من القمم إلى السفوح

عصام أبو فرحه

[email protected]

( أهدي هذا النص المتواضع إلى الصديق العزيز محمود عمور )

من القمة الشاهقة أطل النسر الشاب برأسه وراح يرقب المكان بشموخ ,  شح الموارد ونقص الفرائس خلفت بعض الهزال في جسده , ورسمت على وجهه بعض علامات للغضب وعدم الرضا , نسر عجوز حط إلى جواره وقال :

ما بك يا بني ؟ مالي أراك عاقد الحاجبين عابساً ؟

- الجوع يا عم ,  الجوع نال منا جميعاً , وما زلتم يا معشر النسور تصرون على العيش في هذه الارتفاعات الشاهقة , وما زلتم تصرون على أكل الطازج من اللحوم التي تصيدون ,

- على رسلك يا ولدي , هذه القمم أوطاننا , وهذه الأوكار بلادنا , فيها ولدنا , وعليها سنموت , شبعنا وتخمنا ثم جعنا , وسنعود لنشبع من جديد , أجنحتنا بخير ومناقيرنا مسنونة , قليل من الصبر يا ولدي , فقد مرت بنا أيام عجاف أشد قسوة من أيامنا هذه ,  وبالصبر تجاوزناها ,

- وما يجبرنا على الصبر ؟ انظر إلى ذلك السفح في الأسفل , وانظر إلى السهل الأخضر الذي يمتد أمامه , خيرات وجداول , طيور وأيائل , استمع إلى صوت الحياة هناك وترانيم السعادة , جيف الحيوانات النافقة هناك تسد الجوع دون عناء , ما لنا وهذه القمم القاحلة ؟؟

- إنه الوطن يا ولدي ,

- أي مكان أجد فيه راحتي وقوتي هو وطن لي ,

- ليس لك وطن إلا وطن أجدادك , أن شئت فانزل إلى السفح أو إلى السهل من أجل الصيد وارجع بفريستك إلى قمتك , 

- ولماذا الرجوع ؟

- قلت لك  إنه الوطن يا ولدي , وطن أجدادك وأبناء سلالتك ,

- هناك سيكون لي أبناء وأحفاد , وسيصبح السفح لهم وطناً ,

غادر النسر الشاب وكره في أعالي القمم غير مكترث بنداء العجوز , أسلم جناحيه للريح , وإلى السفح بسرعة البرق هوى , فزعت طيور السفح من هبوطه  وتطايرت من حوله ,

- ما بكم تطايرتم فزعاً , استمعوا إلي أرجوكم , أنا منذ اليوم منكم , لي ما لكم وعلي ما عليكم , تركت القمم وعادات النسور لأكون معكم , فهل تقبلون بي ؟

- نحن أهل السفوح نأكل الجيف والرمم ( صاح كبير طيور البوم ) , وهذا لا يروق لكم معشر النسور , فأنتم لا تأكلون إلا صيد مخالبكم , كما أننا نعيش في كهوف وآبار , فهل تحتمل عيشنا ؟

- قلت لكم لي ما لكم وعلي ما عليكم , سأعتاد أكل الجيف والرمم , وسآوي إلى الكهوف والآبار,

- وكيف نستشعر الأمن من جانبك ؟ ونحن نرى طول منقارك وحدة مخالبك ؟

- اطلبوا ما شئتم من ضمانات ,

بعد مشاورات وعدة اجتماعات بين آل بوم وآل خفاش وبعض طيور السفوح الأخرى خرج كبير طيور البوم وقال :

قبلناك بيننا أيها النسر بالإجماع , ولكن بشرط بسيط , من خلاله تتساوى معنا , حينها فقط ستكون منا , سنجدع نصف منقارك , ونسحب مخالبك لنأمن جانبك , وسننتف ريش جناحيك لنضمن عدم عودتك إلى قمتك , فهل توافق ؟؟

- أوافق على إجماعكم , ومنذ الآن فإن منقاري وريشي ومخالبي تحت تصرفكم ,

في صباح اليوم التالي كان النسر مجدوع المنقار مسحوب المخالب منتوف الجناحين , يصطف مع طيور السفح حول جيفة حيوان نافق , كل الطيور تنهش وتأكل إلا هو فكان دون جدوى يحاول , فلا مخلب ينهش ولا منقار يقطع , نهشه الجوع فصار يلتقط ما يسقط من الطيور , وعاش على ذلك الحال بضعة شهور , يلتقط ما يسقط من الأفواه , أو يستجدي قطعة لحم من طير بوم ,

عالة على طيور السفح عاش , حتى إذا ضاقوا به ذرعاً أوكلوا له مهام تنظيف أوكارهم مقابل بعض فتات من لحم الجيف , وتلك أيضاً لم يتقنها , فضاقت به طيور السفح ذرعاً من جديد وقرروا الخلاص منه ,

أحس النسر بالمؤامرة التي تحاك , استذكر القمم , عادت إليه كلمات النسر العجوز عن الوطن , استذكر مخالبه ومنقاره , نظر إلى بقايا جناحيه , صفق بهما بكل ما بقي لديه من قوة فارتفع , غادر السفح وفي الأجواء حلق , بعزم يصفق بجناحيه وإلى القمة البعيدة يتطلع , ارتفع وارتفع ثم ارتفع ,  العزم يتراجع , والقوى تنهار , في العودة يتربص له الموت , والقمة لا زالت بعيدة المنال , ما عاد يرتفع , صفق بجناحيه , صفق وصفق , وقبل أن يهوي إلى الأرض بشقٍ في الصخر تعلق ,

عاش في ذلك الشق المعلق ما بين السفوح وما بين القمم , يقتات من إحسان أحد الطيور الذي أشفق على حاله فصار يجلب له بين الفينة والفينة بعض فتات من طعام وبعض قطرات من ماء ,

يقبع هناك فلا يراه أهل السفوح ولا يسمعه أهل القمم , وكلما سأله ذلك الطائر عن بلاده وأوطانه قال منشداً بصوت حزين :

بلادي هناك جوار القمم                   وعيش السفوح أمات الهمم

ولما تعودت ذل السؤال                   رضيت الهوان وأكل الرمم

بلادي هناك جوار القمم                   وعيش السفوح أمات الهمم ..