حوار من طرف واحد

حوار من طرف واحد

سامي العباس

[email protected]

كان أصلعاً.. وقصيراً.. وعريض المنكبين.. تظنه للوهلة الأولى فلاحاً من سهوبنا الداخلية.. لكنك حين تمعن النظر تكتشف فيه مشروع جنرال شرق أوسطي، لديه الكثير من النياشين والقمع وقليل من الكياسة. منذ دخولي وهو لا يفتأ يفرك يديه المشعرتين ويردد (أهلاً.. أهلاً).. تظنه لا يحفظ غيرها.. غير أنه يحفظ الكثير من طرائق اللحس.. لحس القدم وباطن الكف وبين الفخذين وكل شيء دسم بما فيه شعارات أواسط هذا القرن الحرج..أتظنه لحاساً بالولادة؟.. لا.. انه ابن هذه المرحلة اللحوس.شيء ما كان يدفعني لأن ابتلع لساني. وأنصت له بحواسي "الستة".

نعم.. لقد استنفرت كل ما لدي حتى قرون الاستشعار المنقرضة لألتقط كل نأمة تصدر عن هذا المخلوق التاريخي.

• لاً أهلاً سيدي.. شرفتم سيدي.. كيفكم.. كيف الأولاد..والعائلة؟.. إن شاء الله الكل بخير؟..أهلاً أهلاً.. خطوة عزيزة.. سيدي والله لم تغيبوا عن البال أبداً.. بس بصراحة.. كنت أنتظر تشريفكم.. سيدي صحيح ليست بيننا كلفة ولكن أنت تعلم وقتنا ليس ملكنا.. بيني وبينك قائد الكتيبة زادها حبتين.. يا رجل إذا أردت أن تخرج شيئاً من قفاك عليك بالأذن من قائد الكتيبة.. قسماً بالله يحتار المرء ماذا يفعل.. أوقات أحس بأن روحي قد تجمعت عند أرنبة أنفي .. أتدري ماذا أفعل؟.. أرسل وراء بعض الجنود.. أشغلِّهم بأي شيء يخطر على البال.. أقتنص كل فرصة تلكؤ من أحدهم لأزيح قليلاً من الثقل الجاثم على أرنبة أنفي..لا تقل أنني  ظالم.. الظروف.. أخي الظروف تجعل من البني آدم مشروع سوط لا يتقن غير الصفير على الظهور..أتدري؟.. بعض الأحيان أفكر.. ما الذي أفضى بنا إلى هذا الوضع؟ أنت تعرف، أنا لست طبيباً نفسياً.. ولكني سأتعدى على مهنته قليلاً.. نحن نعمل على مبدأ (خذ ثأرك من الذي تحتك).. الفوق يركبونا ونحن نركب التحت..أتظن أننا نستطيع التخلص من وضع الراكب والمركوب هذا؟.. أشك في ذلك.. سيدي أنت متفائل كثيراً.. على كل بالنسبة لي شخصياً أفضِّل هذا الوضع الوسط.. أحس بأني خلقت من أجله.. على كل دعنا من التفلسف..أنت تعرف.. نحن معشر الضباط  لا نعوُّل كثيراً على رأسنا.. نلح كثيراً على تأمين الراحة له.. (المسكين يكفيه مشاكله اليومية)... أنت مثلاً.. عدم المؤاخذة.. تحمِّل رأسك فوق طاقته وبالمناسبة الخطر قد لا يأتيك فقط من الإجهاد .. أحب أن ألفت نظرك إلى أن أخطار أخرى أشد وأدهى.. وأنا أنصحك أن تتلمس رأسك كل يومين أو ثلاثة لتتأكد من وجوده.. فأنت لا تعلم متى يقرر هو أو يقرر الآخرون تدبير محاولة انفصالية لكليكما.ثم.. لا تنس أننا فوق كل شيء ننتمي لآسيا الخاملة.. أتظن أنك بمحاولتك الاستحمام بكل هذه الأفكار القادمة عبر المتوسط ستنظف نفسك من كسلها الآسيوي؟.. أشك في ذلك.. خذ مثلاً حالتك الشخصية لقد اشتريت شقة على العظم منذ سنة ونيف.. وأنت حتى الآن لم تفعل لها شيئاً.. ما زلت تدفع ثلث راتبك للإيجار.. هذا الثلث يكفيك لكي تبدأ في تجهيز شقتك بالتقسيط.. لا تقل أنك غارق في الدين.. سيدي أنا أعرف.. أنا قبلك مرَّت على رأسي هذه التجربة.. سيدي أنت الآن لديك فرصة قد تفلت منك في أية لحظة.. أنت الآن تأمر على سبعين نفراً... فيهم الطيان والبلاط والنجار... الخ..سيدي أحب أن ألفت نظرك.. عندنا مثل يقول (همُّ الشيء أكبر منه).. أنت عدم المؤاخذة قليل خبرة في هذه المسائل.. أنت لست تاجر بناء ولا من يحزنون.. أنت عفواً.. تتخوف من الإقدام..سيدي.. لعلمك.. الذي يقصم الظهر في هذه الأيام هو أجرة اليد العاملة .تفو.. على النفط وعلى الذي أخترعه...على كل ما نفع السباب وأذنابنا معقودة على جذوع النخيل السعودي؟..بالمختصر أريد أن أقول أن قسطاً كبيراً من إحجامك عن البدء يعود إلى الخوف.. والقسط الآخر يتغذى من جذورك الآسيوية....أنا لا أريد أن تمزق كل ما يربطك بالتراث.. بيني وبنك الكسل الآسيوي مفيد ولذيذ... ولكن بالنسبة لنا نحن (البين بين) ليس بالشكل المطلق...أراك قد برمت من حديثي. سيدي دعنا نقتل هذا الزمن المتثاقل.. في أحيانٍ كثيرة أحس بأن كتفي لم تعودا مني.. أصبحتا جزءاً من ذلك الذي يعتليهما.. أشعر بتعاستي التاريخية تأكل قلبي كالعث.. ولكني عندما أخطف نظرة إلى تحت تعود لي معنوياتي لماعة تشي بالمستقبل المشرق.

