بائعة السمك

بائعة السمك

مأمون احمد مصطفى*

[email protected]

كان يجب أن ينظر المارة لعيني وهما تتجهان صوب الجالسة كفوهتي مسدسين، لم يكن بإمكاني تحويل بصري عنها ولو هنيهة، لأنها القمر المشوب إشراقه ببقايا غيمة قرب انقشاعها، ليظهر فاضحا جمالا كانت تخفيه بطأطأة رأسها نحو حوض زجاجي تتموج فيه المياه بسبب انسياب السمك بين جدرانه. وقوفي في البداية لم يكن مرتبطا بالمرأة ذاتها، بل بالحوض الزجاجي، بالسمك الملون الذي يدور بحركة محدودة داخل مساحة محدودة، تنتزع منه حرية البحر، امتداده، عمقه، زرقته المتراقصة مع تدفق الموج والتفافه، مع تكسره قبل وصوله الشاطىء. سمك يندفع، فيصطدم بجدار بلوري شفاف، يشتعل غضبا، يحاول الغوص نحو العمق، فيصطدم من جديد بقعر بلوري شفاف، يرتفع وهو مسكون بالغضب، بالحنق، يحس بحاجته للبحر، لامتداد الزرقة، لطعم الملح، للمرجان، لمستعمرات الطحالب، لنوافذ البواخر الساكنة بالأعماق بعد أن دمرتها العواصف وابتلعتها الأمواج. لكن حاجته، شوقه، اندفاع الحنين فيه، يبقى فيه وحده، ضمن عالمه الغامض الذي لا يقيم الإنسان له وزنا. كل شوقه وحنينه، مرهون الآن بين جدران وقعر من البلور الشفاف، مرهون بماء عذب، وأكسجين صناعي، غريب عن السمك، عن خياشيمه، عن حرشفه، عن البحر، عن العمق، عن حرية الانسياب اللامحدود، عن حقيقة الشوق والحنين.

لكن من وسط كل هذا، من وسط صور البحر، السمك الراقص غيظا، تعالت شهقة، شهقة متشردقه، تجثم في الحلق كنتوء صواني لا يكسر، لا يتآكل، شهقة مجروحة، مغطاة بالدم، الدم المتكدر بسبب تقادم الأيام. لم تكن تلك الشهقة سوى امتداد واتصال لشهقة قديمة. لا اعرف مدى قدمها، ولكني أحسه، أحسه بمشاعري، بعمق الإحساس، بقدرتي على تلمس الحزن، الأسى والكآبة. تلك الشهقة هي التي نقلتني من عالم البحر، عالم السمك، إلى التحديق المركز بتلك البائعة، تحديق متأمل يحاول سبر التفاصيل، تقاسيم الوجه، رؤية الجرح الناتج عن الشهقة. أصبحت بحاجة ملحه، ملحة بجنون يتصل بجنون البحر حين يعلن هيجانه متكاتفا مع جنون العواصف والأمواج العالية لدخول عالم عينيها، لأنه من العين، من العين فقط، يمكن دخول عالم البشر، عالم الإنسان، عالم الحزن، الشقاء، الأسى، الكآبة. وهل في الحياة ما هو اصدق من الحزن والأسى والكآبة؟ وهل في حياتي، مساماتي، قلبي، مساحات عمري، سوى كل مكونات الحزن والشقاء والكآبة؟ وما هو الفرق الآن بيني وبين السمك المحتجزة كل عوالمه داخل حوض من الزجاج؟ هو يفتقد البحر، غموضه، جلاله، هيبته، سطوته، يندفع منسابا فيصطدم بالزجاج. وأنا، أنا محتجز الآن- كما كل أيام عمري- داخل لحظة لا اعرف عنها شيئا. وابحث الآن- كما بحثت طوال أيام عمري- عن حزن جديد، ألم جديد، شقاء جديد، كآبة جديدة، لأضيف هذا كله إلى لون جلدي، وتقاسيم وجهي، إلى حركة يداي، وتعب أقدامي.  

وفجأة أحست بتجذري، أحست بالنظرات المسلطة إليها، تسلط السيوف على الرقاب. رفعت رأسها ببطء وتثاقل، فأرسلت بريقا شعشاعا لم يكتمل ارتفاعه نحوي، ورغم انتصاف الطرف، اندفع الحزن كموجة هاربة، لتبدو المأساة واضحة مجسده.

كانت تقبع على حافة الطريق المؤدي إلى سوق الخليل القديم، جلستها تشير لتلهفها في الإياب لبيت، بيت لا اعرفه. لكني أستطيع من رؤيتي لعينيها أن أتخيله.أستطيع من ثوبها، من خرقتها، من جلستها، أن ارسم صوره مصغره في عقلي لذاك البيت. كانت مقرفصة على قدميها قرفصة كاملة، محنية ظهرها بشكل التوائي، جعل رأسها يتكىء على قمة ساقيها، فلا ينظر الناظر إليها حتى يذهب بفكره إلى أنها تتأهب للوثوب كاللبؤة حين يعتدى على أشبالها.

