الطريق
الطريق
مصطفى ذكري*
كان عليه أن يقيس زمن ملله ويأسه بمسافات مقطوعة تحجزها جدران شقته عن الاسترسال. كأنّ تجواله البيتيّ يُمثل طقساً فريداً منسياً لديانة لم يعرف متنها الأصلي، لكنه لا يستطيع للطقس دفعاً. خطوات ممسوسة حثيثة تذرعُ البلاط والباركيه والسجاجيد مئات المرات لتحصد في النهاية خيالاً سميناً معلوفاً بتبْن الجنون. تخيل بأسًى لو أن المسافات المُتقطعة المكبوتة بصد الجدران، قُدِّر لها، فمُدت على استقامتها عبر طريق طويل، لكان شعوره بالاطمئنان أفضل مما هو عليه الآن. كان الطريق في حلم يقظته الأبديّ يأتي إليه ممدوداً في صباح شتويّ باكر، تزينه من الجانبين أشجار سامقة، جذوعها سميكة راسخة مستقيمة، وهناك ضباب خفيف يهدهد العين ويُنعِّم الرؤية. أرض الطريق المدكوكة نديَّة ضيقة. كان يعرف أن عليه سير الطريق، إلا أن دوره لم يأت بعد، وما عليه الآن سوى الانتظار. كان الانتظار لا يزعجه، فهو يتيح له التفكير في أمور لطالما أحبها. أمن حقه أن يصبغ سيره بصبغة الأداء والأسلوب؟ كأنْ يلمس بأطراف أصابعه بين الحين والآخر جذوع الأشجار القوية، ويبتسم للمسافات المنتظمة بينها، ويمرر يده بحركة بطيئة- كأنه يملك الغفران لسنوات عمره- على جبهته العريضة؟ أم يكتفي بالسير المُنزَّه عن الأداء والأسلوب؟ فلا شك أن السير في هذا الطريق كاف لنبذ الأساليب جميعاً. كان بعد لحظات من تخيل نفسه سائراً في الطريق، ودون أن يعلم، هل طالت تلك اللحظات أم قصرت، وكيف تم الانتقال، يجد نفسه في وضع مَنْ يتأمل طريقاً آخر شاغراً مُقفراً، من مكان مرتفع. الغريب أن التأمل غير مرهون بالسير أو الانتظار هذه المرة. المكان المرتفع أشبه بكافيتريا تبث بحياء أصواتاً رقيقة، تتفتح أحاديثها وتشتد مع القهوة الصباحية والمخبوزات الخفيفة. كانت أدنى محاولة منه وهو جالس إلى جوار النافذة يستولد حلمه بالصمت وطول التحديق، للفت نظر الزبائن المشغولين بفطورهم وقهوتهم، كافية لضياع الطريق. في الحقيقة لم يكن واثقاً في قدرتهم على الرؤية، ليس لأن منهم مَنْ لا يملك الشفافية والعمق الكافي، بل لأنهم يمثلون هنا في الجوار بحديثهم اليومي جزءاً من الطريق السائر تحت أعينهم بشبحيَّة دائمة. إنهم جزء من اللوحة التي تحتاج إلى مَنْ هو خارجها حتى يستطيع الحديث إليهم عنها. كَتَمَ فرحته بجمال الطريق، وعَجَنَ شوق إعادته في المستقبل بأشكال الإعادة اللانهائية المُتاحة لكل كاتب. وعرف ليس دونما خيبة أمل، أن تحديدات الخيال بعد نقطة الانطلاق اليسيرة، تكتسبُ شيئاً فشيئاً صلابة التحديدات الواقعية، وقد تفوقها تعقيداً، بل تتنكر عندما يشتد عودها من نقطة انطلاقها اليسيرة. ها هو حلم اليقظة بطريق ممدود للسير غير المُتقطع، يفضي إلى طريق آخر، شاغر ومُقفر.
* كاتب من مصر