يوم العيد
نعمان إسماعيل عبد القادر
كنتُ إذا جاءنا الأضحى، أفرحُ لمقدمه فرحًا كبيرًا لا يوصفُ، وأبتهج لتكرّمه علينا بزيارته لنا مرّة كلّ عامٍ ليخبرنا أنه لن يغيب عنّا الدّهر كلّه حتى ولو غبنا عنه، ولن ينسانا أبدًا.. تأخذني نشوةٌ كامنةٌ في داخلي.. تغمرني غبطةٌ روحانيّةٌ وتغمر أطفال الحارة من حولي؛ فقد كنّا ننتظر قدومه بفارغ الصبرِ ونتساءل عن سبب تأخّره عنّا.. حتّى إذا ما تأكّدنا من موعد زيارته خرجنا نتغنّى بأغانٍ توارثناها عمّن سبقونا، ونلبّي مثلما يلبّي الحجيج، ونكبّر كما يكبّر المصلّون. كنتُ أهيّء نفسي ونخرج بعد أن يؤذّن المؤذّن لصلاة الفجر سويًّا؛ لنتجمّع قرب شجرة بلّوطٍ كبيرةٍ قائمةٍ في وسط الشارع فننطلق في مسيرة صغيرة نحو مقبرة الشهداء نحمل المشاعل لتضيء لنا الطريق، والمصاحف لنتواصل مع أعزّائنا وننير بها قبورهم أو لنمحو عنهم ببراءتنا خطاياهم وما اقترفته أياديهم. وكنا متى نصل أرض المقبرة يتشتت جمعنا ويلتفّ كل واحدٍ فينا حولَ قبرٍ يسكنُه مَن كُنّا نُعزّه في مَحْياه ونتمنى ببساطتنا أن يرجع إلينا من مماته ونشرع في قراءة سورة يس ونجتهد في إتمام سورة البقرة وختم الزيارة بسورة الفاتحة. ومع انبلاج الضوء واقتراب موعد طلوع الشمس تنهمك بعض النسوة في توزيع حلوياتٍ صنعتها بأيديهن وتقديم ما تجود به نفوسهنّ من قطع نقديّةٍ جمعتها على مدار شهرين متتاليين، إلى الصبية والمتسوّلين الغرباء.
يا لروعة العيد ورهبة الموقف وبهاء تلك الساعة حين نسمع أصوات المصلين تصدح بالتكبيرات والتهليل، وحناجرهم تمدح الأنبياء والمرسلين، وقلوبهم تتجه نحو قبلة المؤمنين الموحّدين.. فنقفل راجعين إلى البيوت كأننا عائدون من حجٍ مبرور كَفَّرَ اللهُ فيه ذنوبنا وغفر لنا سيئاتنا. كنّا ننتظر الأضحية انتظارًا حارًّا مضطربًا فيذكّرنا أبي بسنّة أبينا إبراهيم الخليل وولده إسماعيل ثمّ تتجلّى أحزاننا وتتجهَّم وجوهنا وتنقبض قلوبنا على الخروف الذي بذلنا من أجل تربيته، أقصى جهودنا فصار رفيقًا لدروبنا عزيزًا علينا يشاركنا في ألعابنا ومسلّياتنا.. نتذكّر أو نذكّر بعضنا الأيام التي فيها، حملناه في صغره بين أيدينا وحضنّاه في أحضاننا وقبّلناه بشفاهنا.. كم داعبناه وقدّمنا له المأكل والمشرب ليته لم يرحل عنّا.. وما هي إلا سويعاتٍ حتّى ينطلق بنا قطار العيد إلى بيوت أعزائنا وأصدقائنا وأرحامنا...
يا لِبَهْجَتِنا الَّتي فاقَتْ كُلَّ بَهْجَةٍ في الدُّنْيا رِفْعَةً وَاسْتِكْبارًا..
يا لِعيدٍ تَلأْلأَتْ فيهِ أَنْوارُ السَّعادَةِ مِنْ عَلْيائِها
وَتَنَزَّلَتْ فيهِ الرَّحَماتُ وَنَسَماتُها
يا لِعيدٍ فَرِحَتْ لَهُ كُلُّ الْخَلائِقِ وَانْهَمَرَتْ
فيهِ، دُموعُ الثَّكالى وَالْيَتامى وَمَنْ رَحَلوا
عَنِ الدِّيارِ وَالأَوْطانِ فَانْتَشَروا
في كُلِّ فَجٍّ كُلِّ وادٍ وَافْتَرَشوا
رَمْلَ الْبَوادي بَيْنَ الزَّواحِفِ وَالْتَحَفوا
غَيْمَ الْفَيافي.. بَرْدَ اللَّيالي.. فَتَضاحَكَتْ حَشَراتُها..
يا لِعيدٍ فارَقَ الأَحِبَّةُ مِنْ إِخْوانِنا، وَارْتَفَعَتْ
أَرْواحُهُمْ إِلى عَرْشِ خالِقِها وَانْتَهَتْ
في السِّدْرَةِ الْعَلْياءِ جَلَّ باريها...
أَلا لَيْتَ الزَّمانَ يَعودُ يَوْمًا فَنُوافيهِ كَيْفَ صارَ الْعيدُ فينا..