الأَحْوَل
عبد الله عيسى السلامة
حين كان رامي في الثالثة من عمره، كانت أمه تلقبه، تحبُّباً "الأحَيْوِل"، فكان يمتلئ غبطة وسروراً، إنه يذكر ذلك جيداً، ويحس بنشوة كبيرة.. أما الآن! فالأمر مختلف.. لماذا؟
حين دخل المدرسة أول مرة، وجلس مع أحد زملائه في الصف الأول الابتدائي، على مقعد واحد، قال زميله ذاك للأستاذ: أستاذ انقلني إلى مقعد آخر.
فقال له الأستاذ: ولم يا بني؟
قال الطالب: لا أحب الجلوس بجانب هذا الأحول.
وفي الصف الثاني الابتدائي، قال زميل آخر، وضعه الأستاذ بجانبه:
أستاذ إن عين هذا الأحول تخيفني..
وفي الصف الثالث الابتدائي، قال زميل آخر:
أستاذ.. هذا الأحول يفسد علي كتابتي.
وفي الصف السادس الابتدائي، قال طالب لزميله، مشيراً إلى الأحول من بعيد: انظر إلى ذاك الأحول.. إنه يرمقني بطرف عينه، كأن له ثأراً عندي..
وفي الصف الثاني الإعدادي، احتجّ أحد الطلاب على أستاذه قائلاً:
أستاذ: لقد كانت إجابتي على السؤال أفضل من إجابة الأحول، فكيف تعطيه درجة أفضل من درجتي؟
وفي الصف الثالث الإعدادي، دخل المدير قاعة الامتحان، ونظر في وجوه الطلاب قليلاً، وقال لأحد الأساتذة: حوّل ذاك الطالب من مكانه، إنه ينظر إلى ورقة جاره..
وفي الصف الأول الثانوي، كان مدرس الأدب العربي، يقرأ قصيدة لجرير، فلما وصل إلى قول الشاعر:
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
قال أحد الطلاب مازحاً: أستاذ: حورٌ أم حولٌ..؟ فابتسم الأستاذ وانفجر الطلاب ضاحكين، ونظر الجميع إلى عين رامي.
وفي الصف الثالث الثانوي جرت مشادّة كلاميّة بينه وبين أحد زملائه، ثم انتهت.. وفي الاستراحة بين الحصتين، دخل الطلاب إلى قاعة الدرس، فوجدوا على السبورة ما يلي:
ح و ل = ل و ح
فقال طالب متعاطف مع الزميل الذي تشاجر مع رامي لزملائه:
من يحل هذه المعادلة الرياضية؟
قال زميل آخر متعاطف معهما: إنها بسيطة جداً، ولا تحتاج إلى عبقرية:
أحول = لَوْح.
وفي اليوم التالي، وجد الطلاب على السبورة، كلمات وحروفاً مكتوبة بخطوط كبيرة ومتنوعة الأشكال:
ح ل و/ و ل ح/ و ح ل/ و ل/ حال الحْول/ دار اللاعب حول الملعب/ حالت بيننا الحوائل/ تحولت الأحوال..
كان طلاب الصف يستطيعون تخمين اليد التي دأبت على كتابة هذه الأمور.. لكن الذين يستطيعون الجزم بذلك، قلّة. وكان رامي يخمن كالآخرين، إلا أن حدسه الشخصي، يدفعه إلى الترجيح، دون بينة أو دليل.. ثم ماذا يفعل، لو ملك البينة أو الدليل؟ السبورة ليست ملكاً له، ولا الطباشير، ولا أحرف اللغة العربية.. ولا يريد أن يظهر بمظهر الأحمق الذي يستثيره السفهاء باستمرار.. كما لا يريد أن يشعر الآخرين، بأنه يعاني من مركب نقص تسببه له عينه الحولاء.. لذا كان يلتزم الصمت دائماً، إزاء هذه الأمور، برغم إحساسه القوي، أن فاعليها يريدون استثارته دون أن يقدّموا أي دليل يدينهم، أو أي سبب يدفعه إلى زجرهم أو قتالهم عند الضرورة.
إن الشروح التي قدمها أستاذ علم النفس، في الصف الثاني الثانوي، حول العقد النفسية ومركبات النقص، وأسبابها، وطرائق معالجتها.. ما تزال واضحة في ذهنه، وما يزال يحاول الإفادة منها، في التغلب على محاولات السفهاء للعبث بأعصابه.. إنه إنسان سوي، ليس معقداً، ولا مريضاً نفسياً.. صحيح أنه يكره الحروف الثلاثة، الحاء، والواو، واللام.. إن أن هذا الكره، لا ينصب على الحروف ذاتها، بل على استغلال السفهاء لها في محاولات اللعب بأعصابه.. "هه.. هؤلاء السفهاء، يحسبونني معقداً نفسياً بسبب عيني الحَوْ.. عيني التي ليست كأختها.. لذا يتعبون أنفسهم في كتابة هذا العبث، ليستثيروني.. إلا أنني لن أستثار.. ولن أنظر إلى عبثهم هذا، بل لن أنظر حتى إلى السبورة.. سأطرق إلى الأرض.. أجل سأطرق إلى الأرض، لأريهم أني غير مكترث بحماقتهم، ولا تستحق مني مجرد النظر إليها.. بل يجب ألا أطرق، لأنني لو أطرقت، سيحسبونني خجلاً.. وأنا لست خجلاً.. يجب أن أنظر إلى أية جهة أخرى غير السبورة.. سأكلم زميلي علياً، ذاك الذي في آخر الصف، وأسأله عن أسئلة الامتحان المتوقعة.. وسأبتسم، لأوضح لهم أنني غير مكترث بحماقاتهم.. لأنني لو ظللت متجهماً فسيعتقدون أنيّ متأثر بما يفعلون.. بل ما المانع من أن أنظر إلى السبورة؟ هل من الضروري أن أنظر إلى سخافاتهم؟ إن السبورة كبيرة جداً.. يمكن أن أنظر إلى أية زاوية فيها، دون أن تقع عيني، بل عيناي، على حرف من حروفهم التافهة.. بل ما المانع من النظر حتى إلى حروفهم وكلماتهم السمجة؟ إني سأنظر إليها وأبتسم.. أجل أبتسم، لأريهم أني غير مهتم بسخافاتهم، وغير مكترث بها أدنى اكتراث.. نعم يجب أن أتحداهم، وأنظر إلى ما كتبوا وأبتسم.. بل يجب أن أطيل النظر، حتى أثبت لهم أني أتحداهم إلى أقصى درجة.. فمن هؤلاء الأنذال حتى يعبثوا بأعصابي..؟ هل يحسبونني معقداً نفسياً؟ هه.. ما أسخفهم..!".
بعد أن نال الشهادة الثانوية بدرجة عالية، بدأ يعد نفسه لدخول الجامعة. إلا أنه قرر أن يسأل طبيب العيون، عن إمكانية إجراء عملية جراحية لعينه التي ليست كأختها تماماً.. وزار الطبيب فعلاً.. إنها الزيارة الثالثة له. لقد كانت الأولى يوم كان في الرابعة من عمره حين صحبته والدته، والثانية حين أنهى المرحلة الإعدادية، وذهب بصحبة أخيه الأكبر.. وها هي ذي الزيارة الثالثة.. ترى، هل جد جديد لدى الطبيب، أم سيجيبه بالإجابة السابقة نفسها؟ "إن درجة الحول ليست كبيرة جداً تستحق المغامرة.. واحتمال نجاح العملية، لا يزيد على ستين في المئة.. وعينه لا تسبب له ألماً، ولا تعيقه عن إبصار شيء.. والتأثير الضئيل للحول على قراءته، لا يعدل درجة الخطورة المحتملة، فيما لو أخفقت العملية، لا سمح الله، وضاعت عينه، أو ازدادت تشوهاً.. لذا أنصح بعدم إجراء العملية، ولا بأس بوضع نظارة طبية داكنة قليلاً، بشكل يغطي انحراف الحدقة، ولا يضعف الرؤية.."