إحساسها بنظراتي الثاقبة الموجهة إليها دون أن تطرف مني العين، غشا وجهها بشيء من حمرة الخجل، وشيء من انطباعات الدهشة، فامتزجت جميعها بنقاء قمري، لتمنح أعماقي شعورا لم أكن قد حلمت به يوما من الأيام. لم تكن قد تجاوزت الثلاثين بعد، كما تقول تقاطيع الوجه، لكنها تجاوزت المئه، كما تنطق المأساة المجسدة بعينيها. مدت يدها داخل الحوض الزجاجي لتعبث بالسمك المتموج اثر مجيء زبون. أخرجت بيدها سمكة حمراء، فلم تعجبه، أعادت الكرة لتخرج واحدة خضراء، فلم تعجبه أيضا. كنت مشدودا إلى حد الهوس، التكسر، لكلمة تخرج من هلالها المكتمل الرائع، كلمة واحدة، كلمة تستطيع أن توصل عالم التأمل الذي اغرق فيه، عالم الصمت الثقيل، بعالم المادة، اللمس، المحسوس. حتى يتسنى لي المزج بين عالمين، عالم الصمت بغموضه، وعالم الرنين بضوضائه. لكن، دون جدوى. أهي خرساء؟ رحت أحدث نفسي! لو صح هذا الأمر، فان شيئا ما، شيء لا اعرفه، سيحدث لهذا الكون، أو إن صورة جديدة سوف ترتسم في ذاكرتي لكل مفاهيم الإنسان، لكل مفاهيم الكون.

-        ماذا تريد أخي؟

انتشلت من عالم آخر لا قرار له، لقد تكلمت إذن، ليس هناك خوف على ذاتي من الانغماس في العجز، العجز عن فهم كيف يكون التناقض، التناقض حيرة عقلي وعمري، لغز حياتي الذي لم استطع حله، والعجز شعور يرافق أفكاري، يسكنها، يستعمرها، يستبيح كل أجزائها وذراتها، لو لم تنطق، لعدت إلى مفهوم التناقض الذي سيدخلني حالة العجز. حمدا لله أنها تكلمت، نطقت، لو لم تنطق...؟

لقد تكلمت. لكن المفاجأة، مضافة لعذوبة صوتها ورخامته، تلك العذوبة المبللة بالجنون، تلك الرخامة الملفوفة بدفء الزعتر، برائحة الحقول، تلك العذوبة والرخامة اندفعت لتندمج بالجمال المنبثق بسبب زوال الغيمة، اندماج هذا كله، بالبريق الشعشاع المرسل من الطرف الذي لم يكتمل ارتفاعه، توحد كل هذا، مع القرفصة الحادة، تداخلت كل هذه الأمور ببعضها، كتداخل الألوان في لوحة فنيه، لتشكل عالما خاصا، نستطيع أن نراه، نتخيله، نضع له شروحا وتفسيرات، نحس به بطريقة ما. لكننا بكل ما نملك وندعي، لا نستطيع إعادة اللحظة، الإحساس الذي كان يحياه الرسام لحظة مزجه للألوان. لإنشائه ذلك العالم المعبأ حتى الفيضان في مشاعر واحساسات، ذهبت كلها، مع ذهاب اللحظة ذاتها.

توحد الصوت مع الجمال، مع البريق، كل هذا التوحد جرني نحو دوامة من الحيرة وفقدان توازن النفس، وبدأت أحاول لملمة شتات نفسي، استجماع ما تبقى من رباطة الجأش، محاولة الوقوف على المحور حتى لا اسقط، وحتى امنح ذاتي استعدادا لدخول عالم جديد، عالم أخر، استشعر قربه ووجوده بطريقة لا صلة لها بقوانين العلم، ولا بقواعد المنطق.

بعفوية كاملة غير مقصودة، دون شعور، ودون أي تخطيط خرجت الكلمات من فمي: ( أريد التقاط صوره لك)، حينئذ علمت بأن قيام الدنيا وقعودها ليس أمر من خيال الشعراء أو الأدباء.

آواه، إنها اللبؤة المتأهبة للوثوب، ولكن على من، علي، ولماذا؟ لكلمة عفوية صادقة، لو كنت تعمدتها ما خرجت بمثل غزارتها العفوي، تداركت الموقف بسرعة فائقة، بسرعة عفوية، لأتحاشى الوقوع في مأزق لا يوجد لي منه مخرج. فأنا داخل مدينة الخليل، مدينة ما زالت تحتفظ بكل مقومات الأصالة ألتي تنتمي لمجتمع الريف والطهارة. فقلت لها:" أنت حرة في أن توافقي أو ترفضي، لكني يا أختاه – وشددت النبرة على حروف يا أختاه- صحفي أجوب قرى بلادي ومدنها، لأحمل للعالم منها حقيقة المأساة ألتي نحياها، وبحكم مهنتي، استطعت استشفاف مأساة حقيقية ترويها عيناك بصمت ابلغ من الكلام، لذلك أحببت أن التقط صورة، تكون جزءا من مأساتنا الكبيرة ".

