة .
سألته : أخي محمد هل فكرت يوماً أن تعيش على أطراف الدنيا وفي نهاية العالم ؟
سكت .. ولم يفهم سؤالي .
قلت له :
ـ لو افترضنا أنك تعيش بقرب مقبرة ، فهذه المقبرة هي في الغالب على أطراف المدن ، ومن يدخلها ميتاً فإنها له هي نهاية العالم . أليس كذلك ؟
قال : نعم .
قلت : وأنت في كل يوم تقف على شُرفة بيتك (البلكونة) وترى الناس يدخلون المقبرة وهم يحملون الجنائز ويخرجون منها ووجوههم باكية .
وفي ليلة أصابك (الأرق) فلم تستطع النوم فجلست تقرأ في كتاب ثم مللت ، فتحت (التلفزيون) ثم أغلقته بعدما أصابك الضيق والملل ، وحينها قررت الخروج إلى الشُرفة والتنفس بعمق في الهواء الطلق ، ولكن ما إن وقفت في الشرفة حتى لسعتك برودة الشتاء القارس ورأيت السماء مظلمة لا بدر فيها ولا قمر. عندها قررت النزول والخروج من البيت فوقفت خارج الدار، ظهرك لباب الدار ووجهك تجاه المقبرة نظرت إلى ساعتك ، فكانت الساعة الثانية والنصف .
فجأة ـ يا أخي محمد ـ ظهر أمامك شخص مخيف الطلعة ، مفتول العضلات ، الشرر يتطاير من عينيه وفي يده سكين قاتلة ، فقال لك :
ـ أعطني المال الذي في جيبك وإلا غرزت السكين في صدرك .
فأنت يا أخي محمد ، بدل أن تدخل بيتك وتقفل عليك باب الدار توجهت نحو المقبرة وبدأت تركض بين القبور، والشخص يطاردك ويركض خلفك ، وبين خطوة وأخرى تقف من فوق قبر من القبور وتلتفت إلى الوراء لعل (الشخص) هذا قد أدركك . وفي إحدى القفزات تعثّرت رجلك بشاهد قبر فانكببت على وجهك بكل قوة وعنف في قبر ضيق مظلم ومفتوح ، وإذا بيدين تضماك إلى صدرها بكل قوة وعنف .. وأنت في هذا القبر المظلم والضيق تشم رائحة الموت والموتى تأتيك من كل مكان .
أخي محمد .. أرجو أن تصدقني ما هو شعورك في هذه اللحظة وأنت في وسط القبر وتشم رائحة الموت وفي ليلة باردة جداً ومظلمة جداً وشخص يطاردك ويريد قتلك ؟
قال : سوف أموت حتماً أو أجنّ أو أشلُّ .
قلت : يا أخي محمد .. هل تعلم أن هذا سوف يحصل لك .. وأن هذا الأمر سوف يحدث لك ؟
قال : وقد انتابه الخوف والفزع .. أنا سوف يحصل لي هذا .. أنا .. أنا ..
قلت : نعم هذا سوف يحدث لك .. وسوف يحدث لي ولكل الناس .
قال : كيف هذا ؟
قلت : الشخص الذي ذكرته لك وأنه يطاردك قصدت به (ملك الموت) عليه السلام ، نحن نركض في هذه الحياة وهو يركض وراءنا فإذا حان أجلنا سلبنا أرواحنا وألقى بأجسادنا إلى ظلمة القبور وضيقها ونتنها . أما اليدان فإنهما شفيرا القبر حينما يضمانا ، وهي ضمة لا بد منها ، فقد مات الصحابي الجليل (سعد بن معاذ) فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد ، وقد صلى عليه سبعون ألفاً من الملائكة ، وإن منديلاً من مناديل سعد في الجنة خير من الدنيا وما فيها .. فلما وضعه النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه :
ـ لقد ضُمَّ ضمة ثم فُرّج عنه . وفي رواية : لو كان أحدٌ ناجياً من هذه الضمة لنجا منها سعد .
أخي (محمد) : لو متّ ودخلت في قبرك وجاءتك ملائكة ربك ، هل عندك إجابة سليمة وصحيحة وصادقة تُقنع بها الملكين في قبرك ؟
قال : لا .. وكلا ، وليس لدي إجابة ولن أستطيع أن أكذب عليهما .
قلت : لمثل هذا الأمر الخطير فليعمل العاملون .
سكت ولم يحر جواباً .. ووقفت صامتاً وكذلك الأخ الخليجي .
سألته : أخي (محمد) ، أيهما أهم وأولى في نظرك .. الأمر المهم العاجل ، أم الأمر المهم المؤجل؟
قال : بل الأمر المهم والعاجل ، لأنه عاجل ولا يمكن تأخيره .
قلت : سوف أعطيك أمثلة على الأمور المهمة والعاجلة ، وأمثلة على الأمور المهمة ولكنها مؤجلة.
قال : هات .
قلت : طالب عنده امتحان في الغد ، هذا أمر مهم وعاجل وعليه أن يُذاكر للامتحان .
تاجر عنده صفقة تجارية في الغد عليه أن يرتب أوراقه اليوم . وصحفي يريد أن يكتب مقالاً مهماً عليه أن يعده اليوم لينشره في اليوم التالي .
هذه أمور مهمة وعلينا القيام بها اليوم وليس غداً ، فإذا لم نقم بها تسببنا في حدوث مشكلة . ولكن ما حجم المشكلة ؟ إنها ليست بالكبيرة ، فهذا الطالب إن رسب فسوف يعيد مادة الامتحان وينجح . والتاجر يرتب أوراقه ويربح الصفقة التجارية ، وكذلك الصحفي يكتب مقالات أخرى وينشرها .