كان الباص الذي يحمله إلى عيادة الطبيب مزدحماً بالركاب.. هذا يحدث جاره، وذاك ينظر من النافذة، والآخر يتصفح جريدة.. أما هو فكان غارقاً في أفكاره وتأملاته: جواب الطبيب المحتمل، الجامعة، الفرع الذي سيلتحق به.. لقد جاء وحده هذه المرة، فلم يعد بحاجة إلى صحبة أحد من أهله.
كان رجلان مسنان يتحدثان في المقعد المجاور لمقعده، ويعقدان موازنات بين حالة البلد قبل أربعين سنة، وبينها الآن، من حيث تغير أحوال الناس، والمباني والأسعار.. وغير ذلك.. ولم يكن يعير حديثهما أي اهتمام فهو عادي جداً ومألوف.. ولا يدري بالضبط، لم التقطت أذنه من كلام الرجلين كله هذه العبارة التي قالها أحدهما: "حبيبي.. الزمان الأول تحول.." لقد اقتحمت العبارة أذنه بشكل اعتباطي فجّ، فبلع ريقه وظل صامتاً.. وفي المقعد الذي يلي مقعده من الخلف، قالت امرأة لزوجها الذي يجلس بجوارها: لقد خبرتني جارتنا أم سعيد، أنا جارنا السابق أبا مصطفى، فقد ابنه الصغير.
قال الزوج: أيّ ابن من أبنائه؟ لعلّه وليد ابن السنتين!
قالت الزوجة: نعم. لقد سقط من الشرفة فمات.. لقد انفلق رأسه و..
قال الزوج: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بلع رامي ريقه مرة أخرى، بعد أن سمع حوقلة الزوج.
* * *
لم يفاجأ بكلام الطبيب، حين كرر له الرأي نفسه، والنصيحة ذاتها.. إلا أنه صمم على مناقشة الطبيب.. يجب أن يناقشه.. يجب أن يبحث عن حل ثالث.. حل آخر يختلف عن الحلين السابقين.. إنهما خياران صعبان، ولا بد من خيار آخر يختلف عن "بقاء عينه كما هي.. أو تعريضها لخطر التشوّه الزائد أو الضياع.." إن علاج الألم هو استعمال الدواء أو الجراحة.. أفليس هناك علاج للحرج!؟ أجل إن عينه تسبب له حرجاً.. حرجاً كبيراً ومستمراً.. صحيح أنّه لا يعاني من مركب نقص.. وليس معقداً نفسياً.. إلا أنه يعاني من الحرج.. أجل لا بد من الصراحة.. لا بد من أن يخبر الطبيب بأنه يعاني من حرج..
كان ما يزال داخل غرفة العلاج.. حين تنحنح قليلاً وقال: ولكن.. دكتور، ألا تعتقد أن هناك مجالاً لـ..
وسكت..
قال الدكتور مستفسراً: إن هناك مجالاً لأي شيء يا رامي..؟ أكمل.
قال رامي: أعني.. أعني.. التخلص من الحرج.. إن عيني تحرجني يا دكتور.. تحرجني.
نظر الطبيب في ساعته، ليشعر مريضه أن وقته ضيق، ولا مجال لديه للكلام الزائد، ثم قرع الجرس، فدخلت الممرضة، وقال لها: (أدخلي صاحب الدور..) ثم التفت رامي قائلاً بجدية ورصانة: عملية. أو لا عملية يا رامي، ليس أمامك سوى هذين الخيارين. فالحوَل لا يعالج بالأدوية والمسكنات.. شاور نفسك وأهلك.. وعليك بالنظارات.. أرجو لك التوفيق.
خرج رامي من العيادة: وفي نفسه مشاعر شتّى.. إنه لا يعتب على طبيب العيون.. ولا يلومه.. فهو ليس طبيباً نفسياً، يداوي قلق النفوس، ويعنى بالمشاعر والأمزجة.. إنه مختص بالعيون.. بالعيون وحدها، دون ما تخلفه في النفوس من جراح وآلام..
رامي يعي مشكلته جيداً.. ويدرك بوضوح أنه يعي هذه المشكلة.. لكن ماذا فعل به هذا الوعي حتى الآن؟ وماذا يفعل به الآن؟ وماذا سيفعل به مستقبلاً..؟
إنه يدرك أن عينه ليست هي المشكلة.. ودليل ذلك، أنه لا يحس بأي حرج حين يكون وحده.. لأنه يعلم أنه ليس معقداً نفسياً.
كما أنه لا يحس بأي حرج حين يكون بين أهله.. لأنهم يعلمون أنه ليس معقداً نفسياً.. إن المشكلة الأساسية، عند الناس.. الغرباء.. الذين لا يعلمون أنه ليس معقداً نفسياً، وأنه لا يعاني من مركب نقص، أجل.. المشكلة عند الناس.. فهل يمكن أن يقنعهم جميعاً بأنه لا يعاني من مركب نقص، وأنه ليس معقداً نفسياً بسبب عينه التي ليست كأختها تماماً!؟
* * *
كان طالب وطالبة من زملائه في قسم الفلسفة وعلم النفس يسيران أمامه، ويتحدثان دون أن ينتبها إلى وجوده خلفهما.. فقالت الطالبة: أرأيت إلى ذلك الطالب رامي ما أذكاه؟ لقد أفحم المدرس حين ناقشه حول قضية الذكاء الوراثي والمكتسب..!
قال الطالب: ومن رامي هذا؟ إنني لم أحضر الحصّة التي تتحدثين عنها..
قالت الطالبة: آه صحيح.. نسيت أنك لم تحضر الحصّة.. ولكن كيف لا تعرف "رامي".
قال الطالب: نحن ما زلنا جدداً في الكلية، ولم يعرف بعضنا بعضاً تماماً.
قالت الطالبة: لا بأس.. رامي هو ذلك الطالب الطويل الأبيض، ذو الشعر الأسود، والبدلة الزرقاء.
قال الطالب ضاحكاً: إن في الصفّ ثلاثمئة طالب، نصفهم أو ربعهم في أقل تقدير يحملون تلك المواصفات التي ذكرتها..
قالت الطالبة باسمة: حسن.. سأعطيك صفة ليست موجودة لدى غيره.. إن عينه اليمنى حولاء.
قال الطالب بمرح: الآن جئت بالخبر اليقين.. لقد عرفته.
قالت الطالبة: إنه نعم الشاب لولا أن عينه..
قال الطالب: يا فتاح يا رزاق.. لم يمض علينا في الجامعة أكثر من أسبوع.. منذ الآن بدأ الاستظراف والاستلطاف..!
ضحك الطالب وزميلته، وتابعا سيرهما، بينما انعطف رامي إلى ركن في حديقة الجامعة، وجلس على كرسي خالٍ.. غارقاً في تفكير عميق.