أطرقت برأسها نحو الأرض من جديد، ضمت رأسها بين كفيها وبدأت تضغط عليه بشدة. فأحسست أنها انتقلت من حالة إلى حالة، انفصلت عن عالم لتدخل عالما أخر، استشعرت الذنب فورا ودخلت دوامة مفاجئة، دوامة هلامية لا حدود لها ولا وصف، لا تلمس، لا تحس، دوامة معبأة بالمجهول، بالغموض، الذنب ذنبي، لا، ما ذنبي أنا؟ بل أنا من حرك الألم، نبشه، استثاره من مكمنه. وكيف لي أن اعرف مسبقا بأني سأفجر الألم؟ سأنهضه من سباته، من خموله؟ وهل كان خاملا أصلا؟ أم انه كان داخلا في حالة سبات؟ لا أعرف! كل ما اعرفه انني أصبحت أسير داخل دوامة عنكبوتية، تحاصرني، تحيط بي، تكبلني، فاشعر بالعجز عن التفكير، عن الإحساس النابض، عن الشعور المفهوم. حتى الناس الذين بدأوا بالتفرق من حولنا، كنت أراهم، كنت أراهم وهم يغادرون المكان، ولكن دون أي إحساس بمغادرتهم، دون الاطمئنان باني نجوت من قبضاتهم، من ركلاتهم التي كنت أتوقعها. ودون أي تخطيط، أو أي إدراك، ظللت واقفا أمامها. أنتظر أي رد، أو لا انتظر، لا ادري! ولكن حين رفعت رأسها، رأيت الدموع المدراره وهي تنسكب لؤلؤية على بريق باهت يدل على تحرك المأساة في داخلها. مأساة انطبعت بدايتها على كلمات حزينة مكسره:-

        - سأسمح لك بالتقاط صورة لي، على أن يكون هناك وعد مصحوبا بالصدق.

        - لك ما شئت.

        -أريدك أن تسمع قصتي كاملة، تنقلها حرفا، حرفا، كما أرويها لك، كما أقول أنا، من غير تجميل أو تدبيج. ودون أن تستخدم فيها لغة الصحافة، أو خيال الشعراء والأدباء. أريدها قصة بسيطة، كما حدثت، وكما أحسست بها أنا، أريدها حقيقة لا تزييف فيها ولا تبطين. حتى يستطيع العالم تبين ملامحها، لونها، تداخلاتها من وجهين، وجه الصمت البليغ، ووجه الحقيقة الناطق الأبلغ.

بدأ وخز الضمير يضرب داخلي بقوة، تتعالى ضرباته كمطرقة فولاذية تهوي فوق كائن رخوي. تمدد صدى الوخزات في صدري وتلوى، كتلوي عش الأفاعي في شهر آب. (أوقف هذه الكذبه، لست صحفيا، فلماذا تثير الأوجاع، تنكأها. اتركها فقد تندمل ). لكن هذا الوخز، ذاك الصدى، كانا يضيعان أمام إحساسي بأهمية القصة. كنت واثقا – ولا أعلم من أين جائتني كل تلك الثقة – ولكني كنت اشعر بالثقة واليقين يسريان بدمائي، بأعصابي، باحساساتي، سريان الروح في الجسد الفتي، سريان النسغ بأغصان الشجر. وكان هذا الشعور المتلازم مع بريق عينيها، ولون الدم المرسوم داخل خديها، يقولان بشفافية أزليه، بان هذه المرأة لا تملك الحق، أي حق، في إخفاء قصتها. لأنها، وكما تدل نغمات الصوت، تقاسيم الانطباع، قصة شعب، قصة امة. قد تتغير الملامح، لكنها تبقى رغم تغيرها، تحمل نفس الجينات، نفس الشفرة الوراثيه التي تصنع مكونات الشخصية وملامحها الكامنة بأعماق أعماق النفس. لهذا، لهذا فقط أصررت على إسكات صوت ضميري، أو ما خلته للحظة ما، صوت ضمير، لاستمر بوصفي أمامها كصحفي يحمل في عدسة آلة التصوير، الوجه الصامت للمأساة، وعلى أسلات قلمه، الوجه الأخر، وجه المأساة الناطق.

في غرفة صغيرة، يتبعثر فيها النظام والترتيب المتقنان بسبب ضيقها الشديد، الذي جعلها صالحة للاستحدام لكل ما يتطلب البيت من احتياجات. فهي تارة مطبخ، حيث تعبق باجوائها رائحة الطبخ المتواضع الزكي الرائحة، وتارة ينبعث فيها جو رطب طحلبي، يجعل الأنوف الزائرة تعطس عطسات متتالية، لأنها تكون آنذاك حماما لثلاثة أطفال وطفله، وتارة أخرى، تنقلب لحضن يفيض بالحنان والأمومة حين يذهب الأطفال في نوم هادىء وديع كوجوههم المتسمة بالبراءة الملائكية.

