مروءة
م. محمد حسن فقيه
ليل داهم يطبق بحلة سوداء داكنة ، تزرع الوحشة في تلك البيداء المقفرة ، والرياح تعوي في الخارج وتزمجر بضراوة مخيفة ، والبرد الشديد يجمد الدماء في العروق وينخر الى مخ العظام ، والسيارة الفارهة تشق عباب الهواء كسهم موجه وتسابق الريح .
ما أشد جشعك يا ابن آدم ...... لا يملأ عينيك إلا التراب ، تبتعد عن الأهل والأولاد وتغترب مهاجرا ، ويفتح ولدك الأخير عينيه على الدنيا دون أن يلقى حوله أبا يفرح به ويحنو عليه ، ولا تكتحل عيناك برؤيته ، ولم يكن لك الرأي حتى في اختيار اسمه .
أكل هذا لأجل لعاعة من الدنيا ؟
ضغط بقدمه على مدعس البنزين كأنه يود الطيران بسيارته ، ليصل الى الأهل والأولاد بعد طول فراق ، همس في سره لعل ما حصل لنا أخيرا من طرد وترحيل كان خيرا ، رغم ما أصابنا من هم وغم ، وما تجشمنا من ضنك ونكد ، و ما حل بنا من خسارة مادية ومعنوية ، ثم أضاف معللا ، لعل النكد فيما أصابنا لا يعود الى الترحيل والطرد ، بل الى طريقة الطرد وأسبابها وأسلوب التعامل معها ......
ما ذنب الشعوب البائسة المسكينة التي تشقى وتكد لتحصيل لقمة العيش لأفراخ أضناهم الجوع ، وأرغمت آباءهم على الاغتراب ، الفاقة والعوز وضيق ذات اليد ؟.
ما جريمتهم أو جريرتهم حتى يرحلوا أو يطردوا مع الذل والهوان ؟ هل هي حضارة الانسان المعاصر ومحاولة خنقه لأخيه الانسان بلقمة الخبز وجرعة الماء؟ وكل ذلك لأجل كسب موقف سياسي ..... أو انتقام من نظام حكم آخر ، أو رد اعتبار !.
السيارة تعلو وتهبط وتنعطف تارة نحو اليمين وأخرى نحو اليسار ..... والولد الصغير الذي ولد في غيابه ترتسم له صورة جميلة وعذبة في خياله ، استمد خيوطها من الصورة التي أرسلوها له ، ومما كتبوه له في الرسائل عنه ، هيا بنا يا صغيري .... خذ هذه السيارة الصغيرة لك ...... وتلك الدمية .... لقد أحضرتهم لك ....... مالي أراك حزينا ؟ !
أهو إعراض عني أم عن اللعب ؟
لا تحزن لعلك شببت عن الطوق ولم تعد تروق لك وتفرحك مثل هذه الألعاب ، لقد أحضرت لك هذا المسدس الرشاش ، الذي يقذف بكتل النار واللهب مترافقة مع صوته الآلي الرنان ، كأنما هي موسيقى صاخبة رتيبة .
أما زلت معرضا عني ؟... إنني أبوك ..... ألا تصدقني ؟ !.
حمله بين يديه ، رفعه أمام وجهه ، مرغ خده وشعره الخشن المغبر بخد الطفل الناعم الأسيل ، انتفض الطفل بين يديه ، ضمه نحوه ، أغرق الصغير وجهه في رأس أبيه ، مال عليه وقبله من رأسه .
لا تقلق يا بني ، لن أبتعد عنك بعد اليوم أبدا ما حييت ، أفاق من حلمه اللذيذ ، أطلق آهة عميقة من صدره ، تمتم بشفتيه : رب ضارة نافعة .
همّ أن يضغط على مدعس البنزين إلا أن طبيعة المنعطف الحاد الذي أمامه حولت قدمه إلى المكابح . تمنى حينها لو أن لسيارته الفخمة مروحة أو محركا نفاثا يعمل بكبسة زر ، أو أن عفريتا من الجن يطير به مع سيارته فيجد نفسه في طرفة عين أمام صحن الدار بين الأهل والأولاد .
