مقلاع داوود عليه السلام
مقلاع داوود عليه السلام
خليل الصمادي
ظلَّ بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدةً من الزمن، يعبدون الله مخلصين له الدين، ثم أحدثوا الأحداث وعَبَدَ بعضهم الأصنام ، فأرسلَ الله لهم كثيراً من الأنبياء فتمادَوا في غيِّهم وطُغيانهم فقتلوا الأنبياءَ والصالحينَ من قومهِم، وعاثوا في الأرض مفسدينَ، فسَلَّط اللهُ عليهم أعداءَهم، فقتلوا منهم أعداداً كبيرة وأسروا منهمْ خلقاً كثيراً، وظلّوا على هذه الحال حتى ذهبَ المُلْكُ من أيديهم وتسلّطَ عليهم جالوت إذ كان جبّاراً يخاف الناس من بطشهِ، ومن جَبَروتهِ.
عند ذلك خشيَ بنو إسرائيل ضياع المُلكِ منهم فذهبُوا إلى نبيِّهم الصالح وهُوَ النبيُّ الوحيدُ الذي سَلِمَ مِنْ بطشهمْ، وكانَ رجلاً عجوزاً بلغ من العمر عتياً، فطلبوا منه أنْ يعيِّن عليهمْ ملكاً؛ حتَّى يقومَ بتنظيمِ صفوفهمْ لمقاومةِ جالوتَ وجنودِهِ.
فكرَ في أمر قومهِ، وبعدَ أيام اختارَ لهمْ رجلاً أعطاه القوة والعلمَ والحكمةَ، وأمرهم بطاعته لأن طالوت أفضلهم.
لم يرضَوا به وطلبُوا منهُ أنْ يغيِّره، فطالوت رجلٌ فقير لا مال عندهُ ولا ذهب ولا فضة فكيف يكون ملكاً عليهم؟!! وهم لا يحبون الفقراء.
لم يقبل النبيُّ t ضلالهم وأخبرهم أن الله سبحانه وتعالى هوَ الذي أوحى له بذلكَ واصطفاه عليهم، وبعد جدالٍ طويلٍ رضَوا به كارهينَ.
وهذا هو دأبهم مع أنبيائهم، فقد فعلوا مع موسى t في قصة البقرة مثل الذي فعلوه مع نبيهم هذا!!
كان طالوتُ رجلاً قوياً، مؤمناً باللهِ، لايخشى في الله لومةَ لائمٍ، أحبَّ أن يُعيْدَ لبني إسرائيلَ قوتهمْ ومجدهمْ وذلكَ بنشرِ التوحيدِ وبمحاربةِ الضلالِ والظُلمِ.
لقد وجدَ نفسَهُ أمامَ مهمةٍ صعبةٍ!! فها هو جالوت قدْ خرجَ عليهمْ ولحقَ بهِ أكثرُ بني إسرائيلَ، وسارَ بهم في طريق الطغيانِ. ولمْ يكنْ حالُ الذينَ لمْ يلحقوا بجالوتَ بأحسنَ منهمْ، فمازالوا في غيّهمْ، وضلالهمْ، يعاندون نبيهم ويتمادون في فسقهم، ولم يسلمْ منهم إلا من رحم الله.
صبرَ طالوتُ على هذهِ المهمةِ الصعبةِ وبعد مدةٍ أعدَّ جيشاً لملاقاةِ جالوتَ وجنوده وسارَ بهم، وكانوا كثيري العدد والعُدَّة وبعد أيام مرّوا على نهرٍ فأحبَّ طالوت أن يختبرهم فقال لهم:{إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ولم لم يطعم فإنه مني } [البقرة: 249].
احتارَ الجنودُ في أمرِ طالوتَ، هلْ يطيعونَهُ ويصبرونَ على الظَّمأ، أم يرفضونَ أمرَهُ ويشربون مِنَ الماءِ العذبِ الزلالِ؟
وكدأب بني إسرائيل حدثتْ فتنةٌ كبيرةٌ، لقد انقسمَ الجيشُ إلى قسمينِ: قسمٌ أطاعَهُ وصبَرَ واحتسبَ وهم قلة قليلةٌ، وقسمٌ رفضَ أمرَهُ وهمُ الكثرةُ الكثيرةُ، وقدْ تقدَّموا نحو النهرِ وشربوا منهُ شرباً روَّى ظمأهمْ.
عند ذلك أمرَ طالوتُ هذهِ الفئةَ الكبيرةَ بالرجوعِ من حيث أتتْ لأنَّ الذي لا يطيع الأوامر لافائدةَ منه والجيش المؤمن القليل خير من الجيش الكبير العاصي.
أما الفئة القليلة التي أطاعت أمرهُ فقد أعْجبَ بها واشتد إعجابه بمجموعةِ من الإخوةِ كانوا من أسرة واحدة بلغَ عددُهم أربعةَ عشرَ رجلاً، وكم كان إعجابه بأصغرهم الذي لم يكنْ قدْ بلغَ الثلاثة عشرَ عاماً فأثنى عليه وطلب منهُ أن يتقدمَ الصفوف إذ أنه كان يوم انطلق الجيش في مؤخرته يسقي الجندَ الماءَ ويحرسُ متاعَهمْ.