* * *
دخلت مشكلة رامي طوراً جديداً في أعماقه، يناسب الطور العلمي والثقافي الذي وصل إليه في الجامعة.. إنه لم يعد الآن طفلاً في المرحلة الابتدائية، ولا يافعاً في الإعدادية، ولا شاباً مراهقاً في الثانوية.. إنه الآن طالب جامعي، في كلية الآداب، قسم الفلسفة وعلم النفس.. وهو مطالع نهم، ومثقف ممتاز.. يملك نباهة فريدة، وذكاء غير عادي.. ولا بد من أن يتعامل مع واقعه بطريقة مختلفة تماماً عما كان عليه في المراحل السابقة.. إن اختصاصه يفرض عليه مطالعات من نوع معين.. وإن ميله الغامض، إلى الدراسات النفسية بالذات، يزيده نهماً لمطالعة الكتب النفسية عامة، والكتب المتعلقة بالأمراض النفسية بشكل خاص.
وكان لا بد من فعل شيء ما، تجاه عينه.. هذه التي صارت أبرز أداة تعريف له.. كل مؤهلاته الفطرية والمكتسبة، لا تكفي أحياناً للتعريف به.. فإذا ذكرت عينه الحولاء، عرفه الجميع.
قال في نفسه: "يبدو أن النظارة لا بأس بها".
فجاءه صوت داخلي من أعماقه: "تريد أن تغطي عيبك.. ومع ذلك تزعم أنك لست معقداً منه، أيها الفيلسوف الغبي!؟".
هو: لا أريد أن أغطيه، فليس فيه ما يعيب، إلا أني أريد أن أتقي حر الشمس، وهذا من حقي.. فأشعة الشمس لاهبة، وليس غريباً أن يضع المرء على عينيه نظارة تقيهما حر الشمس.. فكثيرون هم الذين يفعلون ذلك.
الصوت: هذا في الصيف.. فهل ستلتزم بخلع النظارة بعد زوال الحر؟
هو: ربما.. ولكن لا شيء يلزمني بذلك، فأنا إنسان كامل الحرية، ألبس ما أشاء وأخلع ما أشاء.. ثم.. ربما أعتاد على وضع النظارة في الصيف، فيصعب علي التخلي عنها بعد ذلك.. والعادة طبيعة ثانية، كما يقول بعض العلماء.
الصوت: أنت تعلم جيداً أن هذه تسويغات سخيفة لتغطية عيبك.. وقد تستطيع أن تخدع نفسك بهذه العملية، إلا أنك لن تستطيع أن تخدع الناس..
هو: يبدو أن العملية انعكست، فالأصل المعروف، هو أن المرء يمكن أن يخدع الناس، لكن لا يمكن أن يخدع نفسه.
الصوت: هذا في الأصل.. أما حالتك هذه فمخالفة للأصل.. بل تستطيع أن تقول: إنها شذوذ عن القاعدة.. وبرغم هذا الشذوذ تزعم أنك سويّ، وأنك لا تعاني من مركب نقص.
هو: على كل حال، ليس في الأمر ضير.. ولا يحتاج وضع نظارة على العينين إلى كل هذه الفلسفة.
الصوت: إذن دخلت في دائرة التجاهل التام لمشكلتك، وهذا عين الهرب منها، وهو أكبر دليل على إحساسك بعمقها، وبالتالي أكبر دليل على قوة مركب النقص الذي تعاني منه.
هو: وماذا يمكن أن أفعل غير ذلك؟
الصوت: تواجه المشكلة بتحديها.
هو: أتحداها أم أتحدى الناس الذين جعلوا منها مشكلة؟
الصوت: المشكلة لا يمكن تحديها، لأنها لن تزول إلا بالعملية، التي قد تزيدها تفاقماً.. ولكن يجب تحدي الآخرين الذين جعلوها مشكلة.
هو: كيف؟ على طريقة الشاب المراهق ابن الثالث الثانوي؟
الصوت: أليس أمامك سوى تحديات المراهقين الساذجة.. أو هرب المتفلسفين الأغبياء..
هو: ما الخيار الآخر؟
الصوت: ابحث في دماغك، أليس رأسك مستودعاً للفلسفة وعلم النفس..!؟
هو: لا بد من عمل شيء ما.. لكن ما هو؟ لا بد من إقناع الآخرين بأن هذه ليست مشكلة.. وإن أصروا على أنها مشكلة، فيجب إقناعهم بأنها لا تسبب لي مركب نقص، ولا عقداً نفسية.. ويجب قبل ذلك، حجب الأمر عن الناس الذين لم يكتشفوه بعد.. فما الفائدة من تكثير عدد الناس الذين يرون أن عيني الثانية ليست كأختها؟
الصوت: حسنٌ.. ضع نظارة.. لكن لا تنس أبداً أن مشكلتك قائمة، وأنك تعاني من مركب نقص، وأن الناس سيظلون يتعاملون معك على هذا الأساس، حتى يثبت لهم العكس.
هو: لا بد من وضع نظارة.. ولا داعي لكونها طبية، فبصري سليم ولله الحمد.
الصوت: هذا يعزز القناعة لدى الناس بأنك تضعها لتغطية العيب، ويرسخ إحساسك أنت بالمشكلة.
هو: ذلك خير من أن تظل عيني مكشوفة
للناس، ينظرون إليها فيجدون أنها ليست كأختها.. فما ذنبي إذا كان الناس فضوليين
وثرثارين؟ ثم هل يجب علي احترامهم ومعاملتهم بصراحة تامّة ووضوح كامل، ما داموا
يملكون كل هذا الفضول، وكل هذه السخافة؟
الصوت: حسن.. انصرف الآن من مكانك، وضع في حسابك دائماً هذا السؤال: هل تعاني من
مركب نقص بسبب عينك التي ليست كأختها.. أم لا تعاني..؟
كان مدرس مادة علم النفس يتحدث بصراحة عجيبة، في محاضرته التي تدور حول "سيكولوجيّة المرضى وذوي العاهات".
وكان أكثر الطلبة، يشعرون بأنه يحمل مشرطاً حاداً، يشرح به النفوس بلا رحمة، ولا رفق..
قال المحاضر: "وهكذا يلجأ كل ذي عاهة
إلى التعامل مع عاهته، بأساليب شتى، أولها تغطية هذه العاهة، أو حجبها عن عيون
الناس، إذا كانت من النوع الذي يمكن حجبه.. وأهم وسيلة لحجب العاهة، هي التظاهر
بضدها، أو نقيضها.. فالإنسان القصير مثلاً، يحاول أن يبدو أمام الناس طويلاً، وذلك
بلبس الحذاء ذي الكعب العالي.. أما النساء فيلبسن الكعب العالي ويضعن على رؤوسهن
شعراً مستعاراً يحاولن أن يكون مرتفعاً فوق الرأس إلى أقصى حد يسمح به الذوق
العام.. وذو الوجه المشوه، أو المملوء بالندوب والحفر، يضع على وجهه أكبر كمية
ممكنة من الطلاء.. وذو الشعر القليل، يضع الشعر المستعار كي يغطي صلعه.."
رفع رامي النظارة عن عينيه بهدوء بينما كان المحاضر يتابع: "والذي في إحدى رجليه
تشويه، كنقص الأصابع أو زيادتها مثلاً، يحاول ألا يخلع جواربه أمام أحد أبداً..
وهذا مشكلته من أخف المشكلات، لأنه لا يحتاج إلى التظاهر بخلاف عاهته، أو بما
يناقضها..".
