حامد يتنفس الصعداء
حامد يتنفس الصعداء
محمد الحسناوي
عاد سائق سيارة التاكسي من مخفر الأمن الحدودي، فوقف بجوار سيارته، ووزع على الركاب الجالسين فيها الهويات. استلم أربعة منهم هوياتهم. بقي الخامس بلا هوية. في الوقت الذي كاد فيه الراكب الخامس يطالب بهويته قال السائق: من هو فيكم حامد عبدالواحد؟
قال الراكب الخامس: أنا؟
قال السائق: الضابط يطلبك.
»وقعت الكارثة!« قال حامد في نفسه، وتابع: »والآن ما العمل؟!«.
حامد عبدالوهاب شاب قد تجاوز الثلاثين من عمره. متوسط القامة. حنطي اللون. أسود الشعر والعينين. يعمل مدرساً للغة العربية في مدينة حلب. عبر هذا المخفر الحدودي منذ أربع وعشرين وساعة في طريقه إلى لبنان حيث اجتمع بالقائد العام للتنظيم الذي ينتمي إليه، ونقل له مبلغاً من المال لا تسمح القوانين بنقله عبر الحدود. المبلغ ليس ضخماً، لكنه يتألف من دنانير وريالات عربية (تعتبر أجنبية)، ومن نقود ذهبية. بعد المقابلة حمّله قائد التنظيم رسائل وأوراقاً ذات أهمية بالغة ليسلمها إلى عضو بارز في التنظيم داخل البلاد، ليقوم هذا العضو بتوزيعها على أعضاء بارزين آخرين.
»إذن كانت سفرتي مرصودة . لعل من أسباب انكشافها خروجي ودخولي في نقطة حدودية واحدة في مدة لا تتجاوز أربعاً وعشرين ساعة، أو في وقت ينشغل فيه الناس بأمورهم الخاصة، وقت العيد«.
الليل ما زال في أوله، لكن ليالي الشتاء مظلمة لذلك لم يلحظ الرّكاب ما اعترى وجه حامد من امتقاع وتغضن.
بناء على طلب التنظيم كان حامد قد جهز نفسه للسفر إلى لبنان، وحدد الموعد يوم وقفة عيد الأضحى لأنه يوم عطلة؛ ولكي يفيد من عطلته إلى أقصى حدّ أرسل أسرته الصغيرة: الزوجة والطفلين إلى مدينته أم النوافير، على أن يلتحق بهم ويمضي معهم العيد في كنف والديه المسنين وزيارة الأهل والأقارب.
»الآن ما العمل«؟ كرر حامد لنفسه: »إذا كان أمري مكشوفاً، فماذا أصنع برزمة الرسائل والأوراق. لم يتأكد انكشافي. لا بُدَّ من حماية الأمانة حتى اللحظة الأخيرة. يجب وضع حدّ للأوهام والظنون والتعامل مع الواقع بهدوء خطوة خطوة. لكل حادث حديث! الهرب غير وارد. أنا موظف وأسرتي في الداخل. مكتبتي في البيت لا أتخلّى عنها. وإلى أين أذهب؟ حتى لو حاولت الهرب هل يمكن ذلك في هذه النقطة الحدودية التي أجهل جغرافيتها وفي هذا الليل الشتائي الدامس والأرض الجبلية الوعرة؟ مستحيل! مستحيل!«.
لم يكن بين حامد وبين الضابط الذي طلبه غير مسافة أمتار، وغير لحظات يجب ألاّ تطول. حامد على باب المخفر والضابط في إحدى غرفه ينتظره. برغم برودة الشتاء كان العرق يتجول على أوصال حامد من رأسه إلى أخمص قدميه. أخيراً حسم حامد الموقف، ودخل المبنى. لعل الحسم كان بدافع الضرورة الواقعية لا بدافع الشجاعة. قرر حامد إذا تعرض للتفتيش، وانكشفت الأوراق أن يزعم بأنه يحملها خطأ أو أمانة لأحد الغرباء، ولا علم له بمحتوياته. »ثم يفتح اللّّه تعالى بما يفتح«. إنه سوف يصرّ على جهله بمحتوياتها. وسوف يتمسك بهذا الإصرار سواء نفع أم لم ينفع »ليس هناك مخرج آخر«. لا مجال لإخفائها في السيارة ولا في المسافة الفاصلة بين السيارة ومبنى المخفر؛ لأن السيارة على باب المبنى، كما أن محاولة إتلافها؟ وقذفها بعيداً قد تلفت الأنظار، وتتأكد الشكوك »مثل هذا المكان يجب أن يكون مراقباً، كل ما فيه وحوله مراقب«.