ضحك في سرّه لهذه الخاطرة ، ثم تابع سيره ينهب الطريق بسيارته العريضة الفارهة .
إن في القلب لشوقا إلى اللقيا ، وإن في النفس أبابة تمزق النفس وتعتصر الفؤاد .
ما أجملك أيها الوطن الحبيب ! وما أعذب الحنين اليك ! وما أسعد العودة اليك بعد طول غياب ! .
كان قلبه يخفق بين جوانحه ، وأساريره تنشرح ، وتفيض نفسه بسعادة غامرة ، كلما مر خلال قرية صغيرة ، أو تجاوز سيارة ، أو عبر جمعا من الرجال ، كلما مر ببيت تمثل في خياله صورة بيتهم الواسع الكبير الذي ترك فيه زوجته وأولاده مع أهله ، وكلما اقترب أوعبر مزرعة أو بستانا ، عاد بذهنه الى مزرعتهم وبستانهم الكبير ، وكلما لمح طفلا جثمت في ذهنه صورة جميلة لصغيره محمود .
أخرج لفافة تبغ وأشعلها ثم مضى يسابق الريح ، وهو لا يصدق أي ساعة سيصل فيها إلى بيته ، ويهنأ برؤية أهله
وأولاده .
في ظلمة ذلك الليل الشتوي الذي تجمدت فيه المياه وأرزت الأصابع ، ونخر برده الجاف إلى مخ العظام .
وتحت أضواء سيارته الكاشفة لمح شبح انسان على يمين الطريق يشير إليه ملهوفا .
المكان ناء والجو صقيع ، والوحشة تعم المكان ، والرياح تصفر بشدة ، تصور نفسه مقطوعا كحال هذا الرجل ، في بيداء مقفرة ، وظلمة ليل موحش ، ويوم شتوي أريز ، امتثل في ذهنه ما قرأه وسمع به عن إغاثة الملهوف ، ونجدة المقطوع ... كم ستكون فرحته لو أن سيارة توقفت جانبه تحمله وهو في تلك الحالة ، ودون كثير من التفكير ، ضغط على مشاعر قلبه التي اعتصرته ، وتجاهل الضيق الذي أحس به بين جوانحه ! .
خفف من سرعة السيارة ، ضغط على المكابح ، وقف على يمين الطريق ، ونظر بحذر - في المرآة - يراقب ذلك المسكين .... المقطوع ، وهو يجري كشبح وسط هذه المفازة تجاه السيارة .
السلام عليكم يا أطيب الناس .
وعليكم السلام ورحمة الله .... تفضل يا رجل .
دلف الرجل الى داخل السيارة يفرك بيديه من شدة البرد وينفخ فيهما ، وقد أصد الباب خلفه...... زاد الله فضلك وكثر من أمثالك يا خير الناس .
قال صاحب السيارة وهو يحرك مؤشر تحكم التدفئة نحو الأعلى : ما الذي قذف بك في هذا المكان المقفر في ظلمة هذا الليل البارد والموحش ؟.
أجاب الرجل ومازال صوته يرتعد من البرد: إنها الحاجة والضرورة .
ردد صاحب السيارة .... كم يدفع الانسان من ضريبة ذل وكم يلقى من المخاطر ويتعرض للنوائب ، وتحل عليه من المصائب لأجل الحاجة والضرورة .
أجابه الرجل : لعلك قد عانيت الكثير في سابق عهدك .
هز صاحب السيارة برأسه وهو يتطلع إلى الطريق أمامه دون أن يجيب .
نظر الملهوف إلى صاحب السيارة يمسحه ببصره من أخمص رأسه إلى مفرق قدميه ، لاحظ لهجته التي تغيرت قليلا متأثرا بلهجة البلد الجارة التي كان مغتربا بها .
