مدينة تضحك، رجل صامت

زياد خدّاش

نهار عادي ، هكذا بدا ، المدينة : سيارات ، مارة ، شمس طفلة ، تركض نحو شباب عنيف ، بيوت تنهض ، تجار يفتحون محلاتهم ، وانا ، ذاهب الى المقهى ، بيدي حقيبة كتب واوراق ، ولا شيئ غير عادي ابدا، بالعكس تماما ، فقد بدا هذا اليوم عاديا اكثر من اللزوم وهذا ما اخافني ، انا اخاف السكون الزائد عن الحاجة احس دائما ان ثمة ضجة ما تكمن بخبث خلف كل صمت ، لا دهشات في وجوه الناس ، لا تحفز لشيء ، لا قلق ، لا فرح لا ملامح ، جلست ، المقهى صغير ، هنا سانتظر طالبة جامعية لا اعرفها ، هاتفتني مساء امس لتتعرف مصادر الكوابيس ، وسر النهايات المسدودة في قصصي ، وضع النادل فنجاة قهوة امامي ، اخرجت كتابا ، بدات اقرأ وبين فقرة واخرى ، كنت ارتشف من فنجاني ، في لحظة ما انتبهت الى وجود ثلاثة شبان بجانبي ، لكني لم اعرهم اهتماما ، لم ابذل جهدا جسميا او ذهنيا لاراهم ، الكتاب مثير جدا ، من النوع الذي يهز اليقين ، كنت دائما اقول : ان قذيفة مدفعية تعجز عن انتشالي من كتاب يمتلك قابلية تغييري ، لكن ذلك كان محض شعار من شعاراتي الكاذبة ، التي ارفعها ، حماية لهيبتي ومكانتي ، انفجرت بجانبي ضحكة ضخمة ، صدرت من احد الشبان الثلاثة ، ضحكة مقززة من النوع الذي يقودك فورا دون ان تدري الى الاعتذار للمزهرية المجاورة ، او اللوحة المقابلة ، نيابة عن فظاظة البشرية ، التي تنتمي اليها انت رفعت راسي عن الكتاب ، نظرت الى الشارع ، المارة يتزايدون ، يموجون ، زعيق السيارات يتعالى ، الشمس كبرت ، صارت مراهقة الان ، سقطت في الكتاب من جديد ، عاذرا للشاب ضحكته المعادية ، التي قد يكون اجبر عليها ، فهناك اشياء كثيرة تضحك الى درجة الوحشية في هذا الوطن ، ثم انني ادعو دائما في كتاباتي ومواقفي الى حرية الصراخ و الجنون و الضحك والكتابة والجنس والحب والسفر ، فلماذا اناقض نفسي ؟ غارقا في نهر الصور و الكلمات كنت حين انفجرت ضحكة اخرى من شاب اخر ، على طاولة قريبة ، تنهدت ، نظرت الى الشبان الثلاثة ، كانوا يضحكون بشكل متواصل ، ضحك غريب ، خليط هو من بكاء ، استهتار ، توحش ، الم ، اجسامهم تتمايل على بعضها ، دموعهم تسيل ، ضحكات ، ضحكات ، ضحكات ، المقهى كله يضحك الان ، النادل نفسه يضحك مع احد الزبائن ، ورجل عجوز يضحك بلا اسنان مع رجل اخر ، نهضت ، تحركت باتجاه النادل ، وضعت امام الطاولة ثلاثة شواكل ، لم ينتبه النادل ، خرجت ، اخيرا خرجت من مقهى الضحك قلت لنفسي : هذه مدينة مجنونة حقا ،مشيت باتجاه ، لم احدده ، لم افكر الى اين سأذهب ، حتما ستتصل الطالبة ، ان لم تجدني في المقهى ، مشيت ، مشيت ، جلست على رصيف شارع متنزه البردوني ، اخرجت نفس الكتاب تركت نفسي اسقط فيه من جديد ، غبت عن الوعي فترة قصيرة ، انفجارات اخرى ، نظرت حولي ، كانت امرأة بدينة تضحك مع صديقتها بشراهة كأنها تقضم جدارا او تبلع مفرقا ، بعد برهة ، شاركتها صديقتها الضحك ، فاهتز الرصيف تحتي ، وتطاير ورق كتابي ، الغريب ان احدا من المارة وزبائن المتنزه لم يستهجن هذه الضحكات القاسية سواي ، هربت بعيدا ، مشيت على رصيف شارع مكتبة رام الله ، مرت عني سيارة تمشي ببطء ، بداخلها رجل وزوجته واطفاله الثلاثة ، كانوا كلهم يضحكون بصوت عال ، لدرجة ان السيارة اصطدمت بشجرة ، لكن ركابها لم يتوقفوا عن الضحك ، نزلوا الى الشارع ، تعالت ضحكاتهم ، ركضت هاربا ، نحو شارع المقبرة ، هناك مشيت بهدوء ، فالاموات لا يضحكون ، فتحت الكتاب ،و غطست ، لكن ضحكا مفاجئا ، مخنوقا ، قادما من داخل المقبرة ايقظ ذهني ، وجمد عقلي ، لم استطع التفكير ، اعتقدت اني احلم ، لكني كنت على يقين كامل اني لم اكن كذلك تحاملت على قدمي المنهارتين نحو شارع فرعي ، سقطت فوق راسي كحجارة كبيرة عشوائية الشكل ، ضحكات صاخبة لرجال خشنين جدا ، يجلسون في شرفة بيت ، حاولت ان اركض ، خانتني رجلاي ، سقطت على وجهي ، زحفت على بطني ، تاركا الحقيبة والكتاب ، الى اين امضي يا الهي ،؟؟ طوحت بجسدي وخوفي في شارع فندق روكي شارع هاديء ، انيق ،، كانت الشمس عمودية وقاتلة ، ولا احد في الشارع ، شعرت براحة كبيرة ، فلا بشر هنا ، مر امامي قطيع كلاب ، فاطمأن قلبي ، هذا يعني ان لا تهديد هنا ، لكن طمأنينة قلبي تمزقت ، امام ناظري وانا اسمع ضحكات الكلاب الادمية ، يا الله ، اغثني ، حتى الكلاب ؟؟؟ وجدت نفسي اصعد التلال المطلة على معتقل عوفر ، لاهثا ، متصببا عرقا ورعبا ، لماذا يضحكون ؟ مالذي يدفعهم لهذا الضحك الهستيري المزعج ؟؟ ، اه لو استطيع ان اشاركهم هذا الضحك ، انا احب الضحك ولكن ليس دائما ، وضحكي معقولة ضجته وهو خفيض وراقي ، هل هناك ضحك راقي ؟؟، احس ان الضحك العنيف هو الية دفاع غير واعية ضد عنف متوقع ، او خوف دائم من خطر ما ، يحسه الضاحك قادما لا محالة ، ولكن هل يعني هذا انني لا اعاني خوفا ما من خطر قادم؟ وانني خارج قانون النفس البشرية ، وخارج تأثير اوضاع البلد ،