تقدم حامد من باب الغرفة الموارب الذي يتسلل منه النور. دفع الباب بيده ودخل. كان الضابط الشاب يجلس على أريكة منهكة، وحوله ثلاثة رجال تبدو عليهم أمارات السفر. ما إن لمحه الضابط حتى وقف على قدميه يستقبله بالأحضان لم يكد يصدّق حامد عينيه. لكنه وَطَّنَ نفسه من قبل على تلقي المفاجآت بهدوء تام حتى تستقر الوقائع وتتضح.
»لا تؤاخذني يا أستاذ حامد. أنا طلبتك لأسلّم عليك. مضى زمن طويل ولم نلتقِ. مرَّ معي اسمك في الهويات، فطلبتك« قال الضابط معانقاً مبتسماً.
»شكراً. شكراً إنها مفاجأة سعيدة« قال حامد.
جلسا على أريكتين تنافس كل واحدة منهما أختها بالإنهاك. طلب له الضابط فنجان قهوة. المصباح الكهربائي شحيح الضوء. المدفأة معطلة، ومع ذلك كانت البرودة أقل من الخارج. روى الضابط بانشراح ومرح تدرجه من الدراسة الإعدادية إلى الثانوية إلى التحاقه بالأمن العام، ووصوله إلى هذا المنصب ثم مرور هويته به، ورغبته بالسلام عليه بعد هذا الزمن الطويل من الفراق. إنهما ابنا بلدة واحدة: أم النوافير. بلدة غير كبيرة يعرف أبناؤها بعضهم بعضاً. أليس ذلك سبباً كافياً للشوق؟ ولا بأس أن تضيف سبباً آخر: حب الظهور.
- أين كنت أستاذ حامد؟
- كنت في بيروت، أحاول متابعة الدراسة العليا.
- أهلاً وسهلاً. هل تحتاج إلى تسهيلات جمركية. هل معك أغراض؟
- شكراً لا أحتاج. ربما كان بقية الركاب يحتاجون للمساعدة. وتسهّل علينا التعجيل بعبور الحدود.
- تكرم.
قام الضابط نشيطاً. أوصى رجال الضابطة الجمركية بتسهيل مرور السيارة والتسامح مع الركاب... عبروا الحدود.
تنفس حامد الصعداء لنجاته من هذه الورطة. شرع الركاب يزجون إليه عبارات الشكر لتعرف الضابط عليه، وتدخله في تسهيل الإجراءات الجمركية لهم.
»الوقت عيد يا أستاذ. كلنا عمال. حملنا لأهلنا بعض الأغراض والهدايا. واللّه كلها هدايا. ولولا اللّه وأنت وصاحبك الضابط لخرب بيتنا«
حامد عبدالواحد في واد وبقية الركاب في واد آخر. بين الحين والآخر كانوا يتحسسون هداياهم التي نجت من الضرائب غير مصدقين، وكان هو يتحسس رزمة الرسائل والأوراق التي وضعها في جيب بنطاله الخلفي.
»نجونا من العقبة الكبيرة. لم يبق أمامي غير التعرف على بيت الشيخ أحمد في حماة« قال حامد لنفسه.
حامد لا يعرف بيت الشيخ أحمد. قيل له: بيت الشخ في حي العليليات المتفرع طريقه عن طريق السيارات العام عند مدخل المدينة على اليمين. ثم ينعطف الطريق الفرعي في آخره على اليمين. ثم تعد أول باب فالثاني فالثالث هو بيت الشيخ. وكل شيء يتم هناك. هكذا قيل له. وهكذا تخيل وصدّق.