في ركن صغير منزو، جلست انتظر بائعة السمك التي أصرت على إعداد كوب من الشاي. وما أن استوت بجلستها لأبدأ معها رحلة في عالم تعرفه هي، تحس به، تستشعره وكأنه دائم الحضور في ذاكرتها. وقد بدا ذلك حين بدأت علامات الاضطراب تتجلى بوضوح تام على محياها، اصفرار الوجه، بريق لم استطع تبين كنهه قفز من عينيها، نفور العروق من جيدها لتبدو لامعة الحضرة كزيتون غسله المطر للتو، ورعشة اظهر ما تكون على الأصابع والكفين.

رفعت طارق، اسم زوجي، كان وسيما، جذابا، فياضا بالحب والحنان. لم يدخل يوما علينا بغير اشراقة وجهه من بسمة كانت تنطبع دوما على شفتيه. وجهه ممزوج بحنطة السهل وزيتون الجبل ولوز الوادي، طويل القامة، عريض الجسد، تتناثر فوق رأسه بقايا شعر. في وجهه خشونة مركبة، تتوافق مع تضاريس جبال الخليل، لكنها خشونة مترعة بالحياة، بالنماء، بالتوهج، تماما كامتداد الكروم على مسافات الأرض، وكانبثاق النرجس، تفوح منه رائحة عرق زكي، رائحة تتداخل فيها رطوبة التربة مع أريج الأعشاب الجبلية، الأعشاب البرية، رائحة محببة رغم اندماجها وتلاصق مجموعة من الأشياء في نواتها. كان قويا، تلمس قوته من نظرة عينيه. كان قويا إلى حد، أن أهل البلدة كلهم كانوا يلقبونه بالجبل، أما أنا فقد كنت المس حنانه، أتذوق يفاعته، براءته، حتى يخيل لي انه طفل، طفل صغير، يحتاج مني أن أهدهده لينام. ولكني كنت بنفس الآن، اشعر بقوته العارمة، هيبته الشديدة، قدرته على أن يكون صلبا إلى الحد الذي لا يمكن طيه أبدا. وبين هذا وذاك، كنت أعرف أنني أمام إنسان. إنسان حقيقي، يضرب جذره بأعماق الأرض ليمتص بقاءه وقوته وحنانه من بقائها وقوتها وحنانها.

أحببته بكل ما املك من قدرة على الحب، وكان حبي يتفجر دموعا، دموعا ملتهبة بالعطف، حين كان يعود محملا بحوائج الأطفال. فما أن يدخل البيت حتى ينطلق الأولاد نحوه كسهام، يبدأون بالتسلق عليه وكأنهم يتسلقون شجرة سنديان. فتبدأ عيناه بالتوهج، بالاضاءه، بالإشعاع. ويبدأ بتظليلهم بيديه، بجسده، بحنانه، بعطفه، برائحة عرقه، كما تظلل الأشجار ذاتها وما عليها. ترن ضحكاتهم وهم يخطفون من جيوبه حوائجهم، وتصدح ضحكته وهو يستسلم للهوهم وعبثهم. هو كرمة من السعادة والحنان، نهر من الرأفة، جدول من الرحمة. كنا سعداء حتى استمدت السعادة ذاتها صيرورتها وبقائها من سعادتنا.

حتى جاء يوم.

كان ذلك يوم ثلاثاء. الليل يمد بساطه على البلدة، هدوء تام، مطلق، يخدشه من حين لأخر نقيق ضفدع، أو نباح كلب ضال. نسمات هواء ناعمة، طرية، تأتي وتروح. صفاء شديد في المشاعر المستسلمة لنوم اثر يوم تلامست فيه حبات عرقنا مع جذور الكروم التي عملنا فيها ساعات طوال. سكينة ممتدة فوق أهداب الأطفال، ترفرف فوق رؤوسهم، وتحوم حول وجوههم، تنتقل من هدب إلى هدب، من عين إلى عين، من وجه إلى وجه. أنفاسهم منتظمة، انتظام الهدوء والسكينة ذاتها. ملائكة، ملائكة مستسلمة لنوم يريح الأعصاب والأعضاء من لهو يوم بين تراب الأرض وكروم العنب.

ارتفعنا من فراشنا مرة واحده، حين هوت المطارق الثقيلة على الباب الخارجي كزلزال حرك الأرض وشقها. هجوم شديد، جنود، أسلحه، صراخ، تحطيم لكل شيء. الأثاث، الأبواب، الشبابيك، كل شيء. الزيت فوق الدقيق، العدس فوق الزيتون، البرغل فوق الماء. كل شيء اختلط في كل شيء. أولادنا هجرتهم السكينة، غادرهم الهدوء، الخوف والهلع والرعب، هذا كله سكن ملامحهم، أنفاسهم تحشرجت. أصواتهم كبتت، أضحوا كمن أصيب باختناق هائل مفاجىء، يكاد يسحب الروح من الجسد. دموع غزيرة، غزيرة، انهمرت من عيونهم، كانهمار المطر القادم من سحابة غضبى. جزعت أعضائهم، وجلت قلوبهم، طفولتهم انتهكت، انتهاكا مروعا، براءتهم صلبت على السنة لهيب من الرعب والإرهاب.

