جراح

نعماء محمد المجذوب

جراح

بقلم : نعماء محمد المجذوب

نظرت إليها بانبهار وهي في بهجة غامرة ، قالت :

ـ لنحلم ، ولنحلم ، الأحلام لذيذة ، نحاول أن نجسدها في الواقع ، نسعى ، نكد ، نكدح ، نخطط ، وننفذ .

ما أجمل الحلم عندما يصبح حقيقة ! نلمسها ، نستمتع بها .

غصت وهي تردف قائلة :

ـ ولكن ...

ـ ماذا ؟

ـ أرى حلمي الذي كنت أناجيه ، وأعكف على تجسيده ثم أعيشه قد اصبح سراباً ، مجرد ذكرى ، تهشم ، وتهشمت معه سنو عمري .

قلت أهدئها :

ـ عفا الله عما سلف ، انس الماضي يا " رحمة " ، واستسلمي لقضاء الله وقدره ، ألم يقل رب العزة والجلال : [ولنبلونكم بنقص من الأموال والأنفس والثمرات ، وبشر الصابرين ..] ؟

بحزن عميق قالت :

ـ كيف أنسى الماضي وهو زهرة شبابي ، وجل عمري ، وفيه جنتي التي كدحت من أجلها ؟

أهكذا يضيع كل شيء في لحظات ؟

تألمت لحال " رحمة " ، قارنت بين حالها اليوم ، وما سبق ، قلت أخفف عنها :

ـ عيشي ما تبقى من أيامك بالعمل الصالح ، ابتغاء مرضاة الله ، عنده جنة الخلد ونعيمها ، وما فقدته متاع الغرور.

كان كلامي كحزمة ضوء أثارت أشجانها ، وأطفأ لهيباً كان يتأجج في أعماقها ، صمتت برهة ، ثم تساءلت :

ـ لِمَ لم أفكر بمثل ذلك ؟

كانت كلماتي نقطة تحول في حياتها ، إذ سمعتها تردد دعاء آسية زوجة فرعون : [رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة] .

تغشاها خشوع وهي تقول :

كم قاست آسية من ظلم زوجها فرعون ، وكم لقيت من اضطهاد وعذاب ! صبرت ، وزهدت بالقصور التي تجري من تحتها الأنهار، ولم تتطلع إلا إلى رضاء الله سبحانه وتعالى ، يدفعها إيمانها الثابت ، وعدم انخداعها بالدنيا الزائلة .

وجدت نفسي أمعن النظر في وجهها ، أستشف جلاء نفسها ، وأنظر إلى شفتيها المطبقتين وهي في صمت وذهول . هززتها برفق ، سألتها :

ـ ما بك يا رحمة ؟

بابتسام أجابت :

ـ كلامك هيج في خاطري أموراً كثيرة .

خشيت أن تعود إلى الماضي ، رجوتها ألا تفكر فيما فيه التعب والإرهاق .

بتصميم قالت :

ـ بل سأعود ، ولكن ..

ـ بانتقام ؟

ـ لا .. بطريقة أخرى .

كانت زفراتها تصدع في صدرها وهي تقول :

ـ أمن أحبني أنتقم ؟

لا ، لا يمكن أن يكون ذلك أبداً .

جردوني من كل شيء ، من جنتي ، فكان شتاتي مع أبنائي ، وكان شقائي بعد سعادتي .

قلت :

ـ أعلم ، كانوا شديدي الافتراء .

قالت :

ـ ولكن سأعطيهم مودتي ومحبتي ، وأقابل السيئة بالحسنة ، والبغض والحسد بالتسامح ، ليس من شيمتي الحقد ، وبغصة ودمعها يجري قالت :

ـ آه ، ما أقسى جراح الأحبة !

هل أتخلى عنهم ؟

شيء مستحيل .

كنت أعلم ما كانت تعانيه معهم ، قلت بصوت خفيض :

ـ كانت الغيرة تنهش قلوبهم .

بدهشة قالت :

ـ من أي شيء ؟

ـ لأنك كنت المميزة بينهم بكل شيء .

انبرت رحمة قائلة :

ـ لا ، لست أفضل منهم ، وغير مقتنعة بما تقولين .

ـ كان أبواك يحبانك كثيراً ، و ...

ـ ألهذا دفعوا بي وبأسرتي إلى أمور لا أريد ذكرها ، وجردونا من الجنة التي كنا نسكنها ؟

ثم بغصة قالت :

ـ بدأت حياتي غريبة ، وعشت أجمل أيام عمري غريبة ، والآن ..

ـ ستقولين لا أزال غريبة .

أردفت قائلة :

ـ بل هي أقسى أنواع الغربة .

ظلمات الاغتراب بعضها فوق بعض ، غربة عن الأهل ، ثم غربة عن الوطن ، تشتت أبنائي في أرجاء الأرض .

تدحرجت دمعة على خد رحمة وهي تذكر الوطن ، وقالت :

ـ ما ألذ وقع اسمه في النفس !

ألم أقل لك بدأت حياتي غريبة ، وتنتهي في الغربة ؟

قلت بهمة :

ـ لتتفرغي إلى أمور أخرى يرضى عنها الله سبحانه .

بابتسامة رضى ، حمدت رحمة الله ، وقالت :

ـ إنه قدري .

ـ بل أقدار الكثيرين المهجرين .

ـ فلنستسلم لما قدر الله بنفوس طيبة .

كانت عيناها تتابعان عرض الأخبار في التلفاز عن الوطن العزيز الغالي ، ومناظر مدنه وقراه وأحيائه ، بين الحين والآخر تصيح رحمة بلهفة :

ـ انظري ، هنا كنت وكنا ، وعشنا ، ومن هناك تشردنا .

متى سنعود إلى حيث كنا ، ويرضى الوطن عنا ، ويلملم أبنائه ، ويسقيهم من مائه وينابيعه ، ويمتعهم بمناظره ؟متى نعود وفي قلوبنا المحبة والتسامح والتآلف ؟

ناداني الأمل ملحاً :

ـ ستعودون ، المستقبل مليء بالأمل .

صرخت رحمة من الفرحة :

ـ ويكون معي أبنائي المهجرون ، ويلملمنا بيتنا الجميل ؟

ما لبث أن أطل اليأس المرير في لحظة البهجة والأمل ، ليهمس في سري :

خفضي أحلامك ، ما تأملين صعب المنال .

قالت :

ـ أدري ، قد تكون الأحلام ضرباً من الوهم ، ولكن للأحلام لذة ، إن حرمنا من الحقيقة ، فلا نحرم منها في عالم التصور والخيال .

دون أدنى تردد ، صممت " رحمة " أن تجعل أحلامها حقيقة بإذن الله في عالم ما وراء هذه الدنيا عند رب غفور رحيم ، كريم .

قلت :

ـ أليس ما تقولين فيه العذاب ؟

ـ ما أعذبه من عذاب !

استدارت رحمة وهي تردد :

ـ طال المطال يا وطن .

آه ... ما أقسى جرح الأوطان !