انكسار

انكسار

لبنى ياسين

[email protected]

كان يسير الهوينى على شاطئ البحر المعتم , و قد لمت الشمس ضفائرها النارية و أقلعت باتجاه عالم آخر , بينما أرخى الليل سدوله مبتلعا فضاءات الأضواء المتلألئة من بعيد , لم يكن ثمة هناك في هذا الليل الموحش سوى أصوات تلاطم الأمواج المنتحرة على الشاطئ منذ الأزل , و هو ينتزع قدميه  انتزاعا بطيئا من لجة الرمل و يدفعهما للأمام بآلية كئيبة كئيبة , كل ما حوله  يوحي بالحزن ... بالكآبة... بانتحار الفرح ... بصلب السعادة ... انه موت ... موت مطبق على كل نفس من أنفاسه المتحشرجة بألم هروبا من صدر مثقل حد الثمالة بالحزن ,تذكر فجأة كلمات أمه (لا تمش على الشاطئ وحدك في الليل فلربما أتتك جنية الماء و أخذتك إلى عالم آخر لا عودة منه) , ابتسم في نفسه ابتسامة مرة , مرة تماما كالحنظل ... قال في نفسه ... أين هي ... لم لا تأتي و تنهي كل فصول المأساة التي أحياها ... لماذا عليها أن تكون أسطورة ! أسطورة فقط, و ابتلع ريقه ممزوجا بآه محرقة و هو يتذكر انهيار أحلامه دفعة واحدة ... أعليه أن يدفن أحلامه و هو ما يزال في ريعان الشباب؟ ... ماذا ترك إذا للكهولة؟ ... أين أنت أيتها الجنية .. لم لا تأخذيني بعيدا حيث لا خيبات و لا انكسارات و لا هزائم ... لم لا تنتشليني من الدنيا و تغرسينني و أحلامي في عالم آخر ... و بينما هو يسير بتراخٍ تام أصابه نظرا لانعدام الدافع و الاكتراث بأي شئ حوله ... ارتطم جسده بشيء ما ... جسد ما ... كانت صبية رقيقة التكوين ... لم يتبين ملامحها جيدا توقف  قليلا نظر إليها , شعر أنها تبادله النظرات و أحس أنها مثله تماما... ضائعة... حزينة... منكسرة... مهزومة ... قال لها من أنت ؟؟ لم تجبه سألها ... ما بك ؟و لم يحر جوابا منها... أضاف لم تسير فتاة مثلك وحيدة في مكان كهذا و في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل ؟... ظلت تنظر إليه دون أن تنبس ببنت شفة ... ثم استدارت فجأة و مشت باتجاه البحر ... سار وراءها مسلوبا من نفسه ... اندفع الماء البارد داخل حذاءه , إلا انه لم يفق مما هو فيه , نظر إليها كانت تتابع مسيرها داخل الماء دون أن يهتز لها جفن جراء اندفاع الماء البارد مخترقا خلايا جسدها الرقيق ...لم يوقفها صوته و هو ينادي توقفي ... ماذا تفعلين ؟؟  هل جننت ؟؟ ستغرقين.

 و لأنها لم تجبه .. وجد نفسه مضطرا للسير خلفها ... لن تكون فتاة صغيرة رقيقة اكثر منه شجاعة حتما .

 انكسرت الأمواج عن أعلى ساقيها بينما كانت لا تزال تعانق ركبتيه ... سارع خطواته وراءها عله يستطيع الإمساك بها , و كأنها أحست بخطواته وراءها فسارعت خطواتها اكثر ... غاص خصرها الدقيق في برودة الماء ... صمم أن يمسكها قبل أن توغل اكثر ... دب به الحماس فجأة و تعجل إيقافها ... لكنها كانت تسبقه بخطوات تتسارع كلما تسارعت خطواته ... كمن يلاحق سرابا ... لم يعد يرى منها سوى الرأس يمشي على حافة ماء البحر ... فقرر أن يسبح وراءها ... لن يسير سيرا كما تفعل ... عله يمسكها قبل أن تغرق ...هذه المجنونة لا تدري ما الذي هي مقدمة عليه ... كان سباحا ماهرا لم يسبق لاحد أن سبقه , سيعود بها ... حتما سيعود بها ... فكر في نفسه : لا بد إنها اكثر حزنا و انكسارا منه حتى تقدم على هذا دون أن يبدو عليها  أي تردد و لا خوف ... الفتيات عادة يخفن من الظلام و من البحر ... لا بد إنها مهزومة حتى ذلك الحد الذي لم تعد فيه تحسب حسابا لأي شئ... وهو الذي  كان يظن مخطئا  انه الأكثر انهزاما و حزنا في العالم كله ...

في الصباح رمت الأمواج إحدى فردتي حذاءه على الشاطئ الذي حمل آخر آثار قدمين... وحيد كان صاحبهما و هما تتركان آثارهما على الشاطئ بصمة حزن و انكسار.