رحلة هوائية
رحلة هوائية
محمد الحسناوي
عمر الإنسان – مهما طال – له نهاية ، ولكيلا تضيع البقية الباقية منه ، يجب أن تكون حياة ملأى ، بمعنى أن يعيشها الإنسان كما يرغب هو ، لا كما يرغب الآخرون .
حامد عبد الواحد اليوم بلغ السابعة والستين من عمره ، يتأمل عالمه الداخلي بحثاً عن حياة ملأى . عادة ألفها في سنوات عمره الأخيرة .
يتذكر الآن رحلة على (دراجة هوائية ) قام بها ، وهو فتى شاب لم يتجاوز الخامسة عشرة ، من مسقط رأسه ( جسر الشغور ) إلى مدينة ( اللاذقية ) .
كان ذلك في مطلع فصل الربيع ، حيث تشرق الشمس الدافئة ، كالمرآة الذهبية ، على التلال والمنحدرات المكللة بتيجان الثلوج ، فتجري حبيبات الماء العذب البلوري سواقي منحدرة مترنمة بالنشيد وبالحصى النضيد .
خمسة من الأصدقاء الفتيان : حامد ومعين ومصطفى وعبد السلام ومحمد تعاهدوا وتواثقوا على القيام برحلة جماعية ، كل على دراجته الهوائية ، من الجسر إلى اللاذقية . المسافة تستغرق تسعين كيلو متراً ، تتسلق دروب الجبال الشاهقة في أكثر مراحل الذهاب . رحلة تستحق المغامرة في حساب الفتية الخمسة .
صباح اليوم الموعود تساقطت وعود الفتيان واحداً واحداً ، ولم يبق مستعداً للمغامرة الحلوة غير حامد ومعين .
أصرّ معين العنيد على تنفيذ المشروع المغامرة ، على حين تعلل حامد بفوات الفرصة ، حين تخلى الآخرون رفاق الدرب ، وارتفعت شمس الضحى في السماء ، ولم تتخذ أهبة السفر من زوادة الطعام والشراب ، ومستلزمات الدراجة الهوائية لمسافة طويلة ، كأدوات النفخ والقص واللصق وما شابه ذلك .
معين من طبعه العناد ، والإصرار على القرار الذي يتخذه ، ولو كانت عاقبة قراره الهلاك . أما حامد فهو أقرب إلى (المسايرة ) ، ولاسيما في القضايا العادية . إنها رحلة يمكن تنفيذها ، ويمكن التخلي عنها ، كما يمكن انتهاز فرصة أخرى لتعويضها . هكذا تسير الأمور .
إذا اجتمع صديقان أحدهما ملحاح والآخر مساير ، فالنتيجة أن إرادة الملحاح سوف تمضي . وهكذا خرج الفتيان من أعماق وادي العاصي ، مع سطوع شمس الربيع العارية ، يتسلقان المرتفع الأول . بعد توغلهما في الطريق المتعرج الصاعد . . نزل كل منهما عن دراجته ليجرها جرّاً ، بدلاً من أن تحمله هي ، حتى بلغا القمة العالية ، كمن يخرج منتصراً من معركة .
في الحقيقة لم يستطيعا الفوز بسهولة ، لولا المحطات التي اتخذاها بين الفينة والأخرى . يقفان فيها أو يجلسان على حوافي الصخور الكلسية ، المغسولة حتى البريق بماء المطر والجداول الفضية ، ذات الخرير الأخاذ ، فيستنشقان الهواء البكر ، ويحدقان في ملاءات السحب الشفافة ، أو يرميان بنظريهما إلى السجاجيد الخضر ، التي تستلقي على السهول والمنحدرات بارتياح ، عابقة بأريج الأزهار البرية ، ثم يلهجان بعبارات الاستمتاع العميق :
- يا سلام ! أين أنت يا عبد السلام .
عبد السلام هذا أحد الأصدقاء الخمسة الذي تخلى عن الرحلة ، وهو أكثرهم تعلقاً بمشاهد الطبيعة : أزهاراً ومياهاً ونسيماً عليلاً بليلاً .
كلما قطع حامد ومعين شوطاً ، أو وصلا إلى محطة استراحة ، استأنفا تذوق الرحلة والاستمتاع بنعميات الطبيعة استمتاعاً مضاعفاً . يستمتع الواحد منهما عن نفسه أولاً ، وبالنيابة عن عبد السلام الغائب الحاضر المحروم منها ثانياً ، ويتخيلانه ، وهو يتشمم العبير ، ويتمايل مع النسيم ، تمايل السكران .
في كل مرة يكتشف الفتيان أنهما لم يخطئا حين قررا إنجاز الرحلة ، لما يصادفانه من ألوان الجدة في مفردات الطبيعة ، والنجاح في قطع المسافات ، لكن الرحلة كالحياة لا تخلو من منغصات ومفارقات . لقد اجتازا ثلث المسافة من غير طعام ولا شراب ، ولم يصلا إلى منطقة (القساطل ) ، حيث المقاهي والمطاعم والمياه المتدحرجة من أعالي الجبال . صارت العضلات التي تجر الدراجتين متعبة ، تنادي على الطعام ، ولا طعام . الطريق الأسود يمتد خالياً من البشر والعمران بين الجبال والصخور والحقول .
أخيرا اكتشف الفتيان بعض الأبقار ، يصاحبها شبح طفل ، يمكن أن يظن بأنه راعٍ لها ، أسماله بالية حائلة لألوان ، وشعره نامٍ شذرات متناثرة كالنباتات البرية باتجاهات مختلفة ، و وجهه ملوح بالشمس والهواء الخفاق .
