قضية رابحة
قضية رابحة
محمد الحسناوي
في الأيام الأخيرة من عام 1989م أي في أوج الشتاء القارس وقع لحامد هذا الحادث. صحيح أنه محكوم عليه بالإعدام لأسباب سياسية، وأنه مطلوب لسلطات بلاده حيّاً أو ميتاً، وصحيح أنه مضى على نفيه وتشرده عشرة أعوام، وأن عدداً من إخوانه قد اختطف أو اغتيل، لكنه هو نفسه لم يحصل له مثل هذا الحادث المفاجئ. لقد اعتقل وسجن أكثر من مرة. في أحد المطارات احتجز ليلة كاملة، ضرب فيها وأهين. في مطار آخر احتجز ساعات عصيبة. دخل السجن ثلاثة أشهر، أمضاها في غرفة انفرادية، وخضع للتحقيق المكثف، والتهديد بالتسليم إلى جهات لا يرغب بالذهاب إليها. في مطار (جنيف) اشتبه برجلين من عملاء النظام الحاكم في بلاده. فاضطر إلى تغيير تذكرة الطائرة. الحادث الضخم الوحيد الذي يشبه هذا الحادث هو عملية اعتقاله ليلة الخامس من حزيران عام 1980م في هذه العاصمة، لكن ذلك الحدث مضى عليه تسع سنوات، وتراكمت فوقه آلاف الأحداث من الأعمال والأسفار، وأصبح بلد الاعتقال بلداً صديقاً، (فما الخبر؟).
في ذلك المساء كان حامد يركب سيارة (مرسيدس) صغيرة، زرقاء اللون، ليست بالجديدة ولا القديمة، لكنها فعّالة مُجرَّبة.. كان معه سائق متمرس في مقتبل العمر، مربوع القامة، قويّ البنية، أسمر البشرة، مفلفل الشعر، بدوي اللهجة، لا يقل عن أهل المدن دربة وحنكة، لا سيما في شؤون السيارات. كانا يتنقلان على الطريق السريع من أحد أطراف المدينة إلى طرفها الآخر، حيث سوف يبيت حامد تلك الليلة، ليسافر بعدها إلى إيطالية واسبانية، لإلقاء محاضرات في الطلاب العرب والجاليات الإسلامية، عمل يكاد يكون رتيباً، سبق لحامد أن زاوله عديداً من المرات (فما الجديد في الأمر؟«.
كانت الساعة تقارب الساعة السابعة مساء. الليل حالك الظلام. عتمة بلورية. على الرغم من شدة البرد كانت السماء صافية. نجومها تومض من بعيد مرتجفة. لا أثر للمطر أو البلل. بخار التنفس ينطلق غمامات صغيرة من أفواه المارة. أبواب المحلات الزجاجية محكمة الإغلاق. الزبائن خلفها يشترون حاجاتهم لاحتفالات رأس السنة الميلادية. لا زحام في الطرقات. البرد حاصر الناس في بيوتهم، وأبقى على السيارات تتنقل في الساعات الأولى من الليل. بعض الباعة المتجولين يتدثرون بمعاطف ثقيلة كمونية اللون، ينفخون في أكفهم، وأمامهم عرانيس الذرة المشوية، أو حبات الشوندر المسلوق. فوانيسهم النفطية تنوس ذبالاتها. مشاهد أنيسة مألوفة. يتذكر حامد ليالي الشتاء في وطنه، فيسترخي تلذذاً وتحناناً. يدخل في عالم الأحلام: في مثل هذا الوقت كان يخرج من (المكتبة الظاهرية)، ويقف على زاوية (سوق الحميدية) ليشتري (دبسية) الفول المسلوق، ويشرب كأساً من مائة الممزوج بالملح وعصير الليمون. طالب جامعي متأبط كتبه، حوله أطفال الحارة (يُفصفصون) حبات الفول الدافئة الطرية. في مثل هذا الوقت كان يجلس مقرفصاً مع إخوته أطفالاً على البساط، وقد مدّوا أرجلهم تحت اللحاف السميك الذي يغطي كرسياً قصيراً مقلوباً، في وسطه صحن من جمرات الفحم (للتدفئة المركزية)، أو يتجمع هو وإخوته حول (صينية الكنافة) التي يحمصها والدهم على (المنقل)، وبين الحين والآخر يتناهبون الحبيبات (المُقمَّرة) من أطراف الصينية، وقد ملوا من عملية التحميص. حامد يومذاك كان الفائز الوحيد بجائزةأبيه: (من منكم يستطيع أن يفتح درباً في الكنافة من طرف الصينية إلى طرفها الآخر؟). حامد اليوم جاوز الخمسين. لم يعد طفلاً ولا طالباً. له خمسة أولاد بنين وبنات. أكبرهم طالب جامعي، وأصغرهم طفلة في الرضاع. له زوجة في القبر وأخرى في البيت. باختصار أصبح حامد مِنجماً من التجارب والخبرات. وعلى الرغم من ذلك ارتاع للحادث المفاجيء.
