صفير الموت

صفير الموت

أديب قبلان *

[email protected]

احتلت  قطرات ماء لا يعرف عددها  ظلام ليل دامس واستقرت الشمس على  إحدى روابي القرية ، تمتد يد سمراء على صوت فيروز الناعم لتنادي عبدو مبشرةً بوصول الصبح بعد ليلة طغى  عليها المطر الذي غادر مع بزوغ الفجر .

" عبدو انهض صار الصبح " ينهض عبدو متجهاً إلى البحرة التي طوقها عقد من النباتات الجميلة ليغسل وجهه الممتلئ بالبهجة والسرور لخروج الفرنسيين الغاصبين من قريتهم بالأمس .

وبعد أن انتهى اتجه إلى طاولة عليها مائدة قوامها لبن وبندورة وقليل من الزيتون  " أوه .. ما أحلى العز " يقول لأمه " متى سترسلي لي زوادة الغداء " ترد عليه قائلة "الساعة الثانية عشر مع الصبي محمود " ثم يتناول لقيمات معدودة ويتجه إلى باب البيت قاصداً الخروج ، ويتجه إلى حقله مراً ببيت أبو محمود وأبو العز و دكانة أبو أسعد السمان المتجادل دائماً مع الزباين وأصواته تطرق أذنه لتدغدغه دغدغة أشعرته بالراحة ونقلته إلى جو من الفكاهة بسبب صوته الخشن الممتزج بشخير ناقص

" مرحبا أبو أسعد "

" أهلاً عبدو ، يبدو اليوم ما عندك طلبات للبيت "

" صحيح ، كيف علمت ؟"

" عادة يكون وجهك يطلب الطلبات قبل لسانك"

 يضحك عبدو ويضحك أبو أسعد .

وما أن قطع خمس دقائق من خروجه حتى التقى به محمد شعبان الدوخلي

" عبدو اليوم عندنا العشاء ترى الفرحة غامرة بيتنا "

" الله يجعلها دائماً غامرة قلوب المؤمنين ، خير "

"أرادت الوالدة أن تجمعني مع أصحابي بمناسبة خروج الفرنسيين، فلا تنسى "

"أكيد .. نشوفك عالصلاة "

وهو يعد خطواته  شق بصره الحمام المنتظر للطعام . " ما هذا لقد نسيت " .. ثم يعود مسابقاً ظله إلى البيت ويتناول كيس الخبز اليابس المجهز وينطلق  إلى الحمام وقبل الحمام بخطوات ..  يطير الحمام في ذعر سببه طلقة نارية خرق صوتها طبلة أذنه وحملته مع صوتها إلى تخيلات وتوقعات فظيعة .

إنهم الفرنسيون عائدون لقريتنا لم يلبثوا أن غادروها من قبل ، لقد أصبحنا عبيداً لهم ، ثم جمعوا الشباب وأوقفوهم في أشعة الشمس مدة طويلة ، بدأت النساء بالبكاء وبدأ الرجال بالانهيار كالبنيان القديم الهزيل .

ينادي رجل " يكفي خضوعاً لكم لقد أذللتمونا "

خرقت صدره طلقة نارية أسقطته صريعاً في بركة دماء حارة.

استمر وقوف الرجال والنساء أربع ساعات متتالية مما أدى إلى تذمر بعض سكان القرية حيث كان تذمرهم آخر نقطة توضع في حياتهم المحتلة. ثم يدخل قائدهم المتكبر الذي عرف بين أهل القرية بلقب  الدبر لشدة تزحزح خداه إلى الأسفل ، ويوجه كلمته إلى السكان المنهارين : " وصلتنا عنكم أخبار غير مطمئنة " .

وبدون ذكر التفاصيل بدأ الحرس بجمع الشباب وترحيلهم إلى ذاك المدى الغير منتهي ، رحلوا وعيون الناس تودعهم برموز غير محكية .وبعد غياب الشباب تعاهد أهل القرية على الأخذ بالثأر وكان أولهم عبدو الذي جعل بيته مركزاً لتجمعهم وكانت بداية تنظيم هذه الجماعة قتال عنيف غير متكافئ بين الفرنسيين والسوريين نتج عنه  خسائر كسرت ظهر الحملة الفرنسية وتتابعت المواجهات وكانت آخرها عملية استشهادية  لعبدو البطل وأصحابه الذين لم يجدوا لإنهاء الحياة أفضل من الاستشهاد بعد الحكم عليه وعلى رفاقه بالموت الأكيد .

" شباب قتال العدو مجاهدة والمقتول في سبيل الدفاع عن وطنه شهيد "

" نحن معك يا عبدو إلى النهاية ، دماؤنا على أكفنا حاملين لها بحاثين عن من يأخذها "

" ادعوا الله أن يتقبلنا فيمن عنده "

" والخطة كما يلي ....."

وبعد وضع الخطة باشروا تنفيذها و انطلق عبدو ورفاقه متحزمين  بأحزمة  كانت وسيلتهم الأخيرة إلى الجنة وإلى أكبر ثكنة فرنسية عسكرية ليحاصروها وينطقوا بالشهادة ثم ينادوا بأعلى أصواتهم " الله أكبر " ثم تتجه أرواحهم إلى السماء راضية ممتزجة بعطر الورد المصحوب بريح المسك لتخلد في جنات عدن .  

               

* أديب واعد عمره 16 سنة