كان ركاب السيارة في سرور واضح: الابتسامات. النكات. إنهم عائدون جميعاً من سفر. الوقت وقفة عرفة وليلة عيد. الطريق يخلو لأول مرة من الدوريات الجمركية. فجأة انفجر شيء في جوف السيارة. أحدث صوتاً يصكَُّّ الآذان. صاح الركاب: يا لطيف. تشنج السائق على المقود. أمسكه بصلابة فائقة. تشحطت السيارة بجلبة شديدة على إسفلت الطريق خمسين متراً حتى وقفت أخيراً على طرفه الأيمن المطل على وادٍ صخري سحيق.
حمدوا اللّه تعالى على نجاتهم. نزلوا من السيارة. تبين لهم أن محور السيارة الرئيس (الديفرانسيه) قد انكسر. وأنه لا أمل قريباً في إصلاحه.. في هذا الزمان وهذا المكان. الليل قد انتصف. وانتصفت المسافة بين الحدود وبين مدينة حمص، حيث الحقول الشاسعة المقفرة، وزمجرة الرياح الباردة. لا بنيان ولا سكان. المشكلة الآن الحصول على سيارة أخرى تقلهم إلى حمص.
تذكر حامد صوت السيارة المريب الذي كان يئز طوال الطريق من بيروت إلى هذا المكان المنقطع. واستيقظت حواسه لا سيما أصابع يديه ورجليه تحت وخزات البرد القارس. الحذاء المبلل تجمد، وتجمدت معه رؤوس الأصابع. بخار الماء المندفع مع الأنفاس نشر غمامات صغيرة وأعمدة رمادية. طوال الطريق كانت خواطر حامد وهواجسه تشغله عن الانتباه إلى صوت السيارة النشاز أو الاهتمام به »المهم أنها تسير«. حينما حجز فيها مقعداً لنفسه في بيروت لم يفكر في جودتها، ولعله لو فكر بذلك لما وجد غيرها في آخر النهار واقتراب العيد. رضي أن يكون الحجز حتى مدينة حمص. وهناك سوف يتدبر نفسه إلى حماة. لكنه لم يصل إلى حمص فيها. المطر بدأ يهطل رذاذاً. لا أشجار. لا وقاية، لا تدفئة. ذرات الماء على وجه الإسفلت تجمدت، خشخشت تحت الأقدام المتململة. أنقذهم مرور تراكتور زراعي يجر عربة (تريلا). قفز الركاب إلى عربة (التريلا). سمح لحامد أن يجلس بجوار السائق. تنفس حامد الصعداء ورضي البلل والبرد وتمشيط الريح حتى حمص.
بصعوبة استطاع في حمص الحجز مع بعض المجندين في سيارة تاكسي إلى حماة. تنفس الصعداء لما وصل إلى حماة. سار في الطريق المرسوم له إلى بيت الشيخ أحمد. الضباب يملأ الشوارع والأزقة. الأنوار شحيحة. الطرق موحلة مقفرة. خمّن أن هذا الباب المرتفع عن الطريق ثلاث درجات هو باب بيت الشيخ أحمد. قرع الباب بعد منتصف الليل. لم يجب أحد. انتظر ثم قرع. لم يجب أحد. صَمَّمَ على أن يقرع بشدة واستمرار حتى يجيبه أحد. إنه غريب ومعه أمانة مهمة. أين يذهب؟!
انفتح الباب الكبير مقرقراً. أطلَّ شاب ملتحٍ بلحية سوداء كثة، يدعك عينيه من شدة النعاس.
- نعم، من أنت؟
- أنا حامد. ضيف. أريد الشيخ أحمد.
- أنا أخوه. الشيخ مسافر. تفضل.
تسلقا درجاً ضيقاً عالياً. في وسط الدرج أزاح المضيف ستارة صفيقة. وراءها مفتوح على دار أخرى. إنها دار الشيخ أحمد المسافر إلى دمشق هو وزوجته وأمه المريضة »ذهب ليعالجها هناك« هكذاأفاد الأخ النعسان.
- هل يعود الشيخ غداً.
- ما أظنّ. هو سافر صباح اليوم.