انتزعوه من بين أطفاله حين كان يحاول تهدأتهم، ضربوه بأعقاب بنادقهم، رفسوه بأقدامهم. استباحوا رجولته، أمامي، أمام أطفاله، كانوا يتعمدون ذلك تماما. هم يريدون أن يقولوا لي، لأبنائه، بان هذا ليس سوى خيال، عهن منفوش، وليس جبلا كما كان يلقب. بكيت، سقطت الدموع من عيني، نظر إلي من خلال الدماء المتدفقة من رأسه، لكنه كعادته، جبل، لا تهزه العواصف، ولا تؤثر به الأنواء أو الرياح. لكنه بثباته، بانتصاب كرامته وعزته، بعروبته المتأصلة فيه من الروح إلى الروح، استطاع أن يغتال فرحتهم، أن يحطم أسطورتهم المزعومة حين وقف أمامي قائلا: ( إياك إياك أن تبكي، اصمدي صمود الزيتون والخروب، صمود الزعرور والعوسج، واثبتي ثبات فلسطين بوديانها وسهولها وأنهارها، ثبات ميناء حيفا، وبحر عكا، وأسوار عكا، تلك الأسوار التي سحقت كرامة نابليون، ودفنت كبرياء فرنسا تحت ركام الهزيمة وخيبة الأمل، صمود المقولة التي رددها الآباء والأجداد: " لو كانت عكا تخاف هدير البحر، ما سكنت على شاطئه ". ولا تغادري هذه الأرض، هذا المنزل، أرسي جذورك، جذور أولادي، فوق جذور أجدادي وأجداد أجدادي. انزفي عرقك هنا، فوق هذا التراب، فوق المكان الذي سقطت عليه دمائي، امزجي دمعك بدمي، فوق هذا التراب، اسقطي دموعك فوق جذور الدوالي، لترتوي من ماء السماء وماء العين معا ).

لطموه بشده، قيدوه، واخفوا رأسه في كيس طويل، أرادوا أن يحجبوا عينيه عن رؤى الوطن، ورؤية الأرض. لكنهم لم يعرفوا أبدا، بان الذي بين هذا الجبل، وبين تضاريس الأرض، الوطن، لا يحجبه غطاء، أو موت. لم يدركوا بأن عيون الروح، خفقات القلب، روح الوطن، قلب الأرض، لا توقف زحفها حدود أو فواصل. هؤلاء لا يعرفون لغة الوطن، ولا يدركون مفردات الأرض، لا لشيء، سوى أنهم ولدوا بلا وطن ولا ارض. مثل هؤلاء، لا يعرفون بان الوطن يتحرك من مكانه ليدخل رؤى الجبل، وليسكن حبات عينيه. أن الأوطان لا تهاجر إلا هجرة واحده، هي تهاجر فقط من قلب المناضل إلى قلب المناضل. زجو رأسه داخل كيس وخرجوا. قالوا لنا: سيعود، لن يغيب طويلا، لكنه سيعود.

كلمات تقال لذوي كل مناضل، كل بطل، كل مغوار، كل أبي. لكني كنت أعلم بأنه لن يعود قريبا، بل قد لا يعود أبدا. ومرت الأيام، وكلنا متعلقا بحبل من ضياء الشمس بأمل عودته. وطالت الغيبة، اختفت الأخبار. فتيقنت أن في الأمر شيئا يسير بشكل غير طبيعي. فكل أسير يخرج في النهاية خبر عنه. الأسرى كثيرون. يدخلون بوابات السجون ويخرجون. فالأسر والتحرر، أصبحا جزءا من تاريخ شعبنا، جزء نعرفه جيدا، نعيش معه، دون غرابة أو استغراب. ومن خلال المحررين كنا نعرف أخبار أهلنا، إخوتنا، أخواتنا، أزواجنا. لكن، حتى هذا اليوم، ليس هناك أي خبر عن زوجي، كل الأسرى الذين حرروا، كل الأسرى الذين سجدوا سجدة الحرية أمام بوابات السجون والمعتقلات، أمام عدو يتميز غيظا حين يرى الأسرى وهم يؤدون سجدتهم أمام عينيه، ليعلنوا، بلغة رائعة، بان السجون، المعتقلات، ما هي إلا مرحلة، مرحلة التصاق والتحام بأرض الوطن. فأينما وضعنا، أو سجنا، أو دفنا، فنحن نحيا فوق ارض الوطن أو داخلها. والوطن لا اختلاف فيه ولا تنافر. ونحن نعشق ذرة التراب فوق سفح الجبل، بنفس القدر الذي نعشق ذرة التراب التي نحيا فوقها في السجون والمعتقلات أيضا. لأننا نعشق الوطن، نعم الوطن.

