غائب .. حيث يجب أن أكون
للقاصة: لبنى ياسين
آلاف (اللاءات) و ال ( لماذات ) تعشوشب في مجاهل ذاتي وتطفو طحالبها على مستنقع الخيبة , وتبعثرني أسئلة لا أجوبة لها بين غيابين وحضور فاحش.
أكاد أغرق في عوالم مزرية يحكمها الرفض الذي يغشي العيون من حولي , لم يعد للخداع مكان, ولا للكذب معنى .. من الواضح أننا جئنا هنا من اجل قضية ليست موجودة لنقاتل شعبا أمِنّا في أرضه فنحرق بقايا إنسانيته, ونوسعه حزنا وثكلا وألما.
يقتات الناس من حولي غربة وطن لم يعد لحدوده متسع لفرح ولا لأمل ولا لأمان , ولم يعد فيه مكان لخيبة إضافية واحدة , فقد نضحت الأرض بما فيها.
ابتلع مع نظرات البشر المتوجسة شرا ألف خنجر و ( لماذا ) تغوص في حلقي بطعم الحنظل ووخز الشوك.
اشتاق لمنزلي, لأمي, للحي المفعم بالحياة , للحانة , للرصيف , ولشقرائي التي لم تعد تنتظرني بعد أن طال غيابي ,ويباغتني ذلك الإحساس باليتم, فأتساءل بيني وبين نفسي: لماذا لا نحس بقيمة الأشياء إلا عندما تستبعد خرائط الأمكنة والمسافات ظلال أجسادها عن مدى أنظارنا؟ولماذا يكون عندها للفقد طعم الفطام الأول؟واقف عند حدود أسئلتي التي لا امتلك أجوبة لها, احتسب أيام الغربة المغرقة باللاجدوى , فلا أجد لأبعادها ظلال نهاية انتظرها , ولا شبح أمل يحدوني للفرح.
من الحمق أن تخوض معركة ليست لك لتحصد انتصارا وهميا تعلقه على جمجمة تكتشف في النهاية أنها ليست سوى جمجمتك المتعلقة بحبال التساؤلات التي لا تجد لها إجابات مقنعة أو حتى مواربة تجعلك تغمض عينيك بشبه ارتياح.
ومن الجنون أن تفقد أصدقاءك واحدا تلو الآخر , وتبحث عنهم لتجد أشلاءهم الممزقة وقد أضحت وقودا لنار لم تدفئ أضلاع خيبتهم يوما.
والغريب في خضم كل هذا الجنون المتدفق كّم المستحيلات التي تعيشها وأنت تحاول أن تجمع أشلاءك وتلملم بعثرتك , أن تجد لنفسك مبررا لكي تعود أنت كما كنت سابقا إنساناً لا يعيش ازدواجية حضارة لم يفهم ما الذي أوقعه في براثن تناقضاتها , إنساناً يعيش قناعاته ويتصرف من خلالها , لكن ذلك يبدو خارجا عن المنطق , فأنت تتعاطف مع عدو قتل منذ دقائق فقط احد أصدقائك , ذلك الذي كان يتمتم قبل موته بقليل ترانيم نشيدك الوطني ذاته , فهل تخذل جثته أم تخذل قناعاتك ؟؟ وهل تقف مع انتمائك وأنت تعرف أن أصحابه ليسوا على حق أم تقف في جبهة ضد نفسك ؟؟
يداك الملوثتان بالدم , وجسدك الكليم المسجى بالدم والجراح , لأيهما تنتمي ؟؟ لأيهما تنتصف ؟؟ أليديك وهي تقتل الأبرياء كل يوم ؟؟ أم لجسدك الذي اخترقته رصاصات عدوك المزعوم وهو يحارب في معركة ليس من أهم صفاتها التكافؤ أو العدل ؟؟.