هز برأسه وهو ينظر إليه : إنك مغترب ... كنت مغتربا أليس كذلك ؟
نعم يا صديقي .... لعنة الله على الغربة والحاجة التي دفعتني إليها .... ثم أضاف : باعد الله بيني وبينها بعد المشرقين .
إنني أشم من رائحة كلامك تحاملا شديدا على الغربة كأنك طلقتها ثلاثا ! .
ضحك السائق وهو يلتفت نحو صديقه ويهز برأسه ...... إن شاء الله .
أفهم من هذا كأنك قد صفيت جميع أمورك في بلاد الغربة ونويت العزم مصمما على العيش بقية حياتك في أرض الوطن .
هز السائق رأسه بالإيجاب ، ثم أردف سائلا : لعلك لم تجرب الغربة ؟
برقت عينا الملهوف وراحت تتفحصان السيارة بدقة ....
التفت إليه الساق وهو يقول : كأنك لم تسمعني أيها الضيف العزيز ؟
انتفض الملهوف مذعورا كأنما فوجئ بالسؤال ... المعذرة لقد سرحت قليلا .... عن أي شيء كنت تسألني ؟
- عن الغربة ، ألم تجربها ؟
وكأنما ألجم الرجل وقد فوجئ بهذا السؤال وأرتج عليه الجواب ....ثم خرجت الكلمات من بين شفتيه متعثرة باقتضاب : لا ، ثم راح يبحث عن سؤال ليخرج نفسه من هذا الإرتباك الذي حل به فجأة ، ودون أن يلفت ذلك صاحب السيارة ... وأخيرا نطق : ها ...... تكلم لي عن الغربة ... والاغتراب .
- الغربة قطعة من عذاب .... تعيش أيامك في شقاء دائم ، فأنت في بلاد الغربة أبتر ، مهيض الجناح ..... تعد سنواتك بالساعات بل والدقائق .... تتحمل الإهانة ، ترضى بالقليل .... ترى التمييز حولك في كل شيء.... ليس حسب الكفاءة ، معاذ الله ، فهذا آخر ما ينظر إليه ، إن اعتبر النظر إليه معيارا بالأصل ! ثم أضاف ... حياتك في قلق مستمر ، جسمك في بلاد الغربة وروحك متعلقة هناك في أرض الوطن عند الأهل والأولاد ، كيف حالهم ؟ ما أخبارهم ؟ ما حاجتهم ؟ لعل أحدهم مريض ؟ ماذا حلّ بهم ؟
قاطعه الضيف وهل عندك أولاد ؟
عندي ثلاثة أولاد أصغرهم محمود ولد بعد سفري بستة أشهر ، إنه أكثر من أشتاق لرؤيته ، وأتمنى أن تكتحل عيناي به اللحظة قبل التي تليها ..... لا أدري ما سر انجذابي وشوقي إليه أكثر من غيره ....
- إنه المدلل حتى يكبر .... سوف تراه قريبا وتشبع منه يا رجل .... بل وتملّه من كثرة دلعه وشقاوته عليك مع إخوته.
- بشرك الله بالخير يا رجل .
وبينما كانت السيارة تتسلق تلعة قاسية ببطء وتدور منعطفة نحو اليمين ، التفت السائق نحو الضيف ليسأله عن اسمه ، وبلده ، وعمله ، وقبل أن يتم سؤاله ، وضع الضيف الملهوف بشكل مفاجئ كلتا يديه فوق بطنه يضغط بهما عليه وهو يصرخ : أرجوك توقف لحظة ..... مغص شديد يقطع أمعائي .
لم يكلف ذلك صاحب السيارة إلا ضغطة بسيطة على المكابح لتتوقف السيارة على يمين الطريق .
قذف الرجل بنفسه من السيارة وهو يشد بيده على بطنه وصوته يجلجل خلفه .... أرجوك انتظرني لحظة ..... أرجوك ..... لا تسير وتدعني في هذا الظلام الموحش ..... سأموت من البرد إن فعلتها .... أرجوك .