إلا أن خبرا لم يخرج مع هؤلاء المحررين عن زوجي. بل أكد هؤلاء جميعا خبرا واحدا: (لم نعرف رفعت، لم نره في السجن أو المعتقل. لكنا سمعنا اسمه، عرفنا انه جبل). انقطع أثره إذن، تلاشى خبره. توجهت نحو المركز لأسال عنه، فقالوا: ( لم يأت هنا ). بحثت في جميع سجون فلسطين، طول كرم، نابلس، نفحه، شطه، بئر السبع، جنين، ألجلمه، لكن، دون جدوى. الجواب واحد" لم يأت هنا ". يا الهي، فأين ذهب؟ أين اتجه؟ لقد انتزعوه من حضن أطفاله، خلعوه من حضني، كانوا بالمئات، الحارة، أسطح المنازل، الطرقات، كلها عجت بهم، بوجودهم، أخذوه أمام الجيران، أمام الليل، أمام القمر، نسمات الهواء تشهد على ذلك، عروق الدوالي، سنابل القمح، شهد النحل، صداح البلابل، نقيق الضفادع، نباح الكلاب الضالة، الأعشاب، دموع أطفاله، شهقاتهم، تنهداتهم، وصيته لي التي لا زالت تعمر القلب وتسكن الجدران، عناقيد العنب، سكينة الليل التي فرقوها بسلاحهم. لقد انتزع من أحضان هذا البيت القائم بحضن الوطن. وضاع، ضاع.

ولكن، أين يمكن أن يضيع؟! في ذرات تراب أرضه، أم في قلب زيتونه؟ أيعقل أن يكون تائها ألان في ساق سنبلة من سنابل الوطن؟ آه لو اعلم، لكنت مددت يدي لانتشاله أو أتوه معه! ولكن، كيف يعقل أن يتوه الإنسان في وطنه، لا، هو لم يته. بل لا يمكن أن يتوه أبدا. لان المعادلة ستكون ناقصة، مبتورة، لايمكن وصل أجزائها أبدا، بل لا يمكن تركيبها، لا رياضيا، ولا منطقيا. هو ابن لهذه الأرض، انبثق من رحمها، كانبثاق الحق من رحم الحرية. بينه وبين الأرض، بين مساماتها، مساحاتها، أشجارها، حيواناتها، زواحفها، بين ثقوب النمل، خلايا النحل، أعشاش الزنابير، أوكار الأفاعي، بين كل هذه، وبينه علاقة مركبة، هو يفهمها، وهي تفهمه. فالمناضل لا يمكن أن يكون بعيدا عن وجيب الأرض، عن نبض التراب، عن هسيس الأعشاب، خرير المياه. ذاكرته حادة حادة، حادة إلى درجة أنها تحفظ الأرض بتضاريسها. ليس هناك تلة او منحدر، مغارة أو شجرة، صلعاء أم كثيفة لا تعرف وجهه الأسمر. وكان هو أيضا يعرفها. كثيرا ما سمعته يناجي حجرا، شجرا، عشبا، هواءا، فضاءا، سماءا، وماءا. كان يناجي كل شيء قائلا: " لا تحزن فانا منك ولك، لا توقف تدفق الحياة، تدفق الخضرة، تدفق النماء، أنت فوق الحدود، فوق المعادلات، فوق كل ما هو كائن، وما سيكون، سرمدي أنت، ممتد، امتداد الروح، خالد أنت، مسكون بالخلود، أما نحن، فإننا جنود قدسيتك، فدائيوا خلودك، أبطال سرمديتك. لا تحزن، بل فنحن منك إليك. لا تنظر للأعداء، لا توقف سخاءك بسببهم. امنح الحياة روحها، واترك أمرهم لنا. نحن فوق كل ما يمكن أن يمس سخاؤك ونماؤك وجودك. نحن الدفق الذي يذوب، يتلاشى، من اجلك. أجسادنا، أجساد أجدادنا، أجساد أجيالنا القادمة، كلها فداء لامتدادك في روح الجود ".

وحين كنت أراه على هذا الحال، لم أكن أجرؤ على الاقتراب منه. لأني كنت اعرف يقينا انه كان يغوص في حالة من الخشوع المتناهي، بل وكنت أحس يانه يخرج من جسده إشعاعات تنتشر في محيطه، فتجعله داخل دائرة محمية، محمية بطريقة خاصة، بقوة خفية، لا تتحقق إلا للأبطال الذين مثله. وحين كان ينهي تأمله، بوحه للأشياء، كان يندفع نحوي، نحو الأطفال، يضمنا إلى صدره، فنشعر بسكينة هائلة، بدفء هائل. كانت مساماتنا تتلامس لتمتزج حبات عرقنا ببعضها قبل ملامستها للأرض أو ملامستها لجذور الكروم، أما قلوبنا فقد كانت تخفق معا حتى لا نعود ندري قلب من الذي يخفق أولا، حتى وجيب الروح كان يندمج اندماجا تاما. أرواحنا تنصهر في بوتقة واحدة. فتتعاظم احساساتنا بالحياة، بقوة الروح المندمجة، ثم وبهدوء، يتركنا ويذهب نحو الأرض، فالأرض تحبه، فلا عجب إن توحد فيها وتوحدت فيه.