على الرغم من كل ذلك تنفس حامد الصعداء. فقد وجد مأوى ينام فيه. ووجد أخاً للشيخ يمكن أن يسلمه الأمانة في الصباح، ثم يسافر إلى مدينته أمّ النوافير مباشرة. الحوار الذي دار بينه وبين أخي الشيخ يوحي بالثقة وبإمكانية تسليمه الأمانة. »ماذا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك . لا يكلف اللّه نفساً إلاّ وسعها«.
في الصباح الباكر، وبعد تناول الإفطار طلب حامد من مضيفه أن يرشده إلى سوق المدينة حيث توجد سيارات الأجرة المتوجهة إلى أمّ النوافير. كما طلب منه برجاء خاص أن يبتعد عنه حين يقتربان من الكاراج لئلا يكتشف أحد العلاقة التي بينهما، ولا بياته الليلة الماضية في حماة. وهل البيات في حماة أيضاً مشكلة؟ »مشكلة وأي مشكلة؟ مدينة معروفة بمعارضتها للسلطة، لا يقصدها الغرباء إلاّ لحاجة خاصة طبيعية ككل الناس، أو غير طبيعية ككل المعارضة، فما حاجتي أنا الموظف مدرس اللغة العربية في حلب وفي ليلة العيد؟!«.
حجز حامد مقعداً له في سيارة التاكسي. جلس في مقعده. لم يكد يتنفس الصعداء ويتخيل نفسه على أبواب أمّ النوافير حتى وقعت عيناه على زميل له كان معه في مرحلة الدراسة الإعدادية: عارف الشقرون.
- مرحباً عارف!
- مرحباً أستاذ حامد!
- ما الذي جاء بك؟
- أنت ما الذي جاء بك؟!
تشابكت الأيدي بالمصافحة. بدأت المجاملات وحديث الذكريات. الذكريات تدفقت في تيارين. تيار المجاملات التي لا بُدَّ منها، وتيار الأغوار الأمنية التي لا يمكن تجاهلها. هذا الزميل عارف الشقرون عمل بعد مرحلة الدراسة الإعدادية في أجهزة الأمن. لم يتأكد حامد في أي جهاز يعمل: أهو جهاز المخابرات العسكرية أم الأمن السياسي أم غير هذا وذاك، وما أكثرها من أجهزة! كل الذي يعلمه أن شكوكاً وأقاويل حامت حول الرجل. في أحد أسفار حامد من أمّ النوافير إلى حلب في سيارة (أوطوبوس) كان عارف بين المسافرين، وكان بين المسافرين أيضاً مجموعة صغيرة من المجندين التقطتهم السيارة في إحدى المحطات المتأخرة. تميز بين أفراد المجموعة العسكرية مجند شاب نحيل الجسم أسمر البشرة. من حديثه يفهم أنه قادم بإجازة من الحدود الجنوبية على الجبهة »ترى من ينتظره غير أمه وأبيه وأشقائه وأبناء قريته أو عشيرته؟ هل له خطيبة شابة أو عروس؟ كل تصرفاته ونكاته توحي بذلك«.
على أبواب مدينة حلب نزل عارف الشقرون من السيارة، وأبلغ الشرطة العسكرية بأن المجند الشاب الأسمر النحيل »الجالس قبل الصف الأخير من المقاعد بجوار النافذة اليمنى قد نزع عمرته العسكرية عن رأسه وبصق فيها«. بالطبع كان المجند يمزح ويسخر من نفسه. وبالطبع صعد رجال الشرطة العسكرية إلى السيارة، وأنزلوا المجند المتهم، واحتجزوه لفعل ما يلزم. وتابع عارف الرحلة مع بقية الركاب كأن شيئاً لم يكن. لكن الصمت والانضباط عمّا السيارة كلها. ما عدا صوت السيارة الذي ازداد صراخاً. »إذاً« هذه ورطة جديدة متوقعة، قال حامد مفكراً. وقال لزميل الدراسة عارف:
- واللّه كنت في بيروت لمتابعة الدراسة العليا.
- ...
- لكن تعطلت السيارة. نزلت في حماة. لم أجد فندقاً في الليل. دعاني أحد العابرين إلى النوم هذه الليلة عنده. لم يكن بوسعي إلاّ الاستجابة لعرضه، لأنني غريب كما تعلم، وأهل حماة كرماء.