تمتم صاحب السيارة مع نفسه .... وكيف أتركك يا رجل إنها الدناءة وقلة المروءة لو فعلتها ..... لقد أصبحت صديق سفري ، تؤنس وحشتي ، وتسلو وحدتي ، وتقطع بنا الطريق ، ثم ناداه بصوت مرتفع : كن مطمئنا يا رجل خذ راحتك ! .
أخرج صاحب السيارة لفافة تبغ وأشعلها ، وسرح خياله مرة أخرى عند الأهل والأولاد وتوقف عند محمود ، أما زلت
غاضبا مني ومعرضا عني ؟ .... ألن تقبل الهدية ؟ أعدك ألا أتركك بعد اليوم ، انبسطت أسارير الطفل ، ابتسم لوالده، مد يده ، أمسك بالهدية ، ضمها الى صدره ، حمله الوالد بين يديه ، طاف به يجري من الفرح جذلا ، تحرك شعره الناعم الأشقر ، لثمه من رأسه قبلات عديدة متسارعة ، قذف به في الهواء التقطه بخفة ، وضعه على الأرض منتصبا على قدميه لن أدعك بعد اليوم يا محمود .
وقبل أن يكتمل المشهد الأخير في خياله ، وقبل أن يتمتع بلذة الحلم الذي سحبه بعيدا، انتصب الضيف الملهوف جانب السيارة يمسك الباب بيده اليسرى ويشهر بيده اليمنى مسدسا.
شخص جديد أتى من عالم بعيد ، مكفهر الوجه ، جاحظ العينين ، متوتر الحركات ، يتكلم بصوت أجش كأنما شيطان قد تلبسه : إرم المفاتيح ، وانزع الجاكيت ، وابتعد عن السيارة ! .
انقلبت سحنة صاحب السيارة ، بهت لونه ، شده من الموقف ، ظن في البداية أنّ أفاقا انقض عليه من السماء ، لم يخطر له في البداية أن يكون هذا اللص الأفاق هو نفسه الملهوف الذي كان صاحبه قبل لحظات ، بل فكر أن يرفع صوته حتى يسمعه وينقذه من هذا المجرم ، لكنه والحقيقة – بعد أن أمعن النظر إليه - يراه ماثلا أمامه ، هو نفسه بعد أن تأمله وأنعم النظر فيه جيدا ، أجابه بصوت مرتعد : لا تمزح يا رجل ! .
- نفذ ما أمرتك به............ لقد انتهى دور التمثيل .
- اتق الله يا رجل .
- إنه الإنذار للمرة الأخيرة ..... نفذ ما أمرتك به ... وإلا....
أيقن صاحب السيارة أن الرجل لص مجرم محترف ، وها قد قالها له بعظمة لسانه بأن التمثيل قد انتهى ، وها هو يخيره بين حياته أو ماله ، أجابه صاحب السيارة وهويشير إلى المسدس : أبعد هذا الإبليس عني ..... ولك ما تريد خذ المفاتيح والحقيبة بغلة العمر ، وحصاد شقاء الغربة ..... كلها لك ......خذ ما تشاء ... خذ كل شيء ، لكن أبعد فوهة هذا الشيطان عني ..... أرجوك .
أيقن صاحب السيارة أنه أمام نموذج غدر فريد من نوعه ، قد جبل على الشر والإجرام طيلة حياته ، كأن قلبه قدّ من جلمود صخر، لا لحم ودم ، لا يعرف شيئا اسمه معروفا ، وما دخل قاموس حياته كلمة مروءة ، وما سمع عن شيء اسمه جزاء الإحسان ورد الجميل ، فضلا عن الإستغراق في الإساءة وإنكار المعروف ، وما وعى في حياته عن شيئ اسمه الضمير ....... أو الانسانية .
