محمد علي والنهر

محمد علي والنهر

محمد الحسناوي*

[email protected]

 الحفيد الطفل محمد علي مقيم مع والديه في مدينة (مكة) ، والجدّ محمد مقيم في مدينة (عمان) الأردن  .

سوف ينتقل محمد علي مع أمه في إجازة من مكة إلى مدينة حلب ، ماراً بعمان ، حيث جده يترقب ، ويعدّ الساعات والأيام ، ممنياً نفسه باحتضان حفيده ، وتشمم عبير الطفولة ، وقد مضى على آخر زيارة له عام كامل .

الطريف في الأمر أن الحفيد محمد علي والجدّ يتصوران أن الحياة لا تتحرك ، وأن الزمن ساكن أو لغز غامض . كلّ منهما  يظن أن أحدهما  ولد طفلاً والآخر رجلاً مسناً ، وسيظلان كذلك إلى مدى غير منظور .

أخيراً وصل الحفيد محمد علي وأمه وأخته الصغيرة بيان ، وبدأت دورة الاحتفال بقدومهم ، من قبلات ومساءلات عن الصحة وعن الوالد في مكة ، وعن الأهل الأقارب كباراً وصغاراً .

العمّان الصبيان (أحمد) و(أمجد) والعمّتان(مزنة) و(هبة) كان من حصتهم اللعب مع الحفيد محمد علي ، وإخراج كل ما لديهم من أنواع الدمى وأصناف اللعب المعدنية والبلاستيكية والكرتونية ، والاستمتاع باصطياد اللهجة الطفلية تلثغ بالأسماء والطلبات .

سبق للعمين والعمتين أن استمتعوا بألعاب من نوع آخر ، ألعاب حيوانية : تربية عصفورين ملونين ، ثم تربية فرخ دجاج والآخر فرخ بط على التوالي . المسكن ليس فيه ساحة ترابية ولا خم للطيور ، لأنه (شقة) في الدور الثالث من مبنى حديث ، ومع ذلك عاش العصفوران في قفص ، والفرخان الآخران تربيا في أحضان الأولاد نهاراً ، وفي زاوية من شرفة المسكن المحدودة ليلاً .

الجدّ يتذكر إطلاق سراح العصفورين بعد زمن ، كما يتذكر نمو الفرخين ، حتى صار أحدهما ديكاً حقيقياً ، والثاني بطة ذات حجم يتمايل تمايل العرايس والمتكبرين . شموخ في الرأس ، وتبختر في المشي ، وتأرجح في الجسم يميناً وشمالاً ، أشعر الجدّ ذلك بشيء من حركة الزمن ، لكن حركات الحيوانين بعد نمو كلّ منهما غلبت تصوره عن مراحل نموهما ، والزمن الذي انقضى في ذلك .

في أيام الشتاء الباردة كان الديك يتمدد على السجاد أمام مدفأة الأسرة الغازيّة ، ويفرد أحد جناحيه مستمتعاً بالدفء ، يغمض عينيه مسافراً في حلم لذيذ . أما البطة فكانت تقفز وراء الصبيان والبنات الذين يركضون أمامها لاعبين ، تريد اللعب معهم أيضاً ، وربما نقرت أحدهم في أحد كعبيه نقرة غير لطيفة ، زيادة في المداعبة الخشنة ، فينتفض الأولاد ضحكاً وتهريجاً ، فتقفز البطة في الهواء قفزات انتفاضية على وقع الضحكات والقهقهات العالية ، قفزات فيها المرح والدهشة والإضحاك في وقت واحد .

تأمل الجدّ حفيده محمداً ، يغدو ويروح في غرف المنزل ، مستغرقاً في اللعب مع أعمامه الصبية ، ومع الدمى والألعاب ، فتذكر الجدّ أيام طفولته في جسر الشغور ، ثم تساءل :

-         هل عشت أنا فعلاً سبعة وستين عاماً ؟ لم يصدّق .