في أحايين كثيرة كنت أساله: هل تظن بان الأرض والأشياء تفهم شيئا مما تقول؟ ما تبوح به لها؟ كان ينظر الي بعينين حانيتين، وبنفس اللحظة تفتر عن شفتيه بسمة ويقول: "يوما ما، قريب جدا، أراه كما أراك ألان أمامي، ستسمعي صوت الأرض، صوت الأشياء. وعندئذ ستعرفين وتدركين، ما هي أسرار الأرض. ما هو سر الوطن ".

الآن أدرك تماما، معنى كل حرف، كل كلمة، كل همسة، كل نبضة. أنا الآن، افهم تماما كيف تخاطب الأرض أبطالها، وكيف يخاطب الأبطال أوطانهم. وأدرك حجم السر الكامن بين الخطابين.

غياب رفعت، لم بكن غيابا عاديا، غيابه بالنسبة لي، يعني غياب الحب، الرحمة، الرأفة التي كانت ترفرف فوق البيت، فوق رؤوس أطفالنا. من بعده سيأتي حاملا عرائس السكر؟ من سيجلب لهم حوائج طفولتهم؟ من سيلفهم بساعديه ليظللهم بالحنان النابع من سويداء القلب؟ من سيرسم على شفاههم بسمات الطفولة؟ بل من سيرسم على جباههم لون القمح؟ لون الرمان؟

بعد غيابه، كان الأطفال يتعلقون بثيابي. يسألون بلثغة الطفولة، ببراءتها التي انتهكت، عن والدهم، عن عرينهم، عن موئلهم. فاخبرهم بأنه ذهب للأرض، اندمج في الزيتون، في العناب، في الحناء، في الكرز. وهو يطلع مع كل ربيع، لينشر عبقه وينثره في الهواء، يوزعه على النسيم عطرا، عطرا فواحا، يغطي الأفق وينتشر في الفضاء أريجا تختلط روائحه مع المسك والعنبر، مع الرياحين والياسمين. لم يفهموا شيئا مما أقول، لكنهم كانوا يحفظونه، يحفظونه في ذاكرة بيضاء بيضاء. لكن، وسط تلك الذاكره تتربع صورة الجنود وهم يستبيحون براءة طفولتهم، بوحشية ترفضها الغابة، وتأباها الأدغال. دخل الألم دائرة طفولتهم، دخلها بطريقة لا تستقيم مع الفهم الإنساني، تربع، نشر جذوره، تمكن منهم تماما.ذاكرتهم غصت بالجنود الذين اقتحموا هيبة الجبل وقوته. وأنا لست بعيدة عنهم، عن إحساسهم، كنت ارقب تطوره، تضخمه، بل وكنت أغذيه، أنميه، وفاء للأرض، للوطن، للجبل، للإنسان. همي كله كان منصبا على أن يمتلك أولئك الأطفال شعور الوفاء للصورة التي حطمت طفولتهم، لتجعلهم رجالا وهم في تفتح أول براعم الطفولة. ولم أهدا، ولم اطمئن، حتى جاؤني يوما، ليعلنوا أمامي، بلثغة أحبها الجبل فيهم، بأنهم لن يغفروا أبدا لاؤلئك الذين دخلوا كخفافيش الليل أرض الجبل وحرمته. عندها، عندها فقط استطعت أن اعرف بان روح الجبل، روح رفعت، قد سكنتهم تماما. وعندها عرفت بان الأرض، الوطن، قد ارتفع من مكانه ليلامس جلودهم وحبات عرقهم، بأنهم غادروا ذاتهم، ليحطوا داخل رحم الأرض، ليولدوا مع كل ربيع ناشرين عبقهم، ناثرين رائحتهم في الفضاء والسماء.

مثل رفعت لا يتوه أبدا، لا يفقد طريقه داخل الأرض، أو على شوارع الوطن. بين رفعت وبين كل شيء فوق هذه الأرض علاقة، علاقة مميزة، تصل إلى الاندماج، الذوبان، التوحد، التداخل. فكل سنبلة من سنابل القمح، كل غصن من أغصان التين والدوالي، كل حبة من حبات الزنزلخت والبلوط، كل جذر من جذور الزعتر، النرجس، القراص، الحنظل، إكليل الجبل، كل شيء في غيرها، يعرف وجه رفعت تماما، ويعرف نبض قلبه. رفعت أتقن تماما لغة الحجر، بل وكان يسمع الأرض حين تستدعي حبات المطر. كان يسمع همس البذور وهي تستأذن الأرض لتخرج منها للشمس، باستحياء وخفر. مثل رفعت لا يتوه، لا يضل طريقه أبدا. بل لا يسمح الوطن وما عليه بان يتوه أو يضل طريقه. وحين اعجز عن إيجاده، عن قراءة أخباره. سأنتظر، سأنتظر الريح، النسيم، سأنتظر الضفادع، خلايا النحل، عبق الورود، تضوع الزهر، سأنتظر كل ما فوق الأرض، وما تحت الأرض، ليوم يصطف فيه كل هذا أمامي، حاملا روائح عرق رفعت، لمسات حنانه، سأنتظر يوما يأتي فيه الوطن كله، مرة واحدة، ليقول لي: " أنا رفعت".