كانت أنفاس رامي تتردد في صدره بشكل أسرع من المألوف، وضربات قلبه أكثر من الحد الطبيعي قليلاً، إلا أنه يسعى جاهداً للظهور بمظهر عادي جداً.. نظارته صارت في جيب سترته الداخلي.. إنه لم يجد حاجة لوضعها في الجيب الخارجي أعلى الصدر، كما تعود أن يفعل.. كما أنه شعر في هذه الساعة، أن إخراج إحدى قائمتي الإطار خارج الجيب الذي في أعلى الصدر هذا، أمر لا معنى له.. ربما كان يناسب المراهقين الذين يعدونه نوعاً من الزينة الساذجة.. أما هو الناضج، فلا يرى لهذه الزينة قيمة. أما إذ كان صغر الجيب العلوي لا يساعد على وضع نظارة كاملة فيه، وعلى إخفائها بشكل جيد، فلماذا تهمل الجيوب الداخلية؟ وهل صنعها الخياط لمجرد العبث، أم للإفادة منها..!؟
كانت حواس رامي كلها معلقة في المحاضر.. بل لقد خيل إليه أن هذه الحواس جمعت كلها في كتلة واحدة، ذات طبقات عدة.. وأن أهم هذه الطبقات وأكبرها وأسمكها، معلقة في شفتي المحاضر وعينيه وحركات يديه.. أما الطبقات الأخرى، فبعضها معلق بالنظارة في جيب السترة، وبعضها معلق حول العين التي ليست كأختها تماماً، وبعضها موزع بين العيون المتطفلة والشفاه الماكرة لزملائه وزميلاته في الصف.. ولا سيما أولئك الأغبياء الذين نسوا كل أدوات التعريف اللغوية والاجتماعية، بل أراحوا عقولهم الغبية منها، واتفقوا بلا قصد، على التمسك بصفة واحدة يعرّفونه بها: "الأحول"..
أجل إن حواسه موزعة توزيعاً غريباً في هذه اللحظات.. وهو ينتظر أن يسمع من المحاضر، الحديث عن العيون، وما تسببه من أمراض نفسيّة..
لقد كانت اهتمامات رامي الداخلية، كلها تدور بين عقول الآخرين وأمزجتهم وعيونهم الماكرة وشفاهم الساخرة، ليحول نشاطات هذه العقول والأمزجة والعيون والشفاه إلى مجموعة من السهام، تنصبّ كلها في بؤرة واحدة هي عينه..
لم يخطر في باله، ولم يكن مستطيعاً أن يفعل العكس.. أن يركز أفكاره مثلاً، حول الأنف الضخم الذي في وجه زميله فلان.. أو حول الرأس الصغير والرقبة العجفاء لزميله الآخر.. أو حول السحنة المنفِّرة لزميلته فلانة، التي تصبغها بألوان شتى لتجملها.. أو حول القامة الطويلة النحيفة المقوّسة في أعلاها، لزميله الذي يجلس في آخر الصف، أو حول العرج الذي تعاني منه زميلته فلانة، التي لا تخرج من الصف إلا بعد خروج الجميع، وتدخله قبل الجميع كيلا يراها الآخرون إلا وهي جالسة..
لم يخطر في بال رامي شيء من هذا، برغم ذكائه ونباهته.. فقد كان مشغولاً بما هو أهم.. كان مشغولاً باهتمام الآخرين بنقطة ضعفه، فلم يتمكن من توزيع اهتمامه على نقاط ضعف الآخرين.. وكانت تكفيه نظرات قليلة إلى وجوه زملائه وعيونهم، التي تتلون وتتقلّب مع كلمات المحاضر.. ليجد أن الأمور مختلفة عما يتصوّره ويفكر فيه.. إلا أنه لم يفعل.. لم يخطر في باله أن يفعل.. كانت عبارات المحاضر، بمثابة حبل دقيق متين، كل شبر منه يشكل حلقة قاسية، تلتف حول نقطة ضعف معينة، أو مركب نقص معين، أو عقدة نفسية معينة، تلتف حولها لتعتصرها، وتعتصر معها قلب صاحبها.. وكل صاحب عقدة نفسية، يحاول أن يتقي اعتصار قلبه بأسلوب ما.. بالنظر حوله، أو الإطراق، أو البسمة المكابرة، أو التشاغل بتقليب أوراق الدفاتر، أو تأمل أظافر اليدين، أو حك الذقن.
وكان رامي يحس باعتصار قلبه تدريجياً.. شيئاً فشيئاً.. قبل أن يصل الدور إليه.. إلى عينه المختلفة عن أختها قليلاً.. ولذا، كان مشغولاً عن قلوب الآخرين، وعن الأساليب التي تعتصر بها. بل لم يكن يشعر أن هناك قلوباً تعتصر.. هناك قلب واحد فقط.. هو قلبه.
رامي يعلم أن المحاضر ذكي جداً، ودقيق الملاحظة، ونبيه.. إلا أنه لم يكن يتصوره على هذه الدرجة الممتازة من النباهة ودقة الملاحظة.. لم يكتشف رامي ذلك إلا الآن، حين انتبه إلى أن المحاضر، كلما تحدث عن عيب من عيوب الخلقة، نظر إلى ناحية ليس فيها أحد مصاب بهذا العيب.. فحين تحدث عن الصلع، نظر إلى الجهة اليمنى من الصف، لأن الطالب "فلان" الأصلع، يجلس في الناحية اليسرى.. وحين تحدث عن قصر القامة، نظر إلى آخر الصف من الخلف، لأن الصف الأمامي، فيه فتاة قصيرة جداً.. وهكذا.
يا لهذا المحاضر الغريب! يرمي سهامه النافذة، فيصيب العقد النفسية ومركبات النقص في البؤر القاتلة.. ويتحاشى ببراعة مذهلة، أن يصيب أي صاحب عقدة أو مركب نقص إصابة مباشرة.. لقد أتقن اختصاص العالم النفسي الذي يشرّح أمراض النفوس.. وأتقن مهنة الطبيب النفساني الذي يهتم بوقاية نفوس المرضى ومعالجتها.
مضى ثلاثة أرباع المحاضرة، ولم يتحدث الأستاذ عن العيون..! ترى، هل تجاهلها عامداً، أم نسيها، أم أرجأ الحديث عنها إلى محاضرة أخرى.. أم سيتعرض لها بعد فترة قصيرة من هذه المحاضرة..!؟ ترى هل أحس المحاضر بما يعانيه رامي؟ هل انتبه إليه حين رفع النظارة عن عينه بهدوء، ودسها في جيب سترته الداخلي بلطف، فأحس بالعطف والإشفاق عليه!؟ لم يكن رامي يجزم بشيء.. إلا أن المحاضر، قطع عليه سلسلة هذه الظنون قائلاً: ".. ونحن مضطرون لإرجاء الحديث عن بعض الأمراض، لضيق الوقت من ناحية، ولأهمية هذه الأمراض وحاجتنا إلى التفصيل فيها من ناحية أخرى.. وهذا كله لا يمنعنا من الحديث عن بعض العيوب الخَلْقيّة البسيطة، وعن الأمراض التي تخلفها في نفوس أصحابها، من مركبات نقص، وعقد، وانحرافات نفسية..".
وكان المحاضر ينظر إلى الجهة الأخرى التي لا يجلس فيها رامي.. فحاول رامي أن يستنتج من أسلوب المحاضر نوع الأمراض التي أرجأ الحديث فيها.. فأحس بنوع من الارتياح الداخلي.. كما أحس بشيء من حرية التفكير، يمكن أن يساعده على الملاحظة الموضوعية، ومراقبة آثار المحاضرة على وجوه الكثيرين من زملائه وزميلاته، برغم أنه لم يكن مطمئناً تماماً، إلى أن الحديث عن العيون، يدخل في الأمور المؤجّلة.