قذف له بالمفاتيح ..... مد يده ينزع الجاكيت ..... لم يمهله ذلك المجرم السفاح حتى ينزع الجاكيت ، عصرت يده على الزناد ، دوى صوت مرعب ، تقيأ المسدس وانهمرت الحبيبات الصغيرة ذات الرؤوس المدببة تمزق الأحشاء وتخترق العظام ، وارتد الصدى غاضبا ومزمجرا، يصفع أذني المجرم ويصك مسامعه ، كأنه يمنحه شهادة عالية في الخسة والدناءة والانحطاط ، وينذره برسالة تهديد و وعيد بالانتقام ، ويؤكد له إنتظاره بئس المصير .
لم يأبه كتلة الخسة والإجرام ، إلى قبح وشناعة فعله ، ولم تتحرك فيه ذرة ضمير أو احساس ، ولم يرمش له جفن .
هجم عليه ، نزع عنه الجاكيت ، ورمى به خارح السيارة على قارعة الطريق ، ثم تسلطن عل كرسي السيارة الفارهة
ومضى بها يسابق الريح إلى جهة محهولة .
* * *
تحت الأضواء الكاشفة لسيارة كانت تعبر الطريق ، في ذلك المكان ظهرت كتلة متكومة تتململ على طرف الشارع ، توقف صاحب السيارة وترجل مع صاحبه يستكشف الأمر، وما إن اقترب منها يتفحصها ويستطلع أمرها ، شعر بلزوجة ساخنة تبلل أصابعه ، التفت نحو صاحبه : ألم أقل لك ، لقد سمعت صوت إطلاق رصاص ...... مازال الدم حارا والرجل ينزف ، هيا احمله معي بسرعة لنمضي به إلى أقرب مستشفى .
وقبل وصولهم المستشفى بقليل ، تململت الجثة ... تحركت... صدرت منها آهات وهمهمات وأصوات ، كان بعضها مبهما ، وبعضها الآخر فهم بصعوبة : تركت له السيارة .... الفلوس .... كل شيء لكنه لم يكتف بكل هذا .. ثم لوى بعنقه جانبا وصمت .
هل عاد الرجل إلى غيبوبته أم لفظ أنفاسه الأخيرة يا ترى؟ .
* * *
تقدم أمير الرتل ، دعا صاحب المنزل ، خرج إليه رجل عجوز ، سحبه أمير الرتل جانبا ، همس في أذنه بضع كلمات على انفراد ، شدّ على يديه ، رجاه أن يكون مثالا في الصبر يحتذى .... وأن يحتسب الأمر عند الله تعالى .
أشار الأمير إلى بعض رجاله ، حملوا حقيبة كبيرة إلى داخل المنزل ، وأحضروا صندوقا خشبيا مغلقا لا يتجاوز طوله المتر ووضعوه أمام الرجل العجوز .
طلب أمير الرتل من الرجل العجوز راجيا أن يلتزم بتعليماته ، حتى تبقى صورة ولده في ذهنه مشرقة ، متألقة جمالا ونضارة وشبابا وحيوية ، وإلا حلّ محلها صورة أخرى مشوهة ، مؤذية قاتمة ، تبقى عالقة في ذكراه ، تنغص عليه وتؤرق خياله طوال حياته .
شدّ الأميرعلى يديه وهو يتمتم بعبارات العزاء ويحثه على الصبر واحتسابه عند الله تعالى ، وكذلك فعل باقي أفراد الرتل واحد تلو الآخر ، ثم انصرفوا .
همت دمعتان ساخنتان من مؤقي الرجل العجوز وتسابقت على خديه ، ثم رفع وجهه ويديه إلى السماء يدعو الله تعالى متوجها إليه من أعماقه ، بقلب خاشع ، ونفس مطمئنة راضية .
* * *
ما بال هذا العسكري يقدم للرجل العجوز هذا البلاغ : ابنك ابراهيم في المستشفى ، لقد اجتاز مرحلة الخطورة وعاد إليه وعيه ، وحالته الصحية الآن في تحسن مستمر .