لكي يتأكد الجدّ أنه عاش هذا العمر المديد أخذ يستعيد ماضيه ، محاولاً تثبيته من خلال أحداث ، محطات بارزة :

في طفولته الأولى حملته أمه للخروج به ، وهو يلبس ثوباً كحلي اللون جديداً ، يجذب الأنظار إليه ، فانتهرتها جدته ، خوفاً عليه من العين .

وفي طفولته تعرّض لحادث دهس من سيارة ، نجا منه بأعجوبة .

وفي فتوته سبح في البحر بعيداً وحيداً حتى خاف على نفسه من أسماك القرش الوحشية .

وفي شبابه نظم الشعر , وألقاه في التظاهرات الطلابية والشعبية .

 وفي شبابه دخل الجامعة وتخرج منها ، وعمل في تدريس اللغة العربية طوال سبعة عشر عاماً .

وفي أخريات أيام شبابه تعرض للمطاردة والاعتقال ، ثم للهجرة من الوطن إلى ديار الغربة .

كلّ هذا يذكره ، لكنه سرعان ما ينساه . حتى لو أراد أن يلمسه باليد فإنه هباء في هباء . كيف يلمس هباء الذكريات ؟

يبدو أن الناس جميعاً ينسون الماضي ، وينشغلون عن ذكرياته بما يملأ حسهم وسمعهم وبصرهم من البيئة المحيطة بهم . يستوي في ذلك الراشدون والأطفال . الألعاب تشغل الأطفال ، والأعمال والمشاهدات والحواس تشغل الكبار . أليست هذه أيضاً ألعاباً من نوع آخر ؟

استراح الجدّ للتأملات . فطن إلى أن النسيان لا يقف عند الذكريات والماضي الذي انقضى ، بل هو يمتد إلى أمام أيضاً ، إلى الموت ، فينسى الإنسان أنه سوف يموت ، أو يرفض أن يموت .

-         هل هناك إنسان واحد ينكر الموت ؟ تساءل بصوت مسموع .

         في الحقيقة ازداد هاجس الموت لديه في الأشهر الأخيرة بعد ظهور مرضه ( الفشل الكلوي ) لكن العلاجات ، جلستين في المستشفى أسبوعياً ، أعادت هذا الهاجس مرة ثانية إلى الظل ، إلى النسيان .

-         ألهذا السبب ينسى الناس الموت وما بعد الموت من حساب ومن جنة أو نار؟

-         ما البديل ؟ سأل نفسه .

-         لقد قلت لنفسي هذا القول أكثر من مرة ، فما الجديد ؟

نظر إلى حفيده يتأمله ، يتأمل حركة الزمن فيه ، فلا يجدها . إنه طفل ، طري العود ، ناعم الملمس ، رقيق الأطراف ، لا تكاد قامته ترتفع عن الأرض كثيراً . سيظل طفلاً سنوات أخرى .

تذكر الجدّ محطات عمر الحفيد فيما مضى ، حين كان يتردد على (مكة) كل سنة . تذكر حفيده رضيعاً ، ثم طفلاً يحبو على الأرض ، ثم طفلاً يتوكأ على الكراسي والنضد والجدران ليمشي ، وأخيراً تذكره، وهو يلثغ بالكلمات الأولى ، ويستوي على قدمين . هكذا يتذكره ، أما نموه اليومي ، فلا يمكن تذكره بحال .

الجدّ يحاول قراءة الحفيد ليقرأ نفسه .

       - الحل هو أن أعيش اللحظة التي أنا فيها . أن أتخيل الزمن ، وهو يمضي بي مثل راكب السفينة في البحر .

هو ساكن داخل السفينة ، لكنها تتحرك به كالنوم ، كالحلم .

        - بل العمر أشبه بجريان النهر . انظر إلى سطح النهر العميق تجده ساكناً ، والحقيقة إن مياهه

 تجري باستمرار من المنبع إلى المصبّ .