سأل عن اسمه فقيلَ له داوود... ولما رأى ما يسرهُ من شجاعته وإقدامهِ أمره أن يكون في حاشيته.
سارَ طالوتُ مَع جنودِهِ يقطعونَ الفيافيَ والقفارَ يمشونَ في النهارِ وينامونَ في الليل، وهمْ متحمسونَ لملاقاة عدوِ اللهِ جالوتَ..
بعدَ عدةِ أيامٍ وعندَ ضحى النَّهار لاحَ في الأفقِ جيشٌ عرمرمٌ، لهُ أولٌ وليسَ لهُ آخرُ كالبحر اللجاج.
بدتِ الآلافُ المؤلفةُ من الجنودِ، وتقدمت العرباتُ الكثيرةُ الموكب الرهيب حيثُ برز في مقدِّمتها جالوت في كامل زينته وحوله عدد من المقاتلين الأقوياء.
اقترب الجيشان منْ سهل كبير حولَهُ الجبالُ العاليةُ والتلال الخضراء فبدا جيشُ طالوتَ أمام جيش جالوتَ كالطفل الصغير أمام العملاق العظيم!!
أخذ جيش جالوت يهدرُ ويرعدُ حتى وصل هديرهم عنان السماءِ. عندها حدث انقسام جديد في جيش طالوت، لقد ارتعد البعض خوفاً من هذا العدد الضخم الذي لم يروا مثله وقد خافوا على أنفسهم وذهبوا إلى طالوت راجين منه الاستسلام والابتعاد عن جالوت وجنوده… وقالوا له: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }، ولا نستطيع محاربة جالوت وجيشه الجرّار الذي لا يُقهر.
عند ذلك رجعَ المُرجفونَ والخائفونَ مُؤْثرينَ السلامةَ.
عندها عَرفَ طالوتُ مَنْ هُم المُخلصون من جُندهِ، ولم يبقَ منهم إلا القليلَ القليل، هذه الفئة المؤمنة الصابرة التي لا تعرف الخوفَ أبداً، صبرت واحتسبت الأجرَ من اللهِ سبحانه وتعالى وقالوا: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} ، وليسَ منَ المُستغَربِ أنْ يكونَ داوود منهم، فكيف لا يكون وهو المؤمن القوي الصابر، عندَ ذلكَ ازدادَ إعجابُ طالوت بداوود فطلب منه أن يكونَ على يمينهِ!!.
بقيَ طالوتُ معَ عددٍ قليلٍ من المُخلصينَ من جُندهِ، ودعوا الله وسألوهُ أن يُثبّتهم وينصرهُم على أعدائِهم وقالوا: {ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا }.
نظرَ جالوتُ للجيش الصغير وصرخَ بأعلى صوتِهِ مستهزئاً : مَنْ أنتمْ أيها المغرورون حتى تُقاتلونا؟ لم أدرِ أنَّ عددكُم قليلٌ جداً!! ألهذا العددِ أخرجُ؟ لوْ أني عَرَفْتُ عَدَدكُم لَما خرجتُ للقائكم!!.
وصَرَخَ مرةً ثانية: مَنْ يُبارز؟ هلْ تبارزني يا طالوت؟ أو تُرسِلَ لي من يُبارزني؟ لنْ أنتظرَ طويلاً.. هلْ منْ مُبارزٍ؟ هلْ منْ مُبارزٍ؟؟
وأمامَ هذا الصوتِ المُرعِبِ سادَ صمتٌ رهيبٌ.. من سيخرجُ ويَتَحدّى هذا القائدَ الجبّارَ؟ مَنْ لهُ إلا مَنْ هوَ أشدُّ منهُ قوةً وبأساً؟!!
لَمْ يصبرِ الفتى داوودُ على غرورِ جالوتَ فأسرعَ إلى طالوتَ يستأذِنُهُ في مُبارزةِ جالوت...
إنهُ قويٌّ يا داوود وأنا أخشى عليكَ منهُ ومنْ بطشِهِ.
أن لا أخافُ إلا منَ الله سبحانه وتعالى.
إنهُ كبيرٌ يا داوود، وأنتَ صغيرٌ لنْ تَقدِرَ على مُبارزَتِهِ.
الله سَيَنصرني عليهِ… أرسلْني إليهِ، ولنْ أحتاجَ إلى سيفٍ أو درعٍ أو رمحٍ، سَأقتلهُ بمقلاعي هذا!!!
اذْهبْ واتَّكلْ على الله ولكن كن حذراً.
فرحَ داوود كثيراً، لقد تاقت نفسه إلى لقاء عدو الله جالوت، وما أن وصلَ البطلُ الصغيرُ إلى ساحة المبارزة… حتى قال له: غلام صغير يقاتل جالوت!!.. أينَ سيفكَ؟.. أين درعكَ؟.. مَنْ الذي أرسلك؟ أيريد طالوت أن يسخر مني، أم يريد أن يتخلص منك؟!!!