أتظنني أطرز كوابيسي؟.. لا.. لا زلت مؤمناً بقدرتي على الوصول. أنت فقط سوداوي قليلاً.. تظن أنك ستنزل بدلاً من أن تطلع.. وأنا أرى أن مخاوفك ليست مخاوف بحتة.. بل يمازجها شيئاً من رغبة مازوشية بإيلام النفس.. أنت يا سيدي تنساق أكثر من اللزوم وراء هذه الأفكار العابرة للقارات.. سيدي أين شخصيتنا المتميزة؟..سيدي نحن كلنا ضحينا ونضحي في سبيل الشعب.. ولكن مهلاً.. ألا نلتفت قليلاً إلى أنفسنا؟..أنت لازلت تسكن بالإيجار.. وتمتطي متن مؤسسة النقل العام العتيدة. سيدي لن تخرب مالطة إذا ما أرسلت جندياً أو اثنين ليعملا في شقتك.. سيدي نحن كلنا فداءً للوطن.. ولكن نحن أيضاً لنا على الوطن شيء من الحق..نحن لا نسرق ولا ننهب..فقط نناور قليلاً حول أزماتنا المعيشية... والله ليس خروجاً على الدين ولا على الاشتراكية.. جنود سيقتلون الوقت داخل الثكنة أو داخل شقتك..سيدي إمساك الأخلاق من ذنبها يعني إمساك أنفسنا من الموضع الموجع. ثم ألست معي أن هذا لا يماشي روح العصر؟..زماننا هو زمان التكتكة.. تكتك سيدي.. تكتك.. والله ليس خروجاً على الدين ولا على الاشتراكية..وظل يحلف ويثرثر بمختلف الاتجاهات.. حتى أحسست بأن حواسي قد زحف عليها كسل آسيوي لذيذ..قصير.. وعريض المنكبين.. وكل ما فيه يشي بجذوره الفلاحية..لكنك حين تمعن النظر.. تكتشف فيه مشروع جنرال شرق أوسطي عتيد.