تريد أن تعود إلى أرضك ؟ أن تستيقظ صباحا لتكتشف أن ما عشته لم يكن إلا كابوس يوم كئيب فتجتث بكل بساطة كل تفاصيله دفعة واحدة ؟ تتقيأها من أحشاء دماغك وتتظاهر بأنها لم تحدث مطلقا ؟؟.
لكنك بدلا من ذلك تستيقظ على غثيان أسئلتك : لماذا يستيقظ العراقي صباحا ليجدنا وقد زرعنا أرضه دمارا ودما ؟؟
أين تلك الديمقراطية التي زعمنا أننا سنقدمها على طبق من الفضة للعراقيين؟؟ وكيف حدث أنهم يقاتلوننا مع ما قيل لنا بان الشعب العراقي سيستقبلنا بالهتاف والترحيب ؟ وما جدوى تواجدنا هنا ونحن نحصد الأرض دمارا وتحصدنا عملياتهم الانتحارية موتا ؟؟ كيف بلغ الكره بيننا أن يقتلع احدهم روحه من بين دفتي صدره ليقتل ما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة منا ؟؟
لا .. لا لم يكن يوما هذا مفهومي للترحيب الذي انتظرته.. هل يساوي النفط كل هذا الدمار؟؟ الم يكن ارخص لنا أن نشتريه مهما بلغ سعره ؟؟ من هو الإرهابي ؟؟ أهو حقا صاحب اللحية والعمامة ؟؟ لا بد إذن أن لنا ألف عمامة ولحية مخفية كما هي أسباب حربنا هذه.
أسئلة تكاد تشق صدري .. تغتالني في اليوم ألف مرة فابتلعها على مضض .. احمل سلاحي في وجههم خارج الثكنة , وارثي لهم وقد ضمتني حواف سريري في رحلة منفردة مع الذات .. انتمي للجيش الأمريكي صباحا , ويدميني سجن أبو غريب وسجن الديسكو ليلا .. وما بين تقلبات الليل والنهار يغشاني ألف انقلاب وانقلاب يتداول أعضاء جسدي ورؤيا حواسي وأفكار رأسي .
لقد خُدعت ... نعم لقد خُدعت .. فأنا لست هنا في مهمة نبيلة لأحمي شعبا وأعمر أرضه بالحرية , بل أنا هنا اغتال وطنا ليس لي , ولست كما كان يبدو لي أحارب الإرهاب من جبهة الديمقراطية , إنما أنا أمارس جميع أنواع الإرهاب التي لم تخطر ببال احد , بين ممارسات أناملي وممارسات بني جلدتي وحكومتي... مذنبون مذنبون حتى العظم في دمار مدقع أصاب امة بكاملها .
أين أنت " حمورابي " لتحاكمنا بشرائع العدل على اغتيال العدل على أرضك ؟ أين أنت لتعّرف لنا الحضارة من جديد بعد أن التبس أمرها علينا ؟ وأين حضارتنا من بدائيتك المتحضرة؟
البارحة , وفي جلسة شبه حميمة ضمتني وصديقيّ جون وجورج , اقتحمتنا فيها جذور الحنين حتى النخاع فارتفع صوتي فاضحا هشاشة أفكاري أمام جبروت معتقداتهم قائلا : إن ما نمارسه على هذه الأرض هو الإرهاب بأم عينه , فأجابني جون ساخرا : ومن سيحاكمنا ؟ من يجرؤ ؟ صدمتني تلك الفكرة تماما , تلك هي القضية إذن , منطق الأقوى.. فما دمنا نحن الأقوى نستطيع أن نعبث بالكلمات والمفاهيم بمباركة كل ضعيف في الأرض .. ما دمنا الأقوى نستطيع أن ندعو إرهابنا عدالة , وهجومنا دفاعا, واعتداءنا حقا .. ما دمنا الأقوى فلا بأس من أن نصنع سلّما من جماجم الشعوب لنصعد عليه إلى عرش الاستبداد .. ما دمنا الأقوى فان إراقة الدماء لا تعتبر إلا قربانا للوصول إلى مجلس قرب أقدام كبريائنا . وقد يغدو كل دم نريقه ماءً آسنا لا ثمن له في ميزان القوة .