         أعجبه حديث النهر ، لأنه يختزن في أعماقه ذكريات متنوعة عن نهر العاصي في طفولته وفتوته وشبابه . إنه يتذكر الآن الجسر الروماني الحجري الذي يتدفق الماء الغزير عبر قناطره العالية في فصل الربيع ، الأمواج صاخبة عنيفة لا يجرؤ على السباحة فيها إلا السباحون الماهرون ، الذين تدرجوا في السباحة من القناطر الصغيرة الجانبية إلى القناطر الكبيرة التي تقع وسط النهر ، (كالمجنونة ) و(العوجاء) . عبور المجنونة كالتخرج من شهادة (الليسانس) ، أما عبور العوجاء ، فهو أشبه بالتخرج من الدراسات العالية كـ (الدكتوراة) .

         أمواج قنطرة المجنونة شديدة الاندفاع ، تجرف السباحين مسافة طويلة في ذيل مجراها ، والسباحون يقاومونها بالتشبث وسطها بصخرة ، ليصنعوا باليد اليسرى الممدودة في الهواء إلى أعلى .. مروحة مائية ، فراشة ، قوساً خلاباً من ماء وهواء ورذاذ متطاير ، واحتكاك لذيذ حول الجلد فترة من الزمن يطيقها النَّفَس المكتوم تحت الماء ، ثم ينفلتون راكبين التيار غانمين سالمين كالغارقين في حلم . آه.. ما أجمل تلك الأيام ! شعر الجد بخدر لذيذ . تمنى لو طالت الذكرى ، لو عاد فتى يسبح من جديد في نهر العاصي ، لكن أين الفتوة ، وأين نهر العاصي ؟ هل عاش فعلاً تلك الأيام والذكريات ؟ عاوده التشكك ثانية وثالثة ورابعة . لكن الطعم في الحلق ، فلماذا التشكك؟ الطعم وحده لا يكفي . هل من يشم رائحة الطعام ، وهو جائع ، كمن يلتهمه التهاماً ؟ لا يستويان .

           أما قنطرة ( العوجاء ) فالمشكلة فيها وجود دوامات مائية تغزل عمودياً إلى أسفل ، فتغوص بالسابح إلى أعمق الأعماق ، حتى يموت إن لم يكن ماهراً . كم مات من أغرار وراشدين !

           مات كثير من زملاء الجد ورفاقه ، فمتى يموت هو ؟ الزمن المتحرك كالنهر الكبير لا يقول شيئاً . الدقائق والساعات تمضي ، وهو لا يحس بمضيها . الأحداث الكبيرة ، الأمراض المفاجئة تذكر لا أكثر . والذكريات هباء يتطاير يوماً بعد يوم .

           النهر يجري . العمر يمضي . الموت حقّ . لكن متى ؟

           الرجل الصالح والرجل الطالح لا ينكران حقيقة الموت . الصالح يأخذ الأهبة ، لكنه مع ذلك يخاف من الموت . ينساه ، وحين يتذكره يتحرك شيء في أوصاله ، يعلم أنه مقبل عليه ، لكنه لا يعلم المسافة التي تفصل بينهما . قد يأتي فجأة ، قد يتأخر ، لكن مجيئه حتم لا شك فيه . الانشغال عنه بتفاصيل الحياة اليومية أمر مألوف .

-         أنا لا أريد أن أكون ككل الناس مشغولاً بالمألوف ، مجرد راكب في سفينة .

-         ولماذا لا أكون ككل الناس ؟

-         لأن الوقت من ذهب ، لأن العمر مسؤولية . لأنني أريد أن أعيش عمراً حقيقياً ، ممتلئاً ....

-         مرة أخرى ، وعاشرة ، ما العمل ؟

-         العمل المطلوب – كما يبدو – أن أسأل نفسي هذا السؤال ، مرة واحدة في اليوم .

 

              

 * كاتب سوري عضو رابطة أدباء الشام