وقد كتب في أسفل البلاغ ، اسم المستشفى وعنوانه ، واسم الجناح ، ورقم الغرفة ، ورقم السرير .
فرحة طاغية اجتاحت قلب الرجل العجوز ، وحلقت عواطف الأم في السماء وقد انهمرت دموع الفرح من عينيها كحبات اللؤلؤ ترسم خطين متعرجين جانب وجنتيها المتوردتين ، أسرعت نحو زوجها العجوز ...... ألم أقل لك بأني قلبي كان يحدثني بأنه ما زال حيا وأني سوف أراه ،إن قلب الأم لا يكذب أبدا ، رقص قلب الإمراة الشابة من الفرح ، ثم هرعت نحو الرجل العجوز أمسكت بالورقة تقرأها بنهم شديد وتنعم النظر في كل كلمة وحرف ، وقد تهلل وجهها بشرا ، ثم التفتت إليه تسأله وتستفسرمنه عن كل كلمة وحرف تفوه به العسكري، رفعت يديها الى السماء وقد اغرورقت عيناها بالدموع .
تذكر الرجل العجوز الشيخ الذي أتاه من فترة بسيطة مع مرافقيه ، ارتسمت علامات من الحيرة والقلق على وجهه......... تمتم في نفسه .......... هل هي مزحة ؟ ما أسخفها وأثقلها من مزحة لو أنه قد فعلها ، ولكن هذا لا يعقل ، ومن ثم ما أدراه بنا ، وكيف أتى بالحقيبة ؟....... والأموال؟.. والصندوق؟ ....
بل والسيارة؟ ......... لا............ إن في الأمر لسرا .
لم يطيقوا الانتظار للصباح ، استقلوا سيارة وانطلقوا جميعا إلى المستشفى .
انتظر الجميع في صالة الانتظار، عدا الرجل العجوز فقد دخل لوحده برفقة الممرضة ليتحقق من الأمر ، ركز العجوز نظره على الشاب الممدد على السرير ، انتابته رعشة فرح دق لها قلبه وسمع وجيبه ، امتلك نفسه قليلا ، إنه هو بشحمه ولحمه ، صاح بلا شعور ابني .... ابراهيم ، فتح الشاب عينيه ، رفع رأسه بصعوبة يريد الجلوس ، أسرع الوالد نحوه ، فتح ابراهيم ذراعيه يعانق والده ويقبل رأسه ، وقد نفرت الدموع من عيني الوالد واجتاحته فرحة عارمة ، وبعد أن هدأ كل منهما ، اتجه الوالد إلى ابراهيم قائلا : لقد قلقنا عليك كثيرا يا بني ...... ما الذي حدث ؟
تمتم الشاب بهدوء ..... إنه حادث .... قدر الله وما شاء فعل ..... الحمد لله على كل حال .
- ومتى وقع الحادث ؟ وكيف وقع ؟
- من أيام قليلة .
- ولماذا لم يخبرونا مباشرة بذلك ؟ .... ألم يعرفوا العنوان ؟
- لست أدري .
- ألم تكن بطاقتك الشحصية معك ؟
- تلعثم الشاب قليلا .. لا أدري لعلها قد فقدت مني بالحادث
- وأمتعتك أين هي ؟
- ربما هي في المستشفى ..... لست أدري .... لا شيء منها يستحق الحمل للبلاد .
- والسيارة ؟
- صمت الشاب قليلا ثم تمتم ... لست أدري .
- لعلها في التصليح ؟
- هز الشاب برأسه هزات خفيفة ، قد يفهم منها الموافقة على ما قاله والده وقد يفهم منها طي الموضوع إلى موضوع آخر ، دعنا الآن من هذا يا والدي ، سوف أشرح لك فيما بعد ، سوف تعرف كل شيء ، ولكن أمي
كيف حالها ؟ الأولاد ؟ أم الأولاد؟ محمود كيف صحته ؟ ألم تحضره معك ؟
أدررك الوالد ما يرمي إليه ابراهيم ، فأجابه : إنهم بخير يا بني ، جميعهم بخير، وكلهم في أشد الشوق إليك .