اضطر حامد إلى إعطاء حجم من المعلومات الصحيحة، ولو لم تطلب منه الآن، كأنه في جلسة تحقيق. لأنَّ السائل عنصر أمني وبمعنى آخر مخبر، ولأن سفره إلى لبنان مسجل بين أسماء المسافرين، في الوقت الذي لم يسجل فيه اسمه في أحد فنادق حماة، فأين يطير؟! لا بُدَّ من تسويغات مقبولة.
لغير ما سبب ظاهر أو أدنى علاقة.. كان الضابط الشاب في المخفر الحدودي أشقر الشعر أزرق العينين ومثل ذلك عنصر الأمن الذي يشارك حامد في نهاية الرحلة، لكن عارف الشقرون كان أقصر قامة وأشد امتلاء، على حين كان حامد أسود الشعر والعينين هل هذه أسباب كافية للعداوة؟ ومن قال: إنهم أعداء؟ إنه مدرس لغة عربية، وهما عنصران أمنيان. ولكل فريق عمله واختصاصه في دول العالم الثالث!
خلال المدة التي تستغرقها مسافة مئة كيلومتر كان حامد يتنازعه هاجسان: أحدهما يقول: هذه الرحلة لا بُدَّ أن يترتب عليها شيء أمني عاجلاً، أو آجلاً، ثانيهما يقول له: لا تهتم! هذان الرجلان الأشقران صديقان ليس أحدهما حزبياً. إنهما من بلدتك الصغيرة، فلن يكون شيء يذكر.
لم يستطع أن يزيح هذه الخواطر عن نفسه، ولا استطاع فك الاشتباك بينها. لم يجد بداً من التدخل لترجيح أحد الاحتمالين. الهاجس الأمني له ما يسوغه من الأسباب المقلقة. فقد افترق حامد عن أسرته بلا مسوغ، وسافر إلى لبنان بغير ضرورة، ومرَّ من النقطة الحدودية مرتين دخولاً وخروجاً خلال مدة قصيرة، واجتمع بقائد التنظيم المعارض، ونقل له مالاً غير مسموح بنقله، وحمل منه رسائل وأوراقاً سرية مممنوعة. واللّه وحده يعلم ما فيها من أسرار وترتيبات، وعرفه ضابط المخفر الحدودي، وبات في مدينة حماة المريبة، وفي بيت الشيخ أحمد المعروف بمعارضته للسلطة، ثم لم يسلمه الأمانة باليد، بل سلمها لأخيه، ومن يدري مدى أمانة هذا الأخ ووعيه. أخيراً هاهو الآن يواجه مخبراً أمنياً في آخر الرحلة!
»هناك شيء ما سوف يترتب على هذه المغامرة. اعتقال تحقيق. تعذيب تسريح من الوظيفة. يا مرحباً بالتسريح، لكن هل أعفى من شروط الدولة المالية لأنني درست على حسابها هذا بالنسبة إليَّ. ماذا بالنسبة إلى زوجتي وولديَّ. ما ذنبهم حتى يشردوا يضطهدوا بسببي؟ نظام لا يرحم، يأخذالبريء بذنب الجاني. هل أنا مذنب؟ ماذا فعلت؟ إنه هو المذنب، هو الذي ألجأني إلى المعارضة وإلى العمل السري، إلى ركوب المخاطر لمعالجة ظلمه وانحرافاته. ماذا بالنسبة إلى أهلي إلى والديَّ المسنين. لو كان في الهرب نجاة لهربت. كيف أهرب ولم يتأكد شيء من هذه الخواطر؟ هل أنا جبان أو موسوس حتى أخضع للخواطر والظنون؟ أين الصبر والمصابرة؟ أين التوكل على اللّه؟ لماذا أغامر وأعرض نفسي وأهلي للتهلكة؟ ليست هذه تهلكة. أنها ضرورة شرعية لتقويم اعوجاج السلطة الباغية. »ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر« »من رأى منكم منكراً فليقومه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان« هل هي سلطة معوجة حقاً؟ ألم تعمل بالأحكام العرفية وتعطل الدستور؟ ألم تحتكر السلطة وتؤمم الصحافة وتعتدِ على حرمات اللّه في الأنظمة وفي الإعلام، ألم تسلط الأجهزة الأمنية وتعطل القضاء؟ وهل هذه المغامرة الخطرة قادرة على إصلاح كل هذا الاعوجاج؟ بالطبع إنها وحدها لا تكفي لكنها مع استمرارها جزء من حركة عامة، أو حركة تتسع لتكون عامة، تعمل على تحريك عجلة التاريخ نحو الأفضل. ومن يدرك أن حركة التاريخ تستجيب لتضحياتك وتضحيات الآلاف من أمثالك؟ هذه إرادة اللّه تعالى، وهذه سنته. مع ذلك يحسن التأكد، بل يجب التأكد من أن هذه إرادة اللّه، لأن الأجر عند اللّه سواء تحركت عجلة التاريخ البطيئة تجاه الهدف المقصود أم لم تتحرك. وبعد التحري من مطابقة العمل لشريعة اللّه يأتي التوكل على اللّه والإيمان الكامل بقضائه وقدره. علينا أن نعمل ما بوسعنا، ونتخذ الأسباب ، ثم نسلّم الأمر للّه. هل فيما صنعت أنا اتخاذ حقيقي للأسباب من حذر وحيطة أم تفريط وتهاون ومغامرة؟ إن تعريف المجازفة أو المغامرة يختلف من رجل إلى رجل. إن الجبان يحسب كل شيء خطراً؟ً عليه، والطائش يتحرش بالمشكلات تحرشاً. هل جنحت أنا إلى شيء من الإفراط أو التفريط؟ ما أظن. فأنا موظف، ووقت العطلة لا يتسع لأكثر من الوقت الذي سافرت خلاله. ومقابلة القائد، وحمل المال إليه والرسائل منه واجب شرعي، وللمصلحة الشرعية العامة، أما ظهور من يعرفني من رجال الأمن في طريقي فليس باختياري، كما حاولت التمويه قدر الاستطاعة. وقل مثل ذلك في تعطيل السيارة والبيات في مدينة حماة وتسليم الرسائل إلى أخي الشيخ الغائب. هل يتوقع زوال المنكر بلا أدنى جهد أو مشقة؟! لقد حدث ما حدث. حسبنا اللّه ونعم الوكيل«!.
هل يتنفس الصعداء؟
»لا! هناك مشكلة أخرى.«.
من المفترض أن يصل حامد إلى مدينة أمّ النوافير ليلة العيد، وأن يحضر صلاة العيد، حيث يسلّم على الناس ويسلمون عليه، وحيث يستقبل الأهل والأقارب في بيت أبيه، ولا يلحظ أحد أنه تخلف عن الحضور مع أسرته الصغيرة. أما الآن فإن العيد قد بدأ، وعلم الكبار والصغار والنساء أن حامداً غائب في سفر، وأن أسرته قد حضرت ولم يحضر هو، فما السبب؟!
»سوف يتخيلون سبباً مهما، أهمّ من العيد والأب والأم والزوجة والأولاد!« حرص حامد على ألاّّ يتأخر، وألاّ تتاح الفرصة للظنون كي تحوم بحثاً عن هذا السبب المهم. وألاّ يلفت الأنظار البريئة وغير البريئة.
»حصل ما حصل. فما العمل؟ العمل هو - للمرة الثانية والثالثة - التوكل على اللّه بعد أن استنفذت الوسع في اتخاذ الأسباب. هل أتنفس الصعداء؟ لا. يبدو أنه لن أستطيع أن أتنفس الصعداء في هذه الحياة الدنيا. كلما ظننت أنني نجوت من ورطة واسترحت إذا أنا أفاجأ بورطة أخرى جديدة وهمٍّ جديد. ألا يمكن أن يأتي يوم تنتهي فيه هذه الورطات؟ ما أظن«؟
خطر على بال حامد، أن يسجل هذه الوقائع التي جرت له خلال هذين اليومين، لكنه عدل عن هذا الخاطر لأسباب عدة منها الخشية من أن يتهم بالمبالغة والافتعال. كان ذلك عام 1971م.