المدينة والأسود الخمسة
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
كانت فرص العمل ضيقة أمام ديفيد بعد أن تخرج من كلية الفنون من جامعة وارسو ، ولم يجد أمام تشجيع الاصدقاء والاغراءات والوعود الا أن يهاجر الى فلسطين" أرض الميعاد ". كان يهودياً مرهف الحس ، يعشق الفن و بخاصة فن النحت مجال تخصصه.
ما أن وطأت قدماه مطار اللد الذي سموه لاحقاً مطار " بن غوريون" حتى نقلته احدى الحافلات الخاصة باحدى المؤسسات المتخصصة في استيعاب المهاجرين الى مستوطنة بيت ايل على مقربة من رام الله.
أرغب في العمل في احدى المؤسسات التعليمية لتدريس الفنون
- صمت المسئول عن استيعاب المهاجرين وزم شفتيه وهز رأسه.
- ألا يوجد عمل في احد المتاحف لديكم ؟ تساءل القادم الجديد بشىء من القنوط.
- هز المسئول رأسه ثانية بالنفي ثم أخرج ورقة قرأ فيها الخيار الوحيد المتاح له حالياً كي يكسب قوته...و أضاف" ستلتحق باحدى وحدات " جيش الدفاع" المكلفة بحماية المستوطنين في أطراف المدينة.
لم يكن هناك خيار آخر ، و في اليوم التالي التحق باحدى الوحدات المقاتلة في دورة مكثفة ليتخرج منها بعد أشهر من التدريبات الشاقة.
كانت المهمة الاولى لوحدته اجتياح منطقة دوار المنارة في مدينة رام الله.قام الجنود بمطاردة الطلاب و قمع بعض التجمعات الاحتجاجية التي تزامن وجودها مع احدى المناسبات الوطنية ثم عاد الجنود لنقطة تجمع قرب الدوار بعد أن فشلوا في تعقب المحتجين ؟أو اعتقال بعضهم.
استشاط القائد الميداني غضباً ثم نظر حواليه فوجد في الدوار أحد المعالم الجميلة حيث تربض عدة أسود حجرية و كأنها تحرس المدينة من الغزاة. كان هناك شىء ما يدور في رأس القائد ، فكرة لم تخطر ببال أحد من القادة الذين سبقوه !. نادى على ديفيد و قد كان من أوائل دفعته ، و أعطاه مطرقة حديدية ضخمة تستخدم عادة في تكسيرأبواب المحلات التجارية في أوقات الاضراب.
- أريد هذه الاسود الرابضة بلا أذناب !
- و لكنني – سيدي – لم أشاهد في حياتي أسودا بدونها . تساءل الجندي الفنان باستغراب أقرب الى الاستنكار.
زجره الضابط بصوت عال ، و كرر الامر ثانية بعد أن هدده بأشد العقوبات لو امتنع عن التنفيذ الفوري .
هوى الفنان على أذنابها ضرباً فتكسرت و بقيت كحيوانات بلهاء. عاد بعد أداء المهمة الى منزله على مضض وأوصد الباب باحكام، غير أنه سمع من خلاال الصرير شيئاً أشبه بالزئير و مخالب تنغرز في أماكن شتى..تصدمه رؤية الدماء المتدفق كشلال ...ظل يرتجف وسط دموع مدرارة و أدار ظهره للباب الموصد.
خيوط الذاكرة تتشابك و رعشة حزن تعصف بكيانه و غشاوة تغطي عيونه فيستسلم أخيراً لنوبة نوم طارئة. ثم يصحو بعدها في عيادة الصحة النفسية للوحدة على صوت الطبيب المعالج كأنه بقايا فنان عصفت به الريح و رمت بأدواته و ريشته بعيداً ، مشى مترنحاً كمن أصابته لعنة المدينة التي تركب صهوة الصمود و الموت و تحيا على ألحان موج يتلاطم في بحر قريب.
*مدرس لغة في كلية التربية بجامعة الملك عبد العزيز.