وأين هم ؟ ألم يحضروا معك ؟ محمود أليس معهم ؟
هز الوالد برأسه ........... بلى يا ولدي جميعهم حضروا معي ليطمئنوا عليك .... ومحمود معهم أيضا اطمئن .... إنهم ينتظرون بالخارج ..... لقد دخلت أولا لأطمئن عليك وأتأكد من الأمر ، والآن تريد محمود أليس كذلك ؟
لا......... بل أريد الجميع ، أمي ، زوجتي ، محمود ... والأولاد جميعا .
- هيا كفاك يا ولدي إن عاطفتك أقوى ما تكون نحو محمود ، لك الحق في ذّلك فأنت سمعت صوته ولم تكتحل عيناك برؤيته بعد ، لكن اطمئن ...... سترى الجميع .
غاب الوالد لحظة يبشرهم أولا ، ويطمئنهم ثانيا ، وبعد أن طلب منهم الانتظار قليلا مع الصبر وضبط العواطف لحظات قليلة ، خوفا عليه من الانفعال ، وخشية أن يؤثر ذلك على وضعه ، رضخوا للأمر مجبرين حفاظا على سلامته وقلوبهم تنتفض فرحا تكاد أن تقفز من صدورهم وجميعهم ينتظرون بفارغ الصبر ، ريثما يدخلون إليه وتكتحل عيونهم به ، وتتعطر أنوفهم برائحته .
دخل محمود يسحبه جده نحو والده ، فتح الوالد ذراعيه ، احتضن ولده الصغير، وهو لا يكاد يصدق ذلك ، هل هو في
حلم أم يقظة ؟ كم أنت كريم يا رب .
مرغ وجهه بشعره الناعم ، حمله وأجلسه على يساره ، وقع بصره على المسدس والسيارة الصغيرة التي كان يحملها .... ارتعد قليلا .... أعاد النظر اليهما كأنما يسترق النظر إليهما استراقا ، لاحظ الوالد ذلك ..... فسأله مالك تنظر إلى اللعب هكذا يا ابراهيم ؟ .
لا شيء .......لا ..شيء يا والدي ....كان بودي أن أشتري له مثلهما تماما ... ثم استطرد هاربا من أسئلة والده ، أمي .... زوجتي .... الأولاد ...... أين هم ؟
نادى الوالد عليهم دخلوا جميعا احتضنهم ، عانقهم ، قبلهم جميعا ، وبينما هم في غاية الغبطة والسرور يتملكهم ، والمفاجأة قد عقدت ألسنتهم ، بدأ يحدق بهم جميعا ، ألجم عن الكلام هو أيضا ، تولاه صمت مطبق ، ليس لهول
المفاجأة ولكن لسبب آخر، كان يحدق فيهم وما معهم ، ثم يعيد النظر ثانية وثالثة ، وينتقل بصره من الحجاب على رأس والدته ، إلى الحقيبة بيد زوجته ، إلى ملابس الأطفال ... ثم إلى لعب محمود ، هز العجوز بسبحته ، أفاق ابراهيم من شروده .... اصطدم بصره بالسبحة وحباتها المطعمة بالفضة ، وهي تطقطق بين يدي والده حبة فوق الأخرى ، صدمته المفاجأة لم يستطع إخفاء مشاعره هذه المرة ، انفلتت الكلمات من شفتيه ، نطق بلا شعور........... هي الأخرى أيضا ؟ !
أجاب الوالد : نعم هي الأخرى ... كان بودك أن تشتري لي مثلها أليس كذلك؟ !
