صاحبة الحسن والجمال

د. فاروق المناصير

في مطلع القرن العشرين وصلت إلى (جزائر البحرين) الدافئة والجميلة ، أسرة يهودية مهاجرة من بغداد إلى (مملكة البحرين) ، هذه ـ البلدة ـ التي كان يطلق عليها بلد المليون نخلة ، وفيها عشرات العيون المائية العذبة في طول البلاد وعرضها ، بل وحتى في وسط البحر المالح المحيط بالبحرين ، حيث جمع الله النقيضين ، الماء المالح والماء العذب في مكان واحد دون أن يختلطا { وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجورا } [الفرقان : 53]

كانت هذه الفتاة في غاية الحسن والجمال وعلى مستوى عال من الثقافة والعلم ، فقد كانت تتحدث بأكثر من لغة ، كما كانت مطلعة على الثقافة العربية والإسلامية وعلى ثقافة الغرب ، ولها اهتمامات واطلاعات بالسياسة العالمية وخاصة بالمسألة اليهودية الصهيونية .

سكنت هذه الأسرة (اليهودية البغدادية) في عاصمة البحرين (المنامة) وفي منطقة (الحورة) على وجه التحديد .

عمل (الأب) في التجارة ، وفي تجارة الذهب على وجه الخصوص ، كعادة اليهود في كل زمان ومكان.أما (الأم والبنت) فقد عملتا في بيع الأقمشة المستوردة من شبه القارة الهندية ومن إنجلترا وإيران .

ولكن حدث ما لم يتوقعه (الأب والأم) فبعد سنوات قليلة من الهجرة إلى البحرين أسلمت هذه الفتاة ، واسمها (مسعودة شاؤول) وتركت دين آبائها وأجدادها .

لقد أسرها سحر (القرآن الكريم) وآياته البينات وروحه الإنسانية وعظمة تشريعاته ، وسمو أخلاقه وصفاء عقيدته . وقد شغفت حباً بسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه الكرام ـ كما كانت تقول دائماً ـ عندما يسألها أحد عن سبب إسلامها .

لقد شكل إسلام مسعودة صدمة عنيفة على الأب والأم ، فلم يكونا يتوقعا أن ابنتهما سوف تترك دين آبائها وأجدادها اليهود ، وهي التي تشربت (اليهودية) منذ نعومة أظفارها .

يومها .. كان عمر (مسعودة شاؤول) سبعة عشرة عاماً حين أشهرت إسلامها .

وقد حاول والدها ثنيها عن دينها الجديد وإرجاعها إلى (اليهودية) ولكنها رفضت وأصرت على (الإسلام) ، ولم ينفع معها الحوار والنقاش والمجادلة . فاستخدما أساليب الترهيب والتعذيب ، من ضرب بالعصي والكي بالنيران والحرمان من الطعام والشراب ، وتم حبسها في البيت أسابيع طويلة ، وهي صامدة وصابرة .

ثم جاءت مرحلة أخرى من الضغوط عليها ، حيث تم الاستعانة بالحاكم العسكري البريطاني في (البحرين) (تشالز بلجريف) لإقناعها بالارتداد عن الإسلام .

وحدثها (بلجريف) كثيراً عن ضرورة رجوعها إلى اليهودية ، وكان مما قال لها : كيف تتركين دينك ودين آبائك وتدخلين دين هؤلاء البدو المتخلفين الهمج ؟

هل مَسّكِ الجنون يا مسعودة ؟ أم أنها حالة مؤقتة وسوف ترجعين إلى صوابك ؟

أجابته : لقد آمنت بالإسلام واقتنعت بالقرآن وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، ولن أرجع عن ديني الجديد ولو تم تقطيعي إلى أشلاء وأجزاء .

حينها قال (المستشار) ـ وهذه هي تسميته الرسمية ـ : لا فائدة منها ، فقد سحرها المسلمون في البحرين .

والغريب أن مسعودة لم يَدْعُها أحد إلى الإسلام ، ولكنها قرأت القرآن لوحدها وتأثرت به غاية التأثر، فكان أن أعلنت إسلامها . كان ذلك أعجوبة من أعاجيب هذا الكتاب العزيز .

انتشر خبر إسلام (مسعودة شاؤول) في البحرين كلها ، وحاول بعض الناس زيارتها في بيتها ولكن والدها منع زوارها من الرجال والنساء . ووصل الخبر لحاكم البحرين آنذاك (الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة) الذي استدعى والدها لمقابلته في قصر الحكم . وهناك طلب منه الحاكم أن يتنازل الوالد عن ابنته (مسعودة) ليضمها الحاكم إلى بناته وحريمه معززة مكرمة ، وقد وافق والد مسعودة في نهاية المطاف .