انقضت الأيام، تتالت، وجاء رجال الظلام، خفافيش الليل والتاريخ، ليعلنوا أمامي، بان الزمن الذي املكه لإخلاء البيت هو أسبوع واحد فقط، وإلا فأنهم سيهدمونه فوق رؤوسنا، فوق رؤوس الأطفال.

ومر الأسبوع دون أن أحرك إبرة من مكانها، لم أحرك قطعة أثاث، لم أحرك شيئا. هو بيت حر، وبيوت الأحرار لا تركع أبدا، بل تظل شامخة ترنو للسماء. وكيف افعل ذلك وقد كانت وصيته، أخر كلماته لي، أن أبقى هنا، رغم كل شيء، ثابتة كطود، كجبل، وان ارسي جذوري، جذور أولادي، فوق جذور أجداده، وأجداد أجداده. تلك وصية رجل حر، حمل الأرض في كل حرف من حروفها، وحمل التاريخ في كل نفس من أنفاسه، تلك وصية رفعت، بل تلك وصية الجبل.

بقسوة بالغة، انتزعوني وأطفالي من البيت، السيارات مصطفة، الجنود منتشرون في كل زاوية، بنادقهم موجهة نحو البيوت، نحو الناس، نحو الجدران، نحو صدور أطفالي. وقفت بعيدا، أطفالي يلتصقون بي، يصرخون، يبكون، تخرج أصواتهم مشروخة متألمة، تتلوى من اللوعة. والناس، رجالا، نساء، يقفون مأسورين، لا يعرفون ماذا يصنعون. العجز يشلهم، يكبلهم، ينقض عليهم، يلغيهم. أما أولئك الخفافيش، فقد كانوا يضحكون، يتهامسون سخرية منا. الفرحة وهم يزرعون المتفجرات، بادية، واضحة على وجوههم. يا إلهي، كيف يمكن لهؤلاء أن يكونوا فرحين؟ سعداء؟ وهم يهمون بتفجير ملاذ لأطفال؟ أطفال تقطر البراءة منهم؟ هي فرحة الوحش حين يستبد ولغا بدماء ضحيته. لكن الوحش يقتل حين يحس بالجوع فقط، وفق شريعته، وفق منطقه. أما هؤلاء فإنهم يقتلون، يفجرون، ينسفون، حبا بالقتل، عشقا بالتفجير، إيمانا بالنسف. هؤلاء مركبون ومجبولين ليكونوا قتلة. هذا دورهم في الحياة، هذه مهمتهم في الوجود. القتل دينهم، عقيدتهم، مكونهم الأساسي. مثل هؤلاء فقط، لا يمكن أن يكونوا سعداء دون قتل، دون دماء، دون جثث.

وبلحظات، لحظات فقط، كانت الجدران ترتفع في الفضاء. تهاوى كد وتعب سنين طوال، أصبح ركاما، كومة من الأحجار، من الغبار، لكن رغم ذلك كله، يبقى هذا الركام، هذا الغبار، جزءا من الوطن، من مكوناته، من نبضاته. بهاليل هؤلاء الخفافيش، لقد ظنوا أنهم استطاعوا إفناء الثبات والعزيمة، النضال. لكنهم ذهبوا، ذهبوا دون أن ينظروا للأسفل، مكان البيت المتطاير. هناك ست جذور ما زالت متأصلة بأعماق الأرض، هذه الجذور لم تستطع عبواتهم خلعها، ولن تستطع. لأنها أقوى من انفجاراتهم، وأبقى من وجودهم. هي جذور الخلود، وهم رعاة الفناء، وأنى للفناء أن يهزم الخلود؟!

جذورنا أرساها الجبل، جدا خلف جد، وجيلا خلف جيل. أما هم، فليس لديهم أي جذر يمتد في الأرض. لقد حاولوا كثيرا أن يصنعوا ما يشبه الجذر، لكن الأرض لفظته ولفظتهم، حتى المزبلة التي خلف هذه التله، رفضت وبقوة، رفضا قاطعا أن تقبل جذرهم الصناعي. حتى المزبلة، لفظتهم. وسيأتي اليوم، اليوم الذي سيخرجون فيه من هنا، خروج ابدي، لا رجعة بعده.

كانت البائعة قد بدأت الدخول في عالم خاص، حين انتصبت واقفا ونظري مركزا على الحوض البلوري الكبير المليء بالأسماك. كانت إحدى السمكات تنظر للبيض وهو يفقس، خرجت أربع سمكات ملونة، حمراء، خضراء، سوداء، بيضاء. وحين هممت بالخروج، وقع نظري على الأطفال الأربعة الذين سيأخذ كل منهم لونا من ألوان السمك الذي خرج توا من البيضة.

أسبوع مر علي كأنه الدهر كله وأنا انتظر انتهاء تحميض الفيلم، وما أن انقضى، حتى اتجهت وكلي حماس لآخذ أجمل صورة صاغها التاريخ. ودخلت لأجد الصاعقة بانتظاري...

إن الفيلم محروق.

                       

*فلسطين- مخيم طول كرم