وبعد لحظة صمت ووجوم خيمت على الجميع ، رفع الوالد رأسه نحو ابراهيم ...... إن سيارتك في التصليح ، وستعود إليك قريبا إن شاء الله .
نظر ابراهيم نحو والده يهم بالكلام ... وقبل أن يتكلم أكمل الوالد حديثه : وكذلك الأموال ... والحقيبة .... والوثائق ..... وكل ما فيها كاملة بدون أدنى نقصان .
ازدادت دهشة ابراهيم ............ رفع يديه ضارعا : الحمد لك يا رب .
التفت الوالد نحو ابراهيم : بقي سؤالا واحدا ، ولغزا يحيرني يا ابراهيم .
- وما هو يا والدي ؟
- المسدس الذي كان بسيارتك .
- إنه سبب وجودي هنا في المستشفى يا أبتاه ! .
- وكيف ذلك يا بني ؟
عندها قص لهم ابراهيم ما حدث معه بالتفصيل ، وبين لهم كيف قيض الله له ملائكة من عنده أنقذوه وأوصلوه إلى المستشفى ، كما شرح لهم سبب تأخير تبليغهم بوضعه بسبب حاله في المستشفى ، لأنه كان في غيبوبة ولا يوجد بحوذته أي وثيقة تثبت شخصيته أو تدل عليه .
خيم على الجميع صمت طويل ، ربت الوالد على كتف ابراهيم : إنها عدالة السماء ، تنتصر لمروءة أهل الأرض يا ولدي .... لقد انتقم الله لك من فوق سبع سماوات .
التفت ابراهيم يسأل أباه : كيف حدث هذا ؟ وكيف وصلت إليكم ؟ : أموالي ، حقيبتي، وثائقي..... كيف حصل كل هذا ؟
لقد عثروا على السيارة يا بني في الصحراء وقد اصطدمت بكتلة من الصخور وانقلبت على جانبها ، ولم يكتشف الحادث إلا بعد أيام من وقوعه من قبل رجال من عشيرة بني الحسن ، وما دلهم على ذلك إلا أسراب النسور والغربان والدبابير، تحوم وتروح جيئة وذهابا فوق جثة المعتدي الأثيم ... الظالم لنفسه .
- وظنوا أنها جثتي ؟
- وأحضرها لنا شيخهم في صندوق مغلق ، ورجانا ألا نفتح الصندوق لما حصل للجثة من ، تشويه بسبب نهشها من النسور والغربان وتحللها ، كما أحضر لنا معها الأموال ، والحقيبة ، والوثائق .... ونقل السيارة إلى ورشة لتصليح السيارات على حسابه .
- ودفنتموه في مقابرنا ؟
هز الوالد برأسه دون أن يجيب .
* * *
تجمهر الأقارب من أبناء العشيرة عند مدخل القرية لاستقبالهم ، وتهنئة ابراهيم على سلامته ، وعند مرورهم من جانب المقبرة التفتت نحوها أم ابراهيم وهي تقول : ما كنت أصدق بيني وبين نفسي بأنك قد مت ، كان قلبي يحدثني بأني سوف أراك ....... لا بد أن أراك .... إن في الأمر سرا لا بد أن يظهر...... انظر يا بني لقد جف الزرع الذي غرسناه فوق ضريحه ، كأنما أحرق بنار، رغم ما رويناه وسقيناه ! .
صاح الرجال من الخلف : هيا ننبش قبره ونذرو عظامه على المزابل للكلاب .
قال العجوز : صدق القائل : وعلى الباغي تدور الدوائر .
قذق ابراهيم صغيره محمود في الهواء ، تلقاه بيديه وشعره الناعم الطويل الأشقر يتطاير في الهواء ، أنزله على الأرض منتصبا على قدميه ، واتجه بنظره نحو الرجال : بل دعوه أيها الرجال ليبقى قبره عظة وعبرة ، وشاهدا حيا لكل من تسول له نفسه يوما بالغدروالإجرام ........ واغتيال المروءة.