وهكذا انتقلت (مسعودة) من بيت والدها (شاؤول) إلى قصر حاكم البحرين من أسرة آل خليفة الذي عاشت فيه عدة سنوات ، قبل أن يتقدم لها رجل من (عرب الهولة) فتزوجها ونقلها من جديد إلى منطقة الحورة التي خرجت منها بعد إسلامها .

ولقد رأيت الحاجة (مسعودة) وأنا طفل صغير في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي ، وكنت أنا وأصحابي من الأطفال نذهب إلى بيتها للحصول على الحلوى والشيكولاتة وبعض النقود التي تعطينا إياها الحاجة (مسعودة) وكانت حريصة وهي تعطينا هذه الحلوى أن تسألنا عن الصلاة في السمجد وعن حفظنا للقرآن الكريم ، فإذا رأت منا تقصيراً في أمر الصلاة امتنعت عن إعطائنا هذه الحلوى وتلك النقود ، مما نضطر في بعض الحيان إلى الكذب عليها ، فتقول : سوف أجعل زوجي (محمد) يراقب حضوركم إلى المسجد للصلاة .

لقد كانت دائماً تحثنا على تأدية الصلاة جماعة مع المسلمين في المسجد .

وما هي إلا سنوات حتى توفي زوجها الصالح (محمد علي أمين) وترك لها ثروة كبيرة ، خصصت جزءاً منها لتحفيظ القرآن الكريم والجزء الآخر للأيتام .

ذكرت لي جدتي لأمي (لطيفة) خبراً عجيباً عن مسعودة يوم إعلان قيام دولة إسرائيل 15 مايو   1948 ، حيث زارتها مسعودة وهي تبكي وتولول ، فقالت جدتي :

ـ لماذا تبكين يا مسعودة ؟ كان يُفترض بك أن تفرحي لقيام دولة لليهود في أرض فلسطين .

فقالت مسعودة :

ـ يا أختي لطيفة أنت لا تعلمين ماذا سيفعله اليهود بكم وبأهل فلسطين ؟

قالت جدتي :

ـ وماذا سيفعلون ؟

قالت مسعودة :

ـ (إنها مذبحة).

قالت (جدتي) :

ـ عن أي مذبحة تتحدثين ؟

قالت مسعودة :

ـ (هؤلاء اليهود انا أعرفهم جيداً إنهم ينوون أن يذبحوكم في فلسطين وسوف ترين يا أختي لطيفة صدق حديثي لك . وصدقت مسعودة فبعد أسابيع قليلة قام اليهود بمذبحة دير ياسين الرهيبة واستمرت المذابح إلى يومنا هذا .

ولكن مسعودة أردفت قائلة :

ـ (بعد سبعين عاماً سوف تكون المذبحة الكبرى لليهود على أيدي جند الإسلام .. ترى هل سأعيش حتى أرى هذه المذبحة الكبرى ليهود على أرض فلسطين .. أرجو ذلك ؟!)

وامتد العمر بمسعودة إلى أواسط التسعينات من القرن الماضي ، وكانت تكثر من الصلاة والصيام والصدقة وقراءة القرآن الكريم وكأنها كانت تشعر بقرب انقضاء أجلها .

وأنا أشهد للحاجة مسعودة أنها كانت ملتزمة بحجابها الشرعي من أول يوم أسلمت فيه وإلى آخر يوم من حياتها ، فقد كان لباسها الشرعي عبادة ولم تكن عادة ، ولم أرها قط منذ طفولتي بدون لباسها الشرعي الذي يسبغ كل بدنها من مفرق رأسها وإلى أخمص قدميها .

قضت مسعودة أيامها الأخيرة في دار المسنين والعجزة ووافاها الأجل في تلك الدار، وقبل وفاتها أوصت بثلاث وصايا : الأولى : أذكركم بالمحافظة على تطبيق هذا القرآن فهو شرفٌ لكم ولأبنائكم . والثانية : الله .. الله في أبنائكم ربّوهم على الدين .

الوصية الثالثة : أنا مسلمة ولست يهودية فأرجو أن تدفنوني في مقبرة المسلمين .

شهدت الشهادتين . وفارقت الحياة ، عليها رحمة الله .