تابع المحاضر: "ولنتحدث مثلاً، عن عدم تناسق الملامح.. فنرى صاحب الفك الصغير، يسعى جاهداً إلى تغطية هذا العيب، بلحية أنيقة، يسميها بعضهم لحية فنية.. وهذه تختلف عن اللحى التي يطلقها المتدينون في وجوههم.. لأن صاحب اللحية الفنية نفسه يعترف بأنه غير متدين.
وفي الحديث عن عيب آخر نلاحظ أن المرأة المرهاء، أي التي ليس لجفونها أهداب، تضع أهداباً صناعية، تحرص على أن تكون طويلة وجميلة.
وهكذا نلاحظ: أن هناك عيوباً يمكن سترها بما يناقضها.. أي عن طريق التظاهر بضدها.. وهناك عيوب أخرى لا يفلح فيها هذا الأسلوب، فتُستر بحجبها عن عيون الناس بقدر المستطاع.. وهناك عيوب، لا يمكن أن تُستر أبداً.. فيلجأ أصحابها إلى الجراحة.. ولنضرب مثلاً: فلان من الناس، يحمل في وجهه أنفاً ضخماً جداً، لا يمكن إخفاؤه عن عيون الناس، كما لا يمكن لصاحبه أن يتظاهر بصغر أنفه.. فماذا يفعل؟ هنا يلجأ صاحب الأنف عادة إلى جرّاحي التجميل، لإزالة هذا العيب..".
كان المحاضر ينظر إلى غير الجهة التي يجلس فيها صاحب الأنف الكبير.. وكان لدى رامي شيء من حرية الفكر والمزاج، يساعده على المراقبة والتأمل، فنظر إلى الجهة التي فيها زميله ذو الأنف الضخم، فرأى هذا الزميل واضعاً يده على وجهه بطريقة توحي بأنه غارق في تأمل عميق، حريصاً على ألا يبدو أمام الآخرين، أنه يخفي أنفه عامداً، لذا مارس عملية حجب الأنف بأعلى درجة من الفنية والابتكار.
ابتسم رامي في أعماقه، وأحس بالإشفاق الشديد على زميله.. ثم تذكر جراحة التجميل التي أشار إليها المحاضر، وتذكر رأي طبيب العيون.. وتنهد..
نقل بصره في ملامح عدد من زملائه وزميلاته، فرأى أموراً تدعو إلى الرثاء:
زميله ذو القامة الطويلة المقوسة، شد ظهره إلى الوراء، مستنداً إلى خلفية المقعد، وعقد ذراعيه على صدره بقوة، لتبدو قامته منتصبة غير معوجة.. وزميله ذو الأسنان المشوهة والشفتين المنفرجتين دائماً لقصرهما عن تغطية الأسنان، يضم شفتيه بقوة متظاهراً بشيء من الجدية والرصانة، اللتين يناسبهما عادةً إطباق الشفتين.. وزميله الذي أصاب الصلع وسط رأسه يلمس بهدوء الشعر الكثيف المحيط بجنبات الرأس.. وزميلته ذات القامة المائلة إلى الشق الأيسر، أسندت ساعدها الأيمن إلى الطاولة التي أمامها، وأمالت جذعها إلى الجهة اليمنى، بطريقة تساعدها على إظهار قامتها طبيعية مستقيمة.. وزميلته التي في خدها الأيسر ندبة سوداء من أثر جرح قديم، جمعت قبضة يدها اليسرى، وأسندت كوعها الأيسر إلى الطاولة، ثم أسندت خدها المجروح إلى يدها المضمومة، فاختفى الجرح بين الخد وقبضة اليد، وعلى شفتي الفتاة ابتسامة حرصت صاحبتها على أن تشحنها بالثقة وعدم الاكتراث.
تابع المحاضر باسماً: "واسمحوا لي هذه المرة أن أضرب مثلاً على نفسي..".
اشرأبت أعناق الطلبة، وتسمرت عيونهم في وجه المحاضر.. الذي تابع كلامه قائلاً: "لقد أصيبت يدي اليسرى بكسر حين كنت صغيراً في السنة الثانية من عمري، ونجم عن هذا الكسر تشوه في رسغ يدي.. وصاحبني هذا التشوه سنوات عدة.. وكانت أمي تناديني بلهجة التحبب والتدليل: "يا كتوّع".. وكان هذا اللقب من أحب الألقاب إلي، وألطفها وأرقها جرساً.. لماذا؟ لعلكم تسألون: لماذا؟ الجواب ببساطة، هو: أن هذا اللقب كان يخرج من شفتي أمي مشحوناً بالحب والعطف ومشاعر الأمومة الصادقة.. ولما كنت بحاجة إلى الحب والحنان في تلك الفترة، كان هذا اللقب المشحون بهما حبيباً إلي، أثيراً لدي.. هذه واحدة.. أما الثانية، فهي أن هذا اللقب كان أهم ما يميزني عن إخوتي وأقراني، فكنت أحبه لهذا السبب أيضاً، لأنه أداة تميزني عن غيري.. والإنسان بطبعه يحب التميز كما تعلمون.. إلا أنني حين كبرت ودخلت المدرسة، وسمعت التلاميذ يعيرونني بلقب "الأكتع" تغيرت الصورة لدي تماماً.. فاللقب الذي كان مشحوناً بالحب ومشاعر التميز الفوقية، صار مشحوناً بالألم ومشاعر التميز الدونية.. وكلما تقدمت في السن، ازداد الاختلاف بين الصورتين وضوحاً.. تدليل الأم الذي كنت بحاجة إليه في الطفولة، لم أعد أحتاجه في المراحل اللاحقة.. لقد اختلطت بالمجتمع، وبدأت أحس بالحاجة إلى الاحترام، احترام زملائي في المدرسة، واحترام الآخرين من حولي.. وقد صار اللقب عيباً كامناً في شخصيتي، يفقدني احترام من حولي.. صار عاراً أعير به.. وبدأ يتشكل عندي بالتدريج، إحساس بمركب النقص، ثم بدأت أحس بالنفور من كثير من الناس، لا سيما الزملاء السفهاء في المراحل الدراسية المختلفة.. كان تلاميذ كل مرحلة يعاملونني حسب مستواهم العقلي.. تلاميذ الابتدائية، يركزون على عاهتي بشكل مباشر.. بعضهم يرفض الجلوس على طاولتي لمجرد كوني "أكتع" وبعضهم يطلب من الأستاذ نقلي من أمامه قائلاً: "أستاذ انقل من أمامي هذا الأكتع".. وهكذا.. أما في المرحلة الإعدادية، فكان بعض السفهاء يتغامزون من حولي، كلما أجبت إجابة صحيحة يبتسمون.. وبعضهم يهمس لجاره: "إن هذا الأكتع عفريت.. حل السؤال الذي عجز عنه جميع طلاب الصف"، وهكذا دواليك. وفي المرحلة الثانوية، حين صار لدى الطلبة شيء من الوعي الذهني، وصار لديهم قدرة على التعامل ببراعة مع حروف اللغة، كان بعض الخبثاء ينالون مني بصورة ماكرة، إذ يكتبون حروفاً مقطعة، إذا تم وصلها، دلت على لقب (أكتع).. وكان بعضهم يتفنن في صياغة الكلمات بطرائق ذكية.. تثير أعصابي، دون أن أملك حجة عليهم.. فما أكثر ما كنت أرى على اللوح أمثال هذه الممارسات الصبيانية: ك ت ع/ ك ع/ ك ت/ وأمثال هذه المعادلات الرياضية: ج د ع – ج د + ك ت= ؟ وواضح من هذه المعادلة كما ترون، أن إشارة الاستفهام هذه، حلت محل (أكتع).
