موجة المسافات
موجة المسافات
صالح أحمد
ألقى بنفسه وسط الجموع؛ فأحس بقوة التيار الجارف... تثبَّت؛ وقال في نفسه: كنتَ تُدرك أن الأمر ليس سهلا... ولكنه السحر... سحر ركوب الموجة... ولذة الصعود والهبوط معها... ومتعة الإحساس بالدوار مع التيارات...
أغمض عينيه قليلا، تنفس الصعداء، وأرخي لنفسه العنان... قشة في لجة من الموج... موجة تحملها، وموجة تحطّها... والتيار يدور ويدور...
واستشعر في نفسه لذة الدُّوار... يبدأ خفيفا؛ ويتصاعد شيئا فشيئا... دوائر تتسع والأفق يضيق... والعالم يَتبَأوَر... حتى يصير نقطة وهو فوقها ...
استمر في لعبة الاسترخاء... واستشعار اللذة تتنامى في داخله ؛ ومعها يتنامى الخدر في جسده ورأسه وهو يهتف : الله... ما ألذ الغيبوبة... وما أمتع هذا الدّوار، وهذا الخدر!
فتح عينيه للحظة ؛ وحدّق بالكون حوله... ليس ثمة سوى دوائر في الأفق، سراب يلمع، ودوائر تبدأ ضيّقة ثم تتسع وتتسع؛ حتى تختفي حدودها، ويضيق عنها بصره وإدراكه...
يعود ليغمض عينيه من جديد... يُبَأوِر الدوائر في مخيلته ... ويهمس لنفسه بنشوة : هكذا أفضل... الدوائر الصغيرة يسهل السيطرة عليها، أما إذا اتسعت... فيصعب حتى تحديد مركزها...
أعجبته النتيجة التي خلص إليها تفكيره، وأمتعته اللعبة... أخذ يغمض عينيه ثم يفتحهما بسرعة ليستمتع بالدوائر والتَّمَوُّجات اللامعة في أفق خياله... تتزايد، تتداخل، تتمازج، تنصهر الواحدة في قلب الأخرى؛ وتذوب...الخطوط تتقاطع؛ وتختفي كل الملامح والفروق... والأمواج تتلاحق... والأضواء تتخذ من فقاعاتها مُنعَكَسًا لتموُّجاتها... الأمواج تغدو عالما سحريا تتموج فيه الألوان والأطياف... الدوار يعاود رأسه... والعالم يضيق أمامه من جديد... سحر الألوان والتموُّجات يفقده اتزانه... العالم يتبأوَر... يصبح صغيرا... صغيرا جدا... تُختصر فيه المسافات، وتذوب الأبعاد..
قال لنفسه: الموجة لا تعرف الأبعاد ولا تحدها المسافات... كالتِماع الضوء في حباتها تسير... حتى أنك ترى الموجة تنكسر على صخور الشاطئ... تتطاير رذاذا ونثارا ينعش الدنيا... ويغير لونها وجوها ومزاجها... فلا يخطر ببالك أنها قطعة من محيط هائل يربض عند حد العالم... المحيط ملعب الموجة... واليابسة ملعبي ... فلماذا عشقت سحر الأضواء؟؟!!
أغمض عينيه... وأسر في نفسه: هذه المرة سأغمضها أكثر مدة أستطيعها، وسأتيح لنفسي أن تسترخي تماما في قلب الموجة... ولتتمتع ما شاءت من القفز بين الدوائر وتنوع وتموُّج الأضواء... آه ... هذا هو السحر بعينه!!
ومضى لا يلوي على شيء، الموجة تعلو... الأضواء تتزايد وتتمازج... يغمض عينيه ما استطاع ثم يفتحها قليلا حتى تلفحه صورة الحقيقة... فيعود لإغماضها... ممارسا متعة الخيال في استشعار الأضواء، وإنكار الحدود.... وتجاهل المسافات ... يتخيل نفسه يعلو... تحمله الموجة إلى أعلى ... يمارس في خياله المجنح متعة الصعود والرحيل في عرض المحيط ، ويهتف: " المحيط مسرح الموجة... والدنيا مسرحي... فانطلقي أيتها الموجة... ألغي المسافات... ألغي حدود الزمن... لا أريد أن أفيق لأجد نفسي لا أزال ضمن حدود الزمن... أسرعي إلى اللا زمان واللا مكان... أمواج من أثير... هكذا أريد الحياة ...!!!"
هذه المرة.. صمَّ أذنيه عن كل صوت... الموجة تعلو وتعلو... وأصوات في داخله تصرخ: عُد... لا تركب الصعب... لا تطلب المستحيل... ابن الأرض أنت... إن حملتك الموجة اليوم؛ فسوف تلقي بك غدا... فعد! عد إلى أرض الحقيقة... إلى الحياة... فالموجة لا تحضن حبًا، ولا تطرح حياة... فعد! عد إلى مسافات الأمل: جُهدا وصبرا وعَرَقا وانتظارا... عد إلى دوائر الزمن تسافر فينا ونسافر فيها ... خلقا فميلادا فنورا فنماءا...
الموجة تظل تعلو ... وتعلو تتشظّى... يُزبد وجهها وقلبها...
مغمض العينين ... يسكن فقاعة من فقاعاتها... يطلق العنان لحلمه... يستمتع بفكرة الصعود داخل فقاعة في انتظار أن تخترق المسافات... وهو بعيد عن كل صوت... يَخلُد حلما داخل فقاعة..."على رمال الشاطئ ستنطفئ بقية الفقاعات... ستمتصها الرمال... وستموت كل الأصوات التي تصرخ بي: حذار حذار من موجة المسافات... حذار حذار من رمال الشاطئ !!"