الدولاب

عصام أبو فرحه

[email protected]

في مدينة الملاهي دولاب يدور ,  على محيطه علقت عربات حديدية , يدور الدولاب ومع دورانه كل العربات تدور , وتتبادل تلك العربات الأدوار بين هبوط وصعود , لا على حال تستقر , فما أن تصل عربة إلى القمة حتى يبدأ هبوطها وإلى الحضيض تعود ,

للحظات توقف الدولاب وإلى عربته السفلية صعد عبود , مع العربات المعلقة على محيط الدولاب جال ببصره وقال يخاطب نفسه :

أي ظلم هذا ؟ كل من في العربات فوقي , كلهم في الأجواء سواي , لا زالت قريبة من الأرض قدماي , آه لو يسرع هذا الدولاب اللعين بدورانه حتى أكون هناك في القمة , حينها ستكون عربتي معلقة في الفضاء , وسأعانق ببصري أبواب السماء ,

أحسنت أيها الدولاب , هاقد عدت إلى الحركة من جديد , هيا انطلق ولتكن أسرع , اصعد وارتفع وارفعني معك ,

دار الدولاب ثم توقف فجأة , نظر عبود إلى الأعلى وهبط ببصره إلى الأسفل وعاد إلى حواره مع الدولاب :

أيها الأحمق ما بك توقفت , ليس هنا المكان المناسب لوقوفك , ألا ترى معي ؟ ثلاث عربات فوقي ومثلها تحتي , فما بك توقفت ؟ نعم نعم عرفت , توقفت لحمل أحدهم , هاهو يصعد إلى عربتك  السفلية , ماذا تنتظر ؟  واصل صعودك أرجوك وإلى هناك خذني معك ,

واصل الدولاب دورانه , ومعه واصل عبود ارتفاعه , عيونه معلقة في الأعالي , يحسد أهل العربة التي تصل إلى القمة , ينقطع تعلق بصره بالعربة التي تتجاوز تلك القمة , ولا يرقبها في هبوطها , وكلما داهمه السؤال عن مصير تلك العربات التي تغيب بعد أن تصل القمة قال :

لا يهمني مصيرها , ولتذهب إلى الجحيم , ما يهمني هو الوصول إلى هناك في الحال , بعد ذلك سيكون لكل عقدة ألف حلال ,

إلى القمة المنشودة وصلت عربة عبود ووقف به الدولاب هناك  , صاح بعلو صوته :

يا للروعة , أنا فوق الجميع , ليس لسواي خلق هذا المكان , يا لك من جميلة فاتنة أيتها القمة , يا لسحرك الذي أنشده منذ أن دار بي دولابك ,

ظل يصرخ ويطلق الضحكات المريبة وبعض الأصوات الغريبة , وكأن القمة أفقدته الصواب ,

سكنت حركاته وسكتت أصواته فجأة دون مقدمات , جلس يتأمل كل ما هو حوله من أشياء , ينزل ببصره إلى الأرض تارة ثم يعيده إلى السماء , بانت على وجهه علامات حيرة عندما قال محدثاً نفسه : أيعقل أن تكون هذه هي قمتي المنشودة ؟ لا لا , لا يعقل ذلك , فلا زالت الأرض قريبة ولا زالت السماء بعيدة , ثم أين من وصلوا قبلي إلى هنا ؟ أين ذهبوا ؟ هل هبطوا ؟ وكيف لمن ارتفع أن يقبل الهبوط ؟ أم أن الدولاب أخذهم إلى مرحلة أخرى وصعدوا من خلالها إلى قمة أعلى ؟ لا بد  أن ألحق بهم إلى هناك , لا بد أن أكون فوقهم , هيا عاود دورانك أيها البليد , فقد بات توقفك أكثر من دورانك , يا إلهي مرة أخرى تتوقف ليصعد أحدهم إلى تلك العربة السفلية الوضيعة , فهل هذا وقتك أيها الطفيلي ؟

تملكه الغضب وصار يلعن الراكب الجديد في الأسفل , تخرج اللعنات من فمه مختلطة برذاذ يرده الريح إلى وجهه فيزداد غضبه , مد يده إلى نعله وخلعه من قدمه , أخرج نصف جسده العلوي من العربة ورمى النعل بكل قوته إلى الأسفل , لكن النعل لم يصب هدفه الجالس في العربة السفلية وعلق بين قضبانها الحديدية,

عاود الدولاب دورانه فهدأت ثورة عبود واستقرت ملامح وجهه وعاد إليه بعض الهدوء فأكمل حديثه إلى نفسه : هيا اصعد ولا تتوقف مرة أخرى , وإلا حطمتك كما كنت سأحطم رأس ذلك المتطفل الذي أوقف صعودنا قبل قليل , آه لو أن الحذاء أصاب رأسه وشق جمجمته , لكان حينها عبرة لكل أهل العربات السفلية الوضيعة , وأنت أيتها العربة ما بالك لا ترتفعين , ها هو الدولاب يدور فماذا تنتظرين ؟ يا ويلي , ما بال السماء تبتعد , ولم الأرض تقترب ؟ ماذا جرى , اللعنة عليكم أجمعين , والويل لكم أجمعين , إنها المؤامرة , كيف صعدت كل تلك العربات لتعلوا فوق عربتي ؟ وكيف تقترب هذه الأرض مني ؟  , نعم إنها تقترب , هل أنا هابط إليها أم هي إلي صاعدة ؟؟ توقف أيها الدولاب اللعين , كف عن الدوران , أوقف هذه المهزلة , من قال لك بأنني سأقبل الهبوط بعد الصعود ؟

توقف الدولاب عن الدوران , وما زالت الأرض والسماء حول عبود تدوران  , استقرت عربته بالأسفل , أحس بأنه عائد للتو من عالم آخر , إنها نقطة البداية التي انطلق منها , كل شيء حوله يؤكد حقيقة ما يراه , نظر إلى الأعلى وأمعن النظر في ذلك الرجل الذي تتربع عربته على قمة الدولاب , إنه ذلك الرجل الذي كان يجلس قبل قليل بالأسفل حين رماه بنعله , نعم إنه هو بعينه , وهاهو النعل ما زال معلقاً بعربته , هو الآخر كان من عليائه يرمي عبود بنظرات غامضة وابتسامات مقلقة , توتر عبود وسرى الخوف في أوصاله , قام من مكانه ليغادر العربة , وإذا بالحذاء يتحرر من قضبانه ويهوي بسرعة البرق ليستقر فوق رأسه , حينها أتاه صوت من الأعالي يختلط ببعض الضحكات يقول : والله ما ألقيته عليك , ولكن أنت من ألقيته على نفسك , لم يأبه عبود بذلك الصوت , وغادر العربة يضمد جرح رأسه بقطعة قماش شقها من قميصه , ينتعل بأحد قدميه نعلاً ويحمل الآخر تحت إبطه  ,

بانتظار خلو العربة كان هنالك رجلان , أحدهما كان يرقب عبود وفي عينيه شفقة على حاله , أما الآخر فكان بصره يدور مع محيط الدولاب الكبير ويقول لصاحبه : بعد قليل سأكون هناك في القمة , ستكون عربتي معلقة في الفضاء وسأعانق ببصري أبواب السماء ,

ابتسم عبود وتحسس بيده مكان الجرح وقال  : قلبي معك أيها الرجل إن كان نعلك ثقيلاً .