ولقد كنت أتألم جداً لهذا العبث، بل كنت أحس بتمزق داخلي شديد.. لكني كنت عاجزاً عن فعل أي شيء. وقد تعجبون إذا قلت لكم إني كنت أكره عدداً من حروف اللغة العربية، وعدداً من كلماتها.. كل حرف قريب من حروف كلمة "كتع" كنت أنفر منه.. وكل كلمة قريبة من كلمة "أكتع" كنت أنفر منها.. حتى عندما أنظر في المعجم لاستخراج كلمة، فإني أتحاشى أن أمر على مواد لغوية مثل: "متع- كسع- كرع- قلع- رتع- قمع..." إلا إذا اضطررت إلى ذلك اضطراراً.. بل كثيراً ما كنت أرى بعض الحروف في أحلامي، مرسومة على السبورة أو الورق بخطوط شتى "كوفي- ديواني- رقعة- ثلث..." فأحس أنني في كابوس، وأفيق متهيج الأعصاب جاف الريق مضطرب المزاج..".
كان رامي مأخوذاً بحديث المحاضر، وكأنه يتحدث عن تجربته هو.. عن تجربة رامي نفسه.. ذكرته أحلام المحاضر بأحلامه.. ومشاعر المحاضر تجاه الحروف والكلمات بمشاعره.. و.. و.. لا فرق بينهما إلا في نوع الحروف: "ح و ل" و " ك ت ع".
بلع ريقه، بينما كان المحاضر يتابع باسماً: "وحين حصلت على الشهادة الثانوية، قررت التخلص من هذا العيب بأي ثمن.. بأي ثمن مهما كان غالياً.. كان الطبيب يحذرني من عدم نجاح العملية، ويضع نسباً لنجاحها لا تزيد عن الخمسين في المئة.. وقد أفقد يدي في حالة إخفاق العملية.. إلا أنني قررت بعد شيء من التردد، أن أجري العملية، ولتكن النتائج ما تكون.. لقد كانت المغامرة في نظري واجبة، فإما أن أتخلص من هذه العاهة، وإما أن أحتفظ بلقب "أكتع" عن جدارة.. وإلى الأبد..".
ضحك المحاضر، وضحك الطلاب.. وتابع قائلاً: "ونجحت العملية بحمد الله.. ودخلت الجامعة بيدين سليمتين.. ومرت السنون، ولم تترك لي من لقب "أكتع" إلا ذكريات.. وإلا ما ألمسه في نفسي من قدرة خاصة على الغوص في أعماق النفوس.. أعني نفوس المصابين بعيوب وعاهات خَلْقيّة.. لقد استفدت من تجربتي الشخصية كثيراً.. ولكني كنت قد دفعت الثمن غالياً قبل ذلك.. دفعته سفاً من صحتي النفسية.. ومن مشاعري.. ومن أعصابي.. ومن يدري؟ لعلي لو تريثت في إجراء العملية إلى اليوم، لما أجريتها أبداً.. لأنني الآن لا أعتقد أن إزالة اللقب تستحق المغامرة بيدي.. إنني أنظر الآن بمنظار مختلف... منظار عمره خمسة وستون عاماً.. مشحونة بكل حلاوة الأيام ومرارتها، وبكل بهجتها وتعاستها.. وما ندري ما الذي تخبئه لنا الأيام.. ونعود الآن إلى أصل الموضوع.. ونترك ما تبقى من الوقت للمناقشة.. فهل هناك أسئلة تتعلق بالمحاضرة؟".
رفع أحد الطلبة يده قائلاً: هل تسمحون دكتور بسؤال خاص؟
ابتسم الدكتور قائلاً: تفضل.. على ألا يكون محرجاً جداً.
قال الطالب: كيف كنت تغطي عاهتك قبل العملية؟
ضحك الدكتور والطلاب، وقال الدكتور: "هذا سؤال جريء وموضوعي في الوقت نفسه، وهو من صميم بحثنا.. وجوابي عليه هو أنني كنت، في أكثر الأحيان، أضع يدي (الكتعاء) في جيبي، كيلا يراها الناس".
قال طالب آخر: "هذا يعني يا دكتور أنك لم تكن تستعملها.. فهل كانت عاجزة تماماً عن العمل؟".
قال الدكتور: "لا. كانت ضعيفة إلى حدٍ ما.. وكنت أستعين بها أحياناً في بعض الأمور البسيطة غير المتعبة.. وطبعاً هذا لا يكون إلا في الحالات الخاصة عند الحاجة أو الضرورة..".
كان الطلبة المصابون بعاهات يحسون بشكل واضح، أن حديث المحاضر عن يده "الكتعاء" قد امتص كثيراً من مشاعر الألم النفسي التي يعانون منها.. وحررهم من كثير من التصورات والأوهام التي تعشش في نفوسهم.. لقد قام بعملية تنفيس بارعة، لما يعانيه المصابون بعاهات، من ضغوط نفسية هائلة.. إلا أن هذا كله، إنما هو أمر مرحلي مؤقت.. ونطاقه ضيق محدود.. ففي الجامعة آلاف الطلاب والطالبات، الذين لم يسمعوا محاضرة الدكتور، ولم تتأثر بها نظراتهم إلى أصحاب العاهات.. وفي المجتمع مئات الآلاف من البشر، الذين ينظرون إلى صاحب العاهة، نظرتهم إلى إنسان ناقص، أو عاجز، أو ضعيف، يستحق الإشفاق حيناً، والسخرية في كثير من الأحيان.. فالعاهات باقية في أجسادهم.. والمشاعر النفسية المريضة المصاحبة لهذه العاهات باقية كذلك، أو باقٍ أكثرها مما لم تستطع محاضرة الدكتور انتزاعه، أو معالجته. هذا فضلاً عن أن المحاضرة نفسها، رسخت من جهة أخرى، الإحساس لدى الكثيرين، بأن قضية مركب النقص قضية قائمة بشكل عام، وليست مجرد تخيلات عرضية.. إنها مرض نفسي حقيقي يصاحب العيب الخلقي، ويرتبط به ارتباط النفس بالجسد. ولقد كانت المشاعر مختلفة إزاء هذه الحقيقة..
أصحاب العيوب التي يمكن إزالتها بالتجميل، أحسوا ببعض الراحة والأمل اللذيذ الغامض.. واليائسون من قدرة الجراحة على تحسين أحوالهم، أحسوا بانقباض داخلي صامت.. وأولئك الذين تتراوح آراء الأطباء حول جراحتهم بين النجاح والإخفاق، كانت مشاعرهم قلقة، تراوح بين الأمل واليأس.
رفع أحد الطلاب يده قائلاً: دكتور.. هل يؤدي كل عيب خَلْقي بالضرورة، إلى مركب نقص؟
نظر الدكتور إلى الطالب، فلم ير فيه عيباً ظاهراً من عيوب الخلقة، فقال له: نعم.. إن هذا يحصل بشكل عام.. وهناك حالات استثنائية نادرة لا يقاس عليها.. إلا أن عمق الإحساس بمركب النقص يتفاوت من شخص إلى آخر، ومن مشكلة إلى أخرى، فليست كل العيوب بدرجة واحدة، وليس كل المصابين بعقلية واحدة ونفسية واحدة.. وهذا يجرنا إلى فكرة أخرى، وهي أن لدى بعض الناس صفات رائعة، تغطي بعض العيوب.