في المرات السابقة التي دخل فيها السجن كان يتساءل: (هل هناك أمل ما بالإفراج؟). لقد أُفرَجَ عنه مرات، تمتع فيها بالحرية وبالحياة، وإنجاب الأولاد والأسفار وتأليف الكتب، لكنه هذه المرة لم تخطر له النجاة بل رأى الهلاك رأي العين. أخذ يعدّ الثواني لا الساعات ولا الأيام، دوّى صوت ضخم. رأى نفسه ومن معه يهويان في هوة سحيقة. شريط أسود أخذ يتتابع أمام ناظريه وراء زجاج السيارة الأمامي. هزيم يفحّ من حوله، لا يدري سببه ولا مصدره. الموت تحت الأنقاض من أغرب أنواع الموت وأبشعه. (يا لطيف. يا ستار. هكذا إذاً النهاية؟!).
منذ أيام كان حامد يطالع قصة اغتيال المجاهد عبداللّه عزام. عبوة ناسفة كبيرة مموهة، دفنت في فوهة مجرى بجانب الرصيف. حين مرت سيارة المرحوم عبداللّه عزام بالقرب من تلك الحفرة تطايرت السيارة بمن فيها، قذف ركابها عبداللّه عزام وولداه الشابان بعيداً. اصطدم جسم الشهيد عزام بسيارة أخرى مجاورة. لفظ أنفاسه قبل أن يصل إلى المشفى، ومثل ذلك ولداه. سبق أن كشفت ألغام تحت المنبر الذي يخطب عليه عزام في المسجد، لكن أيدي الآثمين استطاعت هذه المرة أن تصطاده. صورة الشهيد عزام وولديه الشابين مخضبين بالدماء شخصت ماثلة أمام حامد.
قبل أيام أيضاً اطلع حامد على خبر اغتيال حسان إلهي ظهير أحد علماء الحديث في الهند. كانت القاضية عبوة ناسفة مخبأة تحت منصة الخطابة، ذهبت به وبعدد من العلماء الحاضرين دفعة واحدة (فهل وصلت هذه الأيدي إلى هذه العاصمة التي استعصت على التخريب حتى الآن؟).
لا يستغرب حامد أن تسعى وراءه عيون (النظام)، لكن تطاول الزمن، وزحمة المشاغل، ألقت ذلك الاحتمال في زاوية الاستبعاد. هذا البلد تعرض في الخمسينات لزلزال كبير. (ألا يمكن أن يتكرر ذلك؟) أما معاينة الخطر آنياً فشيء آخر. شيء آخر. دويّ هائل. هويّ في منحدر عميق. شريط أسود يتتابع وراء الزجاج. اقتراب النهاية (يا لطيف!).
حاول حامد استذكار اللحظات التي سبقت الحادث. كانت السيارة تعدو بهما بشكل طبيعي في الطريق السريع. من بعيد شوهد شرطي يقف في منتصف الطريق، وهو يشير بيده طالباً الوقوف. (لا بُدَّ أنَّ هناك أمراً خطيراً حمل الشرطي على اعتراض الطريق والأمر بالوقوف. ما هو؟ حفرة عميقة؟ لغم قابل للانفجار؟ ربما؟) ثم وقع الحادث. لم يتح لهما أن يتفحصا الحشد قرب الشرطي، ولا معرفة سبب الاعتراض. أوراقهماالثبوتية معهما.