نعم إن الأمور المهمة العاجلة تسبب لنا مشكلة إذا لم نقم بها ، ولكنها في الوقت نفسه ليست بالمشكلة الكبيرة لأن هناك مجالاً (للتعويض ، والاستئناف وللعودة) والآن دعنا نرى الأمور المهمة والمؤجلة . تحديد هدفك في الحياة أمر مهم ، ولكن أكثر الناس لا أهداف لديهم فهم يعيشون على البركة والعفوية ، يوم بيوم ليس إلا .
والأمر الثاني المهم والمؤجل : إقامة علاقات صحية مع أناس مهمين في المجتمع من مثل رجال السياسة .. والاقتصاد .. والإعلام .. وعلماء الدين . هؤلاء بماذا تستفيد منهم ؟ هؤلاء تجلس إليهم ساعة أو ساعتين فيفيدونك بخلاصة خبرة حياتهم وتجاربهم .. ما إن تنفق عمرك كله قد لا تصل إلى ما وصلوا إليه وقد تحتاج أن تقرأ عشرات الكتب حتى تصل إلى ما وصلوا إليه .
هذا في الجانب المعنوي ، أما في الجانب المادي فإنك تذهب إلى هذا المسؤول أو ذاك ، فيرفع سماعة الهاتف ويقول للطرف الآخر: إذا جاءك (محمد) اقضِ حاجته حقق رغبته . فأنت في هذه الحالة مستفيد مادياً ومعنوياً . لهذا ـ يا أخي محمد ـ من يصاحب العظماء يصبح عظيماً مثلهم ومن يصاحب السفهاء يصبح سفيهاً مثلهم . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل ".
والأمر الثالث والمهم هو : إقامة علاقة قوية وصحيحة بالله تبارك وتعالى ، ولكن أكثر الناس إما علاقتهم بالله مقطوعة أو ضعيفة أو مؤجلة ، كأن يقول الرجل إذا جاء رمضان : سوف أبدأ أصلي ، أو تقول المرأة : إذا ذهبت إلى الحج سوف أتحجب .
والآن .. أيهما أهم أن يربح التاجر صفقة تجارية أم يقوي علاقته وصلته بالله ؟ هل تعرف لماذا ؟ السبب أن هذا التاجر إذا خسر صفقة اليوم يعوضها غداً ، أما إذا حلّ عليه الموت فليس هناك مجال للتعويض أو لاستئناف حياته من جديد .
وعندها سيقول كلمة ذكرها الله في القرآن سيقول : { قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت } [المؤمنون : 99] فيأتيه الخطاب الإلهي الحاسم والمبكّت : { كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } [المؤمنون : 100]
هذا التاجر الذي عاش ستين أو سبعين سنة وعلاقته مقطوعة بالله أو ضعيفة ، سيرى حياته أما عينيه وعلى فراش الموت وكأنها شريط سينمائي .
قال تعالى : { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد * ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد * وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد * لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ق : 19 ـ 22] ، لقد انتهى أمره وغابت شمس حياته وأوشكت على الأفول .
هذا التاجر سوف يحشر يوم القيامة مع بلايين البلايين من البشر، ومع الجن والوحوش والطير، { ونُزل الملائكة تنزيلا } .
حينها سيتذكر التاجر حياته السابقة في الدنيا ويقول : { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين } [الزمر: 56].
نعم .. لقد كان من الساخرين واللاعبين .. وها هو الآن يتقطع حسرة على تفريطه وسخريته ، ثم يساق إلى النار على وجهه ، وعند أبواب النار تسأله الملائكة وتسأل من هم على شاكلته باستغراب وتعجب : { ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين } [المدثر: 24 ، 43].
هذا ـ يا أخي محمد ـ هو مصيرك إن لم تتب وترجع إلى ربك . إن الأمور المهمة المؤجلة قد تكون أهم من الأمور المهمة العاجلة .
انتهى حديثي عند هذه النقطة وانصرفت إلى أهلي . غير أني رأيته بعد أيام قليلة في المسجد يصلي ، فسألته عن سبب حضوره وصلاته .
قال : أسئلتك السابقة حركت الإيمان في قلبي .
فأقمت معه صداقة وأخوة في الله .. ولله .
وبدأت أقدم له هدايا وأشرطة إسلامية وكتباً دينية ، فاستقام حاله وأصبح محافظاً على الصلاة في المسجد .وكان على علاقة بفتاة جزائرية اسمها (جميلة) .. علاقة حب ووعد بالزواج ، ولم تكن تصلي أو تلبس الحجاب واللباس الشرعي ، فقال لها :
ـ لن أتزوجك حتى تصلي وتتحجبي .
ثم أعطاها تلك الكتب والشرائط ، فتأثرت غاية التأثر وتحجبت وأصبحت محافظة على الصلاة وقراءة القرآن . ثم هي بدورها أهدت تلك الأشرطة لفتاتين مغربيتين تعملان معها في الفندق ، فإذا بهما تلتزمان وتتحجبان . وإحداهن لديها أخت تعمل مضيفة في (خطوط الطيران السعودية) جاءت إلى زيارتها رأت هذه الأشرطة فأخذتها معها إلى (السعودية) لتسمعها وتسمع زميلاتها . وبفضل الله أولاً وأخيراً ، فإن (36) مضيفة من (المغرب ومصر والأردن ولبنان) تحجبن .
لم تكلفني هذه الشرائط إلا مبلغاً زهيداً ولكنها في المقابل كانت سبباً في هداية كل هؤلاء النسوة ـ فلله الحمد والمنة ـ .
قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أي طالب : " يا علي لأن يهدي الله بك امرءاً واحداً خير لك من حمر النعم " أو كما قال عليه الصلاة والسلام .