قالت إحدى الطالبات: هل يمكن أن تعطينا مثالاً على ذلك يا دكتور؟
قال الدكتور: لا بأس.. إن الجمال الرائع لدى الفتاة، يعد شفيعاً ممتازاً لقصر قامتها، أو غطاءً جيداً، في أقل تقدير لهذا القصر.. إذا لم يكن القصر مفرطاً.. إذ يبهر الناس بالجمال، فيشغلهم عن الاهتمام بقصر القامة، الذي يصبح أمراً ثانوياً، عندئذٍ. والبنية القوية لدى الرجل، وتناسق الجسم والملامح، والشكل المقبول نسبياً.. كل ذلك يغطي ما يمكن أن يكون لديه من عيوب خفيفة، كصغر الأنف أو كبره النسبي مثلاً.. أو ضخامة الفك غير المفرطة، أو ضيق العينين، أو.. غير ذلك من عيوب.. على أن يبقى ذلك كله في الحدود المقبولة نسبياً.
أحس رامي بشيء من الارتياح الداخلي.. فالحول في عينه ليس سيئاً جداً، وجسمه جيد متناسق.. وشكله العام مقبول.. بل أقرب إلى الوسامة.
قال طالب: ألا تعتقدون، دكتور، أن ما فطر عليه الناس من حب الكمال، يعد عاملاً أساسياً في إحساسنا بالخيبة أو النقص، حين لا تكون أشكالنا كما نريدها..؟
قال الدكتور: بلى.. أعتقد ذلك.. وحب الكمال هذا، نعمة أنعمها الله علينا نحن البشر، فهو يدفعنا إلى الترقي بشكل دائم عامة.. إلا أنه يكون نقمة أحياناً، حين ينقلب إلى مجموعة من الأوهام والتخيلات والأمراض النفسية.. فما دام الإنسان لم يخلق نفسه، ولا سبيل له إلى إصلاح عيوبه بجهده الخاص، فعليه أن يرضى بهذا الواقع، دون أن يشكل له ذلك عقداً ومركبات نقص.
قالت طالبة: فلو رضي عن واقعه، هل يجب أن يرضى الآخرون بالضرورة عن هذا الواقع الذي هو فيه؟ وهل سيظلون ينظرون إليه كما لو لم يكن فيه عيب؟
قال الدكتور: الرضى بالواقع يريح الشخص نفسه، ويدفعه إلى التكيف، أو إلى التعويض أحياناً. وعلى سبيل المثال: ليس ثمة داعٍ لأن يخطب رجل قصير أعرج، أو أسود.. فتاة رائعة الجمال.. يمكنه أن يخطب فتاة مناسبة له، تراه مقبولاً لديها، كما يراها مقبولة لديه، وإلا أوقع نفسه وغيره في الحرج، وهذا مخالف لمبدأ التكيف.
قال طالب: ألا يمكن، دكتور، اعتبار الصفة الخلْقية الرائعة، التي تحجب العيب الخلْقي نوعاً من التعويض؟
قال الدكتور باسماً: يمكن اعتبار ذلك، بشرط.
قال الطالب: وما هو؟
قال الدكتور: هو أن نقر بأن هذا النوع من التعويض، هو تعويض رباني.. أي لا يد للفرد في إيجاده. أما التعويض الذي يكون للفرد فضل فيه، فهو التعويض الذي يبذل فيه جهداً، ويسهم في صنعه.. وهنا تكون الصفة المعوض بها صفة نفسية غالباً، تتعلق بالخُلُق لا بالخَلْق، وبالمضمون لا بالشكل.. وهنا تكمن القيمة الحقيقية للتعويض.. فسقراط مثلاً، يعتبر من أعظم فلاسفة البشرية، وهو دميم الخلقة، كما هو معلوم.. والجاحظ كان قبيح الشكل، ومع ذلك استطاع أن يكون من أعظم أمراء البيان العربي، وبيتهوفن كان أصم.. وتمكن من ارتقاء أعلى درجات الإبداع في مجال الموسيقى.. والرافعي كان أصم كذلك.. وقد حلق في عالم البيان تحليقاً لم يتح مثله لأرباب الأسماع المرهفة.. وهكذا.. وهكذا..
قالت طالبة: أو لم يكن أولئك العظماء يحسون بالآلام النفسية نتيجة عيوبهم الخلقية دكتور؟
قال الدكتور: ومن قال إنهم لم يحسوا بالآلام؟ بل ما الذي جعلهم عظماء سوى الآلام؟
كان رامي يتهيب حتى الآن، من رفع يده، كيلا يلفت إليه الأنظار، خوفاً من عبارة: "انظروا الأحول"، أو من بسمة سخرية، أو نظرة إشفاق.. إلا أن جو المحاضرة، وما لاحظه على ملامح ذوي العاهات، وصراحة الدكتور.. كل ذلك أكسبه شيئاً من الجرأة، ليرفع يده فيسأل:
دكتور، هناك ظواهر تسترعي الاهتمام، منها مثلاً أن بعض ذوي العاهات، أو العيوب الخَلْقية، يمارسون أنواعاً من السخرية، فما تفسير ذلك، حسب رأيكم؟
قال الدكتور باسماً: صدقت، إن بعض ذوي العاهات يسخرون من أنفسهم، كالشاعر الحطيئة مثلاً، الذي كان قصيراً، مشوه القامة، قبيح الشكل.. كما كان الجاحظ يسخر من نفسه في كثير من الأحيان.. وطبعاً لذلك تفسيرات شتى، من أبرزها، وجود موهبة السخرية عند الشخص من ناحية.. ومن ناحية أخرى إحساس الشخص بأن لديه من نواحي العظمة، ما يجعله يتجاوز عيبه الخلقي، بل يتحدى هذا العيب، ويتندر به.. وهذا التحدي للعيب، الذي هو مصدر ضعف نفسي في الأصل، والتندر به، أو السخرية منه.. إنما تدل كلها على مظهر حقيقي من مظاهر العظمة.. ويندر أن يمارسه على نفسه إلا إنسان عظيم، أو يملك نوعاً من أنواع العظمة.
قال رامي: دكتور، هذه إجابة رائعة على سؤالي الذي فهمتموه على غير ما أردت.. إنما الذي قصدته، هو أن بعض ذوي العيوب أو العاهات، ممن ليسوا عظماء، يسخرون أحياناً من آخرين لديهم عيوب معينة.. ولأضرب مثالاً: قد يسخر شخص خفيف شعر الرأس، من شخص ظاهر الصلع، مع أنهما يشتركان في عيب واحد، تتفاوت درجته بينهما.. كما قد يسخر شخص طويل أعرج من شخص قصير جداً، أو بالعكس، أي أن القصير سليم الساقين يسخر من الأعرج.. وواضح أن العيب هنا ليس واحداً.. فما تفسيركم لهذه الظاهرة؟
قال الدكتور: هذا ما يسمى الإسقاط.. أي أن المرء يجد لذة وراحة نفسية في إسقاط عيبه، والتحرر من وطأة هذا العيب على نفسه، ولو لحظات.. ليمارس نوعاً من العدوانية المكبوتة، ضد شخص يرى أنه أضعف منه، أي يعتقد الساخر أن عيب المسخور منه أشد من عيبه هو.. فيدفعه ذلك إلى إفراغ الشحنة النفسية المتراكمة في أعماقه، التي تشكلت نتيجة سخرية الآخرين منه.. إلى إفراغها ضد هذه الضحية الضعيفة، أو التي يظنها ضعيفة.. هذا، مع ملاحظة أن الإسقاط إنما يكون عادةً في الصفات النفسية.. كأن يلجأ الكذاب إلى اتهام الآخرين بالكذب، أو اللص إلى اتهام سواه باللصوصية والخيانة، أو الجبان إلى وصف غيره بالجبن.. وهكذا.. أما الإسقاط في مجال العيوب الخلقية، فهو أن يمارس الساخر، إسقاط آلامه النفسية عن نفسه فيتحرر منها مؤقتاً.. ولا يعني ذلك إسقاطها على الآخرين.. وبإمكانك أن تسمي هذا النوع من الإسقاط، تنفيساً، أو تفريغاً، أو إطلاقاً لعدوانية مكبوتة.. أو ما شئت من تسمية تناسب الحالة.. فالمصطلح يكتسب اسمه من الممارسة.