لا ادري ، انا ادري فقط اني لا ارغب في الضحك مثلهم ، وتخيفني طريقتهم فيه ، سأبقى جالسا هنا في هذا الكهف القريب من قرية رفات ، سأنتظر الظلام ، لازحف ، متسللا الى بيتي ، مغلقا خلفي الباب ، ومقفلا اذني بقطن ثقيل ، كم هو طويل هذا اليوم !! وكم انت مراوغة ايتها الشمس العجوز !! ، على كتف موجة الظلمة الاولى اتكأت خارجا من كهفي ، مشوش الافكار ، غير قادر على فهم ما جرى ، المدينة شبه صامتة الان ، السيارات قليلة ، المارة قليلون ، هادئون ، رائع هو هذا المساء ، استعدت جزءا من ثباتي ، مشيت بخطوات قوية ، انا ذاهب الى غرفتي الان ، غرفة صغيرة ، تقع على طرف المدينة ، غدا سأبحث عن حقيبتي وكتابي ، التقيت صديقي في الطريق ، كان يقف على الرصيف منشغلا بحديث مع حببيته بهاتفه المحمول ، لم اتحدث معه ، وقفت بجانبه صامتا ، فقد عقدت معه صفقة عدم ازعاج مشتركة اثناء اتصال احدنا بحببتيه ، على الاخر ان يتحمل ، ويصبر صامتا اتأمل المدينة الذاهبة ببطء الى استرخائها الليلي فجأة انفجر صديقي بضحكات مروعة ، تشبه استغاثة ساخرة ، رأيت الدموع تسقط من عيون صديقي ، حتى انت يا صديقي ؟ ابتعدت عنه ، مشيت ، سمعت خلفي شخصا يقول : بالتاكيد اتصلت االطالبة على هاتفك االمحمول ، هو في الحقيبة الان يرن ، او لعله يضحك ، ها ها ها ها ها ها ، هاتف محمول يضحك ، بدل ان يرن ، يا لها من فكرة مضحكة ! هاهاها هاهاهاهاهاها ، بدأ الشخص يضحك بشكل هستيري ، لم يتوقف هاتف يضحك هاهاهاها ، تجمع الناس حولي ، كانوا يضحكون ، الكل يضحك ، بصوت عال ومخيف ، المدينة تمتليء بالضحكات ، الضحكات تسيل على الشوارع وتفيض على المفارق و المنحدرات ، خرج الناس من بيوتهم ، ضحكات ضحكات ضحكات ، هاتف محمول يضحك هاهاهاهاهاهاها ، هاهاهاهاهاها ، رايت نفسي اهرب مرة اخرى ، الشارع المؤدي الى غرفتي ممتليء بالضحكات ، اتجهت الى شارع اخر ، مشيت ، الضحكات تتدفق خلفي : هاتف محمول يضحك ، هاهاهاهاهاهاهاها ، اتكأت على جدار مبنى ، كنت الهث ، قلت لنفسي : لماذا لا اضحك مثلهم ؟

فعلا الفكرة مضحكة ، هاتف محمول يضحك ، هاهاهاهاهاها ، بدأت اضحك بصوت عال ، سكتت ضحكات المدينة ، سكتت تماما ، وجدت نفسي اضحك وحدي ، المدينة ساكتة ، ساكتة . ساكتة ، انا اضحك ، اضحك اضحك ، اضحك ..