السيارة مرخصة. الطريق مفتوح. رتل السيارات متدفق. فجأة ارتجَّت سيارتهما والأرض والدنيا كلها. ويبدأ السقوط الرهيب. شريط أسود يكرّ. هزيم يفحّ فحيحاً. (أشهدأن لا إله إلاّ اللّه. وأشهد أن محمداً رسول اللّه. هكذا تختصر الحياة. تنتهي الآلام والحسرات، كأننا لم نكن أبداً؟!) (لم يبق لي شيء) الشريط الأسود يتتابع (ماذا بقي مني؟) عبرت طيوف بعض الكتب والأوراق. (ماذا أبقيت لأهلي) تمرُّ جوه أطفال. ابتسامات عذبة - نظرات بريئة. تحسس جيبه. النقود ليست ملكه. (وددت لو نشرت كتاباتي المخطوطة قبل موتي) قبر زوجته في الغربة بين مئات القبور.. عبر أمامه. (أهلي لم أُبقِ لهم شيئاً. لهم اللّه تعالى من بعدي. لا حسرة على الكتب التي لم أقرأها) لاحت له رفوف مكتبته التي صودرت في الوطن (حسرتي على تقصيري في الأعمال الصالحة. اغفر لي يا رب وارحمني). في الحقيقة لم يتذكر أعماله الصالحة. تذكر ذنوبه وآثامه التي أخذت تبرز وتتعاظم من الأرض حتى السماء.
أخيراً انتهى الكابوس الحقيقي. توقف السقوط. انقطع الشريط الأسود. كانت لحظات أقسى من اللحظات التي يعيشها المحكوم عليه بالإعدام قبل التنفيذ. ذاك عالم بصدور القرار وبطريقة التنفيذ ولحظته. أمّا حامد فقد أخذته المفاجأة من أقطاره. لم تنفعه التجارب السابقة ولا كبر السنّ (كلّ شيء إلاّ الموت فجأة. وتحت الأنقاض!). كل أنواع الموت كانت تخطر لحامد من قبل إلاّ الموت خنقاً تحت التراب. كم خشي أن يدفن خطأ بسكتة قلبية، ثم يستيقظ أخيراً تحت الصفائح الحجرية. الظلام. الهواء المحتبس. الدود. تذكر قصصاً عن أناس كثيرين صرخوا في قبورهم، فأدركهم راعي غنم أو إنسان عابر. (هنا من يدركنا إلاّ اللّه؟ لك التسليم يا رب!).
مثلما بدأ الحادث فجأة انتهى فجأة. تلمس حامد والسائق جسميهما. حرّكا أطرافهما. الأيدي. الأرجل. وجدا نفسيهما سليمين. عادت السيارة إلى سطح الأرض بقدرة قادر. شاهد من جديد الشارع الأسود العريض. الأرصفة. الأبنية المشرفة عليه. السماء والنجوم. بعض أفراد الحشد الذين تجمعوا حول سيارتهما. (ليست لعبة ولا حلماً. إنه حادث حقيقي مؤلم. أعضاء الجسم تتوجع ماذا جرى بالضبط؟).
- الحمد للّه على السلامة. الحمد للّه على السلامة.
- انظروا السيارة الثانية يا شباب.
- سائقها مغمى عليه.
- أنزلوه. أنقذوه.
من المنعطف المجاور خرجت سيارة (كاديلاك) بيضاء فارهة. أفسح لها الطريق. غادرت المكان بغير مبالاة.
الشرطي ومن معه من الجنود تظاهروا بتفقد الحادث والسيارات والركاب. ثم ركبوا سيارتين عسكريتين وانصرفوا.
تبيّن أن توقيف السير في (الطريق السريع) بهذا الشكل المفاجئ أوقع صداماً بين سيارتين: سيارة (التكسي) الزرقاء، وسيارة أخرى (شاحنة) خضراء. تحطم الجزء الخلفي من الأولى، وتحطم الجزء الأمامي من الثانية. كما كسرت ساق السائق الثاني. لكن أتيح المجال للموكب (الرسمي) أن يمرّ بسلام.
في المحكمة لم يعاقب، بل لم يسأل المتسبب (الرسمي)، برغم توفر الأدلة والمعلومات. عوقب السائق الثاني بسحب رخصته، وبدفع التعويض عن الأضرار للسيارة الأولى. مع ذلك اعتبر حامد القضية رابحة جداً.