قال رامي: لدي سؤال آخر دكتور.. وهو أننا نرى بعض ذوي العيوب، يميلون إلى مصاحبة أناس آخرين يشتركون معهم في عيوبهم، إنما بدرجة أشد.. فنرى مثلاً، شخصاً قصيراً يصر على مصاحبة شخص أقصر منه في بعض الحالات.. فما تفسيركم لهذا الأمر؟
ضحك بعض الطلبة والطالبات، واتجهت بعض الأنظار إلى المقعد الأول المقابل لطاولة المحاضر.. وحين نظر رامي إلى المكان، لفت نظره لأول مرة، وجود فتاتين قصيرتين، إحداهما قصيرة جداً.. فأحس بالحرج الشديد، حين رأى حمرة الخجل تعلو وجهي الفتاتين.. فاحمر وجهه كذلك خجلاً من سؤاله المحرج.
وابتسم الدكتور ابتسامة لطف وإشفاق، إلا أنه قرر تجاوز الموقف المحرج إلى الأمام.. فقال: يجب أن يكون واضحاً لدينا، أن القصر ليس عيباً خلقياً، وليس عاهة.. إنما هو حالة معينة قائمة بذاتها، يوصف بها جسم الإنسان.. وهي تختلف باختلاف المعايير والأشخاص والبيئات.. فهناك شعوب بأسرها لا يكاد الفرد منها يجاوز المتر ونصف المتر طولاً.. فهل نعتبر هذه الشعوب كلها مصابة بعيب القصر مثلاً؟ بالطبع لا.. كما أن الرجل الطويل جداً، يرى كل الناس بالنسبة إليه قصاراً، فهل هذا يعني أن عيب القصر يشملهم جميعاً؟ لا.. ثم لنجر موازنة بسيطة بين الشعب الألماني مثلاً وشعب الأسكيمو.. فماذا نرى؟ هل نقول إن ثمة عيباً خلقياً يشمل شعب الأسكيمو كله؟ لا.. لا أحد يقول ذلك.. هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى، لو فرضنا أن القصر عيب، وهو افتراض جدلي، فإن بإمكاننا القول إن الإنسان القصير يحب أن يرى نفسه طويلاً، ولو عن طريق التوهم.. لذا نجد أن مصاحبة القصير لمن هو أقصر منه، تمنحه هذا الوهم، أي الشعور بأنه طويل.. وعلى هذا الأساس يمكن تفسير هذه الظاهرة.. وهي في كل حال، تعزز مبدأ النسبية الذي أشرنا إليه قبل قليل.. فأنا قصير بالنسبة إليك، وزميلك ذاك، قصير بالنسبة إلي.. وهكذا.
أعجب رامي ببراعة المحاضر، وقدرته الفذة على التخلص من المواقف الحرجة، وعلى تخليص غيره من الحرج.. فأحس بأن قلبه يمتلئ حباً لهذا المحاضر، فضلاً عن الاحترام والتقدير. لقد أنقذه من ورطة.. كما أنقذ الفتاتين من حرج بالغ.. وقد أدرك رامي للمرة الأولى، أن انشغاله بعينه غير السوية، يحجب عنه رؤية ما حوله من مشاهد ومواقف وعلاقات، فلم يكن قد انتبه من قبل إلى أن الفتاتين متلازمتان أبداً.. كان خوفه من أنظار الآخرين وتعليقاتهم وابتساماتهم، يدفعه إلى أن ينسج حول نفسه رداء من الوهم، يختفي فيه عن عيون الآخرين.. أما الآن فقد اختلف الأمر.. لن يسمح لحول عينه بعد اليوم، أن يشكل حجاباً، يمنع الحولاء والسليمة معاً من الإبصار.. إلا أنه ما يزال يبحث عما يريحه.. ولا بد من أن يطرح سؤالاً آخر، يعتبره بمثابة سهم أخير في الدقائق القليلة الباقية من وقت المحاضرة.. فرفع يده ليسأل:
دكتور، ما أفضل علاج في رأيكم للمرض النفسي الناجم عن عاهة أو عيب خَلْقي؟
صمت الدكتور مستغرقاً في تفكير عميق، ثم قال:
هناك علاج واحد للحالات المستعصية.. أي العيوب التي لا يمكن التخلص منها بالجهود البشرية.. اشرأبت أعناق الطلبة، وحبس بعض الطلاب والطالبات أنفاسهم، تلهفاً لسماع اسم العلاج.. فجذب الدكتور نفساً عميقاً، وقال بجدية ورصانة وخشوع:
إنه الإيمان بالله.. أجل.. الإيمان بالله هو الدواء الوحيد لكل داءٍ لا دواء له.
صمت المحاضر.. وران على القاعة صمت خاشع، قطعه أحد الطلبة بقوله:
وما علاقة "الغيبيات" و "الماورائيات" بقضايا العلم يا دكتور!؟
نظر المحاضر إلى السائل نظرة إشفاق تحمل بعض معاني السخرية، وابتسم، ثم قال بهدوء:
لقد سألني عن دواء، فوصفته له.. فإن أحببت استعماله فلا بأس، وإن اعتبرته دواءً متخلفاً غير مجد، فأنت حر.. وإذا كان لديك دواء أنجع منه، فنرجو أن نعرف هذا الدواء.
أحس الطالب بالحرج.. وأحس الطلبة الآخرون بشيء من الغرابة في إجابة المحاضر.. لقد اصطدم تصورهم عن الجامعة بصفتها مؤسسة علمية، اصطدم بهذا الدواء البسيط القديم، الذي يتعاطاه الفلاحون في حقولهم، ورعاة الأغنام في بواديهم.. إلا أن المنزلة العلمية للمحاضر، وعمقه في الدراسة والتحليل، وثقافته الواسعة، وصدقه في التعامل مع الأفكار.. كل ذلك جعل الطلبة يلتزمون الصمت، دون أن يجدوا لديهم القدرة على الرد.. ودون أن يتمكنوا من تقديم بديل.
قال الطالب الذي تلقى جواب الدكتور الأخير: عفواً دكتور.. أنا لا أعترض على الدواء الذي ذكرتموه.. إنما أحب الاستفسار. الاستفسار فقط.
قال الدكتور باسماً: لا بأس.. وأنا أحب التأكيد على هذا الدواء.. وأنصح بتجربته، إلا أنني أذكر بأن هذه الأمور لا يلزم بها الناس إلزاماً، فمن أحب أن يجرب هذا الدواء، فلا بأس، وأظنه سيستفيد منه أشياء كثيرة دون أن يخسر شيئاً. ومن وجد دواءً أنجع منه، فأرجو أن يخبرني.