حكي جرايد

فدوى محمد سالم جاموس

حكي جرايد

فدوى محمد سالم جاموس

الأردن- عمّان

تقول الحكاية : في بلدة عريقة وكبيرة ، في إحدى الدول العربية في أواسط السبعينيات من القرن الماضي ، كان ثمة رجل عسكريّ برتبة رائد. وكان هذا العسكري يشغل منصب " محافظ " للبلدة المذكورة. وقد زاره ذات يوم ، في مكتبه الرسميّ ، رجل أشيب نحيف . نظر المحافظ في وجه الزائر ، فهبّ واقفاً ، واحتضنه بلهفة ، وهو يقول :"أ أستاذي..أ أستاذي.. يا مرحباً ..يا ألف أهلاً و سهلاً .. شرفتنا .. نوّرتنا .. مُرنا بأيّة خدمة تشاء.."

وبعد ا نتهاء حفلة الترحيب ، فهم المحافظ من أ ستاذه أنه – أي الأستاذ أحيل على ا لتقاعـد ، بعد خدمة طويلة في الجيش . وأن را تبه التقاعدي ّ لايكفيه ، وأنه يرغب في العودة إلى التعليم ، وأنه جاء إلى تلميذه المحافظ ليعيّنه في إحدى المدارس الواقعة في نطاق محافظته .

ابتسم المحافظ التلميذ ا بتسامة الزهو والخيلاء ، وقال لأستاذه : (كنا نتوقع أن تطلب منا أهم من هذا الطلب بكثير .. إن طلبك هذا أسهل من شربة الماء ) وتناول التليمذ المحافظ ، ورقة رسميّة من أوراق المحافظة وكتب عليها أمراً موجّهاً إلى مدير التربية – في المحافظة نفسها طبعاً – بتعيين الأستاذ ( فلان ) في إحدى مدارس المحافظة ، ويجب أن يعيّن داخل المدينة وفي مدرسة يرتاح فيها ..

وختم الورقة بخاتم المحافظ , ومهرها بتوقيعه :المحافظ الرائد (فلان) .

حمل الأستاذ الورقة فرحاً إلى مدير التربية , الذي نظر فيها .. وابتسم , وحولها إلى الديوان المختص ..

قال رئيس الديوان للأستاذ : ( أمرُ سيادة المحافظ على الرأس والعين , ولكنه مخالف للقانون، إذ ليس من صلاحيات سيادته تعيين الموظفين في وزارة التربية ) وكتب حاشيته على ورقة المحافظ "نأسف لعـدم تمكننا من تلبية أمر المحافظ ، لمخـا لفته نصوصاً صريحة في ا لقا نون "

عاد الأستاذ إلى تلميذه ، وأطلعه على حاشية رئيس الديوان ، فبدأ التلميذ الرائد يرغي ويزبد، ويهدّد با لويل والثبور ، ونبش عظام ا لموتى من القبور ..

فتناول ورقة أخرى ، وكتب عليها أمراً صريحاً جازماً قاطعاً ، بوجوب تعيين الأستاذ (فلان ) . ولا يُقبل أي ّعــذرفي هذا المجال . ولم ينس با لطبع ، أن يُذَكر برتبته العسكريّة ،عند ختم الورقة وتوقيعها ..

عاد الأستاذ إلى رئيس الديوان ، الذي أصَر على موقفه إصراراً شديداً ، مستَمَداً من قوّة القا نون ،الذي ينظم ُعمله ..

فعاد الأستاذ المسكين مرّة أخرى إلى تلميذه ، الذي ثار الدم في عروقه هذه المرّة، فأمسك بسمّاعة الهاتف ، وبدأ يخاطب الموظف – الذي لا يقدّر قيمة الرتب العسكرية – ويََعُنف عليه ، بينما ذاك كان يتكلم بأدب ، وفي حدود القانون .

وقد احتجّ – أي الموظف – بالجريدة الرسميّة ، التي تتضمن قوانين تعيين الموظفين .

وهنا طلب منه ا لمحافظ أن يَحضر إليه ، وأن يُحضر معه الجريدة الرسميّة ليّطلع على ا لقوا نين التي تحول دون تنفيذ أوامره .

وحين جلب الموظف الجريدة الرسميّة ، ونظر فيها السيّد المحافظ ، ألقاها على الأرض بقرف شديد ، وهو يقول با لحرف :" انقلع ْمن هون .. جاي تضحك عليّّّ بكلام جرايد..!؟"

قال الموظف با بتسامة سخرية باهتة خجلى : ياسيدي هذا ليس كلام جرايد،هذه الجريدة الرسميّة التي تحتوي على القوا نين.."

قال الرائد التلميذ : " اخرس .. أنا ما حدا يضحك عليّ بحكي جرايد .."

ثم أمر المحافظ ُ الموظف َ بالا نصراف، وهو يكيل له الشتائم والتهديدات..

فانصرف المسكين ، متأبطاً"حكي ا لجرايد "والتفت ا لتلميذ إلى أ ستاذه محاولاً أن يستعيد هيبته أمامه – بعـد أن حطمها موظف عادي ، لا يحمل على كتفيه أيّة رتبة عسكرية – ويَعدُ أستاذه بأنه سيُعيّّن في ا لتربية،مهما كلفت الظروف ، وأنّه- أي التلميذ الرائد – سيصفي حسابه مع هذا الموظف المشاكس "

وانتهت الحكاية عند هذا الحدّ ..!.