ثم صرخ صرخة مُدويّةً:
هيا تعال اقترب حتى أطعنكَ طعنةً واحدةً لا ثانية لها وتموتُ في الحالِ!!!
أجابه الفتى الصغير:
لا تكنْ مغروراً يا جالوت... بل أنا الذي سأقتلكَ بهذا المقلاع الصغير بإذنِ اللهِ تعالى ولنْ تنفعك قُوَّتُكَ ولا جندكَ بعد أن تخرَّ صَريعاً.
أنتَ أيُّها الصغير!! كيف تجرؤُ على مخاطبتي هكذا، أنسيتَ أنني قائدُ هذا الجيشِ العملاقِ؟
نعم أعرفُ، وأعرف أنَّكَ كافرٌ بالله ومجرمٌ ولم ترعَ حرمةً لأحدٍ ولم يَسْلَمْ أحدٌ من شَرِّكَ في هذهِ البلادِ المباركةِ، لقد أرعبتَ الناسَ وقتلتَ الصالحين وسجنتَ الأبرياء، وقطعتَ الأشجار وهدمتَ المنازلَ وحرقتَ المزارع والبساتينَ، إن هذا الحجر الذي لم يعجبك سيضع حداً لجبروتكَ ولبطشكَ.. هذا الحجرُ سيقتلكَ بإذن الله لأنه أقوى منك!!
كُفَّ عن هذا الهُراء يا غلام وإلا قطعت رأسك وجعلت لحمك فريسة للطيور والسباع!!
أنا الذي سأجعلك وليمةً لها، هيا تقدّم إن كنتَ تستطيع..
اذهبْ وأحضر مَنْ هُوَ أكبرُ منك، كيف أبارزُ غلاماً صغيراً؟.
الله أكبر منك يا جالوت وستعرف ذلك حالاً.
تقدم جالوت خطواتٍ وهو يقهقهُ ساخراً، وتقدّمَ داوود وتناولَ حجراً من جعبته ووضعَهُ في مقلاعهِ.
الجيشان يرقبان هذا الموقفَ الرهيب. فجأةً توقفَ داوود وأخذَ يُلوِّح بمقلاعِهِ في الهواء وقدَّمَ رِجلَه اليُسرى وصَوَّبَ نظرهُ على رأسِ جالوتَ الذي استمرَّ يقهقهُ ويَشْتَمُّ.
حبس داوود أنفاسه، وبسرعةِ البرقِ أفلتَ أحدَ طرفي المقلاع وقال: بسم الله انطلق وبسم الله اقتل هذا المجرم الشرير...
وما هيَ إلا لحظات حتى نَفَرَ الدَّمُ من رأسِ جالوتَ، عندها تناولَ البطل الصغير حجراً ثانياً وثالثاً، ورماهما على رأسه، ولم يزد على ذلكَ، لأن العملاقَ الجبارَ الذي كان يتوعدُ ويرعدُ قبل لحظات خرَّ صريعاً لا حراكَ فيه.
لم يصدّقِ الجيشانِ ما حلَّ بجالوت... ومافعله الغلام المؤمن بهِ..
أيعقلُ أنْ يقتل داوودُ جالوتَ؟!!
صاحَ المؤمنونَ مِنْ جيشِ طالوت: اللهُ أكبر اللهُ أكبر.
أما جيش جالوت فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ما حَلَّ بقائدهم، فَوَلوّا الأدبارَ، وتبعتهم حجارةُ داوود والمؤمنين التي نزلت عليهم كالصاعقة كأنها من سجّيل.
كتبَ الله النصرَ للمؤمنينَ الصابرينَ بسلاحٍ خفيفٍ موجود في كلِّ مكان، وهُزِمَ الجيشُ القويُّ المغرورُ المُدجَّجُ بالسلاحِ وبالعتادِ وبالغرورِ!!!
رجعَ داوودُ وطالوتُ والجنودُ فرحينَ بهذا النصر العظيم وازداد حُبُّ طالوتَ لداوود فعينهُ قائداً على الجيشِ.
أحبَّ الناسُ داوود لإيمانِهِ ولقوتِهِ ولعدلِهِ وتواضعهِ فقد كان يكره أن يُسخِّرَ الناسَ لخدمتِهِ فكانَ يزرعُ ويفلحُ، ويأكلُ من عملِ يدِهِ، كما كانَ يكرهُ التكبّر والغرور، يقوم أكثرَ الليلِ صلاةً ودعاءً، كما كانَ يصومُ يوماً ويُفطرُ يوماً.
ولم ينسَ الله عبدَهُ داوودَ فاختارهُ بعد مدةٍ رسولاً نبياً، حكمَ بالعدلِ بين الناسِ فسادَ الحقَّ بينهم بعد أن ارتاحوا من شرِّ جالوتَ وجنودِهِ.
ومنذ ذلك اليوم غدا مقلاعُ داوود سلاحاً فعّالاً ضدَّ جيوش الكفر والطغيان وضد المحتلين والمستكبرين أعداء الله والناسِ أجمعين.