ولهان والمتفرسون
ولهان والمتفرسون
إبراهيم عاصي *
كانوا ثلاثة .. وثلاثتهم فارغون ، لقد حسدتهم الأيام ، وطعنت بهم السن ، وجمعهم هذا الركن الهادئ المنزوي في مقهاهم الشعبي المفضل ، (مقهى السرور) ، كما جمعتهم رغبة مشتركة في الثرثرة وتزجية الفراغ . لم يكن حديثهم الليلة عن أمجادهم الغابرة ، ولا عن فحولتهم الجنسية الباهرة الماضية ، ولا عن أيام الشباب . كان حديث الليلة عن علم الفراسة عند العرب الأقدمين . كل واحد منهم يدعي لنفسه السبق في هذا المجال وينسب لذاته العبقرية في هذا المضمار.
إلا أن سؤال التحدي ، قذف به أبو ناجي فجأة فقال :
ـ لقد حزرتم على كثيرين من أصحاب المهن ، كيف يتم كشفهم ، وتحديد نوعية حرفهم عن غير معرفة مسبقة بهم . ولكن كيف تستيعون أن تعرفوا الرجل الموظف من غير الموظف ، إذا كان هذا الرجل مجهول الهوية لديكم تماماً ؟!
انبرى أبو خليل ـ وكأنه استخف السؤال لتفاهته ـ قائلاً :
ـ الأمر في غاية السهولة ، فمتى رأيت الرجل أزور مائل الكتف ، فأحكم عليه بأنه موظف .
إلا أن أبا حسن لم يطق صبراً ، فسارع ينقض رأي أبي خليل بقوله :
ـ وما يدريك أنه (سوّاس) مثلاً وليس بموظف ؟ إن جميع السواسين زور الأكتاف !
وهنا استدرك أبو خليل معدلاً رأيه فقال :
ـ أنظر في يديه ، فإن كانتا ناعمتين ملساوين ، لا اثر فيهما للجهد والعمل ، فإنني ساعتها أحكم عليه أنه موظف دون أي تردد .
وعاد أبو حسن ليدحض رأي أبي خليل من جديد فقال :
ـ ولكن نعومة الأيدي لا تقدم دليلاً قطعياً على أن صاحبها موظف . فباعة (النوفوتيه) أيديهم ناعمة ، والخياطون كذلك ولا تنس الحلاقين أيضاً !. كما أنه ليست أيدي جميع الموظفين ناعمة بالضرورة ، فمنهم صاحب العيال الذي لا يكفيه راتبه الضئيل ، فيذهب ليشتغل خارج الدوام بأي عمل خشن صوناً لحياته وحياة أطفاله ، ولا سيما عندما ترتفع الأسعار بشكل باهظ ويظل راتب المسكين ثابتاً أو يزداد ، ولكن بسرعة السلحفاة في فصل الشتاء !
هز أبو خليل رأسه يمنة ويسرة عدة هزات ، كمن يريد أن يعترف ولا يعترف بآن معاً ، ثم رجع يصل ما انقطع من الحديث مع صاحبه فقال بلهجة المعاجز :
ـ قل لنا حضرتك إذاً ، كيف تميز أنت الموظف من غيره وبأية نظرة ثاقبة سحرية ؟!
فأجابه أبو حسن دون تردد :
ـ أنا لا أعتمد على النظرة الخارجية فقط ، وإنما أضيف إليها أسئلة ثلاثة أوجهها إليه من حيث لا يشعر :
" كم معك ؟ كم عليك ؟ كيف تسكن ؟" وعلى ضوء أجوبته أستطيع أن أميزه بكل سهولة . فالذي ليس موظفاً يجيب تباعاً " معي كذا . لست مديناً . سكني ملك . "
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979