- هل عندك طعام ، خبز ، ماء ؟؟
- ما عندي شيء .
- خذ نصف ليرة ، وأحضر لنا خبزاً من قريتك .
غاب الشخص الذي يسكن الطفل ، ثم عاد ببعض الأرغفة التي أتى عليها المغامران ، فاشتدت العضلات ، واستوى العمود الفقري ، وانطلقت الدراجتان كالسهم .
بعد استراحتين متتابعتين في (قسطل الشيخ نوري ) و(قسطل وادي الشيحان ) اضطر الفتيان من جديد إلى تسلق (طلعة السفكون ) ، وهي طريق طويل صاعد في جبال اللاذقية كالسلم ، يجران دراجتيهما كخيول منهكة ، ونسيم أشجار الصنوبر البري الطري يملأ خياشيمهما ، حتى مرّا بغابة البرتقال والليمون المطلة على ضفاف (النهر الشمالي الكبير ) ، فتتداخل أنسام الصنوبر بأنسام القداح ، فتتدافع حواس الشم واللمس والتذوق والخيال :
- يا سلام . أين أنت يا عبد السلام ؟
أخيراً وصل المغامران إلى مدينة اللاذقية ، والشمس منحدرة برأسها البيضوي على البحر الممتد ناعسة ، تتساقط حبات التعب من أهدابها الطويلة . لقد انتصر المغامران ، لكنه انتصار لا يختلف عن الهزيمة في العضلات والأوصال . البحر عميق واسع لازوردي شفاف ، والشمس لطيفة ساحرة والناس على الشاطيء تغدو وتروح بألوان زاهية ، وباعة النقل والمكسرات يصيحون على مشهياتهم ، لكن أين العيون الصاحية ، والحواس المتفتحة ؟؟ أجهزة الاستقبال دخلت في خدرٍ ، له ملمس شوكي .
لكي يعالج الفتيان ما ألمّ بهما من عناء التسلق والتدحرج ذهبا إلى حمام السوق ، ثم استسلما إلى نوم أهل الكهف في فندق ، وفي الصباح اكتشفا أن استكمال الرحلة إلى مدينة ( جبلة ) القريبة من اللاذقية غير وارد ، وأن تعجيل العودة هو القرار الأفضل . أهلهما الآن يبحثون عنهما .
كان طريق العودة أسهل وأسرع . ولما اقترب الفتيان من مدخل (جسر الشغور ) عصراً ، كان الناس يتوجهون إلى منتجع (اشتبرق ) الكائن في ضواحي المدينة البعيدة . قرية مقتطعة من الجبال والأنهار والحدائق والبساتين ، تجري من تحتها الظلال والثمار وواحات البلور المتماهي مع فُرُش النعناع البري العطري ، ذي الرائحة النفاذة ، حيث تتدلى أغصان الأشجار من حور وصفصاف ، كجدائل الشعر النسوي الطويلة ، تداعب مجموعات الرقص والغناء والشواء ، وحيث تَنصِب أشجار التين وعرائش العنب خيماً مسكونة بالأخيلة والأحلام . انعطف الفتيان في مغامرة جديدة ، وانغمسا في حشد المصطافين إلى (اشتبرق ) ، كأن شيئاً من السفر والتعب لم يكن ، وكأن روحاً جديدة دبت فيهما . عجيب هذا الإنسان ، كيف يعاني ، وكيف تنصرف معاناته ؟
هذه الرحلة الصبيانية تشغل مساحة خضراء بضة في ذاكرة حامد عبد الواحد ، يستعيدها كلما أراد أن يعوض عن الواقع الجاف الذي هو فيه . لكن التذكر شيء ، وتذوق الرحلة نفسها شيء آخر ، ومن لا يملك إلا التذكر فماذا يصنع ؟
ثمة رحلة أخرى ، قام بها حامد بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً من الرحلة الأولى ، لا تكاد تفارق مخيلته ولا أعصابه ، وهي الرحلة التي اجترحها مع صديق آخر لا يقل عناداً عن معين ، حين اضطر حامد إلى أن يعبر منطقة الحدود السورية شمالاً على قدميه ، هارباً بجلده .
الرحلة الثانية كانت في مطلع الربيع البكر أيضاً ، في طريق غير معبد ، وعبر الجبال الوعرة ، والأودية المخضلة بالخضرة اليانعة ، نفذها حامد برغبة كاملة ، وإرادة واعية ، خَبِرت الحياة حلوها ومرها طوال خمسين عاماً ، وهي جزء من حياته ، التي يعدها حافلة بالعزم والتصميم ، لكن أثرها في نفسه يختلف عن ذكرى الرحلة الأولى . هل لأن الرحلة الأولى كانت من جزء في الوطن إلى جزء آخر ، والرحلة الثانية كانت من الوطن إلى الغربة والتشرد والحنين والشوق ومرارات التذكر والتحسر ؟ أيُّ الذكريين هي الأفضل في ميزان الامتلاء والفراغ والضياع ؟
- بل ما أهمية الذكريات بعد سنّ السابعة والستين ؟
- أهميتها بالغة . تخيلْ إنساناً بلا ذاكرة ، بلا ذكرى !! الحياة كلها ذكرى ، وما الموت إلا رحلة من مراحلها ، لو ندري . وقد قيل : الناس في الحياة نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا .
- إذا كان الأمر كذلك ، فأي المراحل أهم ؟ ما قبل الموت ، أم ما بعد الموت ؟
* كاتب سوري عضو رابطة أدباء الشام