الزمن القادم مع الريح
الزمن القادم مع الريح
يسري الغول
ظلمة كئيبة تعتري المكان ، خُشُبٌ مسنّدةٌ تصطف كهيكل مترامي الأطراف ، و الغبار ينطفئ كما السراج . دوائر مقعرة تطمس صورة الجبل البعيد . لهب يغطي الأسقف المسرمدة ، و في الأسفل مقامع من حديد ، يدخلها الرجلان بخفة - قد أكون أنا واحداً منهما – لا أدري بما ستئول إليه الظروف ، يسرق الأول السبائك المطرزة من الذهب و الفضة و الأقلام ، يضعها في جدران الأرض الصماء و الآخر يهرب فاراً من خوفه ، يصعد إلى أعلى ، و في الأعلى يبدو المصلى كاحلاً ، مدقع السواد ، يجلس أحد المصلين على أريكة متهتكة الأطراف ، يصلي جلوساً أمامه تلك المروحة القديمة ، البالية ، التي تظلله ، يتقدم شبحي نحوه ، يمسك بالمروحة يضعها في نهاية الجدار ، لكن الرجل يزجره بعنف صارخاً في وجهه :
- دعها هنا ، فسآخذها إلى بيتي .
وينسحب الجسد - الذي قد يكون أنا - إلى الخارج في ظلمة باتت معي كظلي . هناك أرى العجوز يتكئ على شاطئ حزنه ، أسوداً ، قميئاً ، يحدق بالسماء ، ينظر تجاه بحر الغرب المميت ، أهتف به كي يسمعني لكنه يبحر في دهاليز روحه ، أهتف مرة أخرى لكنني قبل أن انتهي من صوتي أصطدم برعبي الذي يتملكني ، أرى البحر يصرع المكان ،الرجل ، يهيج كتنور رأيته في طفولتي البائدة مع غبار الطريق ، و كثور هائج أعدو تجاه الشرق ، فإذا به أمواجاً تتلاطم أكثر شدة من ذلك البحر المميت ، أختفي ، أصعد إلى أعلى المنزل الذي يصادفني ، و هناك تصفعني المفاجأة ، كأنه منزلي ، بل هو منزلي فعلاً ، أصعد و أمي تهرول كالريح العذراء ، أما أبي فيحمل الصغير الذي أراه بصورة صاحبي ، نعتلي السطح ، و الليل ترنيمة لم أرها من قبل ، لوحة كالتي علقت في جُدر الكعبة قبل الفتح ، نلهث ، أهتف :
- أدركنا نهايتنا المريعة أخيراً .
لكن الرحمة تأتي من السماء ، أتقدم ، ألمس الماء علقماً يحاول عبور السطح ، أما المدينة فتبدو غارقة في موتها ، يعتليها الماء كرجل يغتصب عجوز اندثرت مع رماد الزمن ، و السماء مدقعة السواد ، شديدة الصفرة أيضاً ، هكذا أراها الآن ، أدندن بجنون :
- نجونا ، لن نستطيع النزول إلى أسفل ، أدركتنا مناجاة البارئ في عرشه
أصرخ في صديقي الذي يكبرني سناً :
- ابتعد عن الأطراف كيلا تغرق البحر بحزنك .
و أبي يحضر متوشحاً وسم العجوز البائدة في أساطير المكان :
- جاء ميعاد الدفن ، فلنزرع الأرض بأجساد قتلانا .
يصمت ، يبكي ، أمي تمشي على استحياء من عطفها ، تتمتم :
- أخشى على ولدي و زوجته البتول .
تنظر إلى أسفل مرات و مرات ، لا شئ سوى الموت في الأسفل ، يصرخ أبي و قد غسل الدمع مقلتيه:
- لقد غدر بنا الشرق كما عاد و ثمود .
يهلل الفتى رابعنا :
- يا أهل السماء ، يا أهل الأرض ...
جنون يعتمر لحاف رأسه ، تهاويم تؤرقني أنا الذي لا زلت صامتاً حتى جنوني ، تلهبني رؤية طلابي موتى في وحل الأرض ، أرتعش حزناً ، لا أقدر على تصور المشهد ، بكائية مطولة تتهادى إلى مسامعنا في الأعالي قرب السماء ، يصرخ الفتى مرة أخرى :
- إذا السماء انشقت و أذنت لربها و حُقت .
مشهد يحتوي أربعتنا الآن ، نفكر بالقرار الأخير و تتهاوى في الذاكرة صور الأطفال الذين تركناهم في قيعان الأرض المباركة ، نهذي على ذاكرة للموت و أبي يشدو بلوثة جنونه الوارفة
- فلنكن جميعاً في قارب واحد .
تحدق أمي بوجهه ، كأنها تفهم ما يقصده ، تسأله :
- و من سيدفن أبناءنا في بسيطتنا الرحيبة .
تتابع :
- لن أموت حتى أراهم يغرقون في تراب الأرض .
تصمت ، تبكي ، تنتحب كعجوز أدركتها المائة الأخيرة من أعوام القحط ، تستمر في النحيب ، تولول ، تندب حظها من ذلك الزمن ، تخلع نعليها ، تمزق ملابسها و تغفو في حزنها ، أتقدم مسرعاً ، الهث حتى أدرك جسدها الشفاف ، أغطيها بدمعي . بقينا ثلاثة الآن ، لقد ماتت على أعتاب حزنها ، و أبي يصرخ بجنون :
- علينا أن نموت جميعاً .
أرتعش ، تؤرقني الفكرة ، هل سأموت ، أُطرق فكري " و كيف لي أن أقنع الفتى صديقي ؟ " لكنني قبل أن أنتهي من هذياني يأتيني صوته :
- فلنلقي بالجثة في الماء ثم نسقط كالذباب في حديقة الأرجوان .
أبتسم ، و أبي يبكي بحنق ، نغمض ذاكرتنا ، نتقيأ الماضي الأليم ، و نلقي بالأجساد في وحل الماء ، و أموت ، اندثر كما الزمن القديم ، هكذا أظن لأنني لا أعرف شيئاً بعد الآن .