أول الغيث
أول الغيث*
غرناطة عبد الله الطنطاوي
تعلن شركة الطيران عن وصول طائرتها القادمة من...
تهللت وجوه الأخوات وأولادهن واستنار وجها الأبوين بابتسامات غامرة، فرحين بوصول الأخ العزيز الغالي وزوجته التي تزوّجها في بلاد الغربة ولا يعرفونها إلاّ بالصور...
تعالت الضحكات والفكاهات الحلوة العابرة والقبلات الحارة.. همستُ في أذن أختي ونحن ننظر إلى أخينا وعروسه :
- تبدو السعادة على وجه أخينا والحمد لله، لابدّ أنّ زوجته طيّبة رائعة تحاول إسعاده ما أمكنها..
فردّت أختي قائلة:
- إن كانت كذلك فسوف نحبها ونضعها داخل رموش عيوننا...
بعد أيام عقدنا مجلس العائلة وقررنا أن نحتفل بعروس أخينا، ونجمع الأحباب والأصحاب ليتعرّفوا إليها، ويشاركونا فرحتنا بها..
أمسكت الهاتف لأدعو القريب والبعيد للاحتفال بهذه المناسبة السعيدة... والفرحة تغمرني، وتضفي على صوتي دفئاً شعرت به صاحباتي وحسدنني عليه، إلا أن إحداهنّ قالت لي:
- أرجو أن تكتمل فرحتك بعروس أخيك، ولكن حذار من أن تعطوها حجماً أكبر من حجمها فتشتطّ عليكم..
أحسست بقلق غامض من نصيحتها هذه، وخفت تلبّد الغيوم في سماء فرحتنا.
في اليوم الموعود تزيّنت زوجة أخي بأبهى زينة، وأجلسناها في صدر البيت، وتركنا العتبة لنا، إكراماً لها، وكانت حاملاً في الشهر السابع، ولأخينا الذي نحبّه ويحبُّه أولادنا من الأعماق.. بالغْنا في إكرامها وتوفير طلباتها، وكم كانت هي سعيدة فرحة بهذا الإكرام..
فجأة شعرت بالعطش، فقامت لتشرب الماء، وأنا وأختي الصغرى وأمي نحيطها بكلّ وسائل الراحة والسعادة، فهي أوّل كنّة تدخل بيتنا، وزوجها أخ طيّب القلب إلى حدّ السذاجة، لايعرف المراوغة، رقيق المعشر، كان صديقاً لنا أكثر من كونه أخاً كبيراً، وبعد أن روت ظمأها قفلت راجعة إلى مقعدها الذهبيّ، ولكنها فوجئت بأختي الحامل في الشهر السادس وقد أخذت مكانها، فقد تعبت من وقوفها الطويل، وهي تتحدّث بإسهاب مع إحدى صديقاتها فلم تنتبه لوصول زوجة أخيها...
وقفتُ مع زوجة أخي وأمي نتبادل الحديث والضحكات فعلّقت زوجة أخي على أختي قائلة:
- أختك الحامل في الطفل الخامس وتظنّ نفسها عروساً تأخذ أماكن العرسان..
ثم أردفت قولها بضحكة عالية لم تكن مناسبة..
انتهى الحفل على خير وانفضّ الجمع.
دخل أخي وزوجته غرفتهما الخاصة بهما، ثم ما لبث أن خرج وحاله غير الحال، فقد غاضت البسمة من شفتيه، وعلا وجهه الغضب والاستنكار...
سألته أمي عن السبب فانفجر قائلاً:
- أهكذا تعاملون زوجتي، وهي في أول زيارة لها..؟
ردّت أمي بانفعال شديد:
- ماذا حدث؟ لقد دخلت الغرفة معك والابتسامة تغمر وجهها..
ردّ أخي بحنق ظاهر:
- أتظل زوجتي واقفة على رجليها وهي حامل لتجلس ابنتك المصون؟
أجابت أمي والدموع في عينيها:
- ابنتي هي أختك يا ولدي.. أرجو ألاّ تنسى ذلك.. وهي حامل أيضاً مثل زوجتك، ولم تقعد سوى خمس دقائق بالعدد.. أمنْ أولها ستفتعل زوجتك المشاكل التي لا أصل لها...؟ اتّق الله يا بني… ولا تخضع لمعسول كلامها… حكّم عقلك قبل عواطفك.. كيلا يُظلم دربك.. فتتخبّط خبط عشواء بين زوجتك وأهلك.. فلا تنال رضى هذه.. وتقطع رحمك، فتخسر الجنة إذ لا يدخل الجنة قاطع رحم.
تبددت ملامح الغضب من وجه أخي... لتحلّ محلها ملامح الرضى والخضوع... وأقبل على يدي أمي يقبلهما معتذراً منيباً إليها، واعداً إيّاها ألاّ يعود إلى ذلك مرة أخرى.
*من مجموعة (صباح الصلبرين).