وأنا الذي أتيت مخترقا البر والبحر في قضية خلتها نبيلة , قضية عادلة تتلخص في ذهني أيام السذاجة الأولى في حق كل إنسان في حريته , كنت اعتقد أننا ( محكومون بالحرية )* , وان لكل إنسان الحق في أن يرفع عقيرته معترضا رافعا (لاءه) عرض سماء الكرامة , فإذا بي أنا نفسي صاحب القناعات المقنعة والشعارات البراقة بالزيف اختنق ب (لائي) وهي تتضخم في داخلي لتصبح سرطانا يجتاح كياني .
أتلقف أخبار الوطن : أمريكا بلد الحرية فاسمع خبر الإعصار الذي سيبدأ باجتياح ولايتي ولا يعلم غير الله مدى ما سيدمره ؟ لست ادري أي إعصار اشد وقعا ؟ إعصارٌ زلزل كيان معتقداتي وحطم عوالمي الداخلية , أم ذلك الذي سينطلق نحو ولايتي ومنزلي هناك في أمريكا ؟.
اطمئن نفسي .. نحن بلد الحضارة .. لن تهزمنا بدائية الطبيعة .. لا بد وأنهم الآن يقومون بتلك الإجراءات التي تضمن سلامة مواطنينا , اكلم أمي , تبكي , تنتحب , ومن خلال آهاتها الحرى تأتيني كلمة لا تقلق .. كل شئ على ما يرام , فلا اقلق , لأنهم قالوا لامي أن كل شئ يسير بشكل جيد.
يضرب الإعصار شواطئ الوطن , وتضربني أمواج الحنين بقوة .. تنهار المباني بقوة الأمواج التي فاقت توقعاتهم .. وتنهار أعصابي بالدمار الذي يحدق بي من كل صوب خارجا عن حدود كل الاحتمالات الممكنة .. تستحيل كاليفورنيا أطلالا خربة لا تقل عن العراق دمارا ووحشة .. ويستحيل قلبي مدينة ضربها إعصار الأكاذيب الكبيرة والشعارات الزائفة .. تمر كاميرا المصور أمام منزلي .. كنبتي الحمراء التي ما كنت اجلس إلا فوقها صامدة وحدها بين أشلاء كل شئ كان يوما شيئا , وحدها كنبتي الحمراء بقيت صامدة في وجه إعصار اكتسح حتى بيوت النمل .. تتصل خالتي معزية بموت أمي , أمي التي كانت ترجوني أن أعود خوفا من أن تتلقى خبر موتي هنا على غرار ما حدث مع آلاف الجنود الأمريكيين, فإذا بي أتلقى خبر موتها على جبهة الإعصار.. يخرج المذيع وعلى وجهه أشلاء آخر خيبة تلقاها في يومه ليعلن أن الآلاف ماتوا تحت الأنقاض بسبب نقص الكوادر العاملة بالإنقاذ و قلة المروحيات التي كان يجب أن تتوفر في مثل هذه الكارثة لتنقل البشر خارج حدود المدينة المنكوبة ..يا الهي ؟ ! .. ها أنا هنا اختنق بين حرائق العراق وفيضانات أمريكا, حاضرا حيث يجب أن لا أكون وغائبا حيث يجب أن أكون , القي نظرة خارج حدود الثكنة لأرى عشرات المروحيات تزين الساحة باستكانة صمتها بعد غارة قضت فيها على من قضت , ويتمت من يتمت , وأثكلت نساءً ليس من بينهن أمي .. يا الهي.؟! ألم يكن من الأجدى أن تكون مروحياتنا هناك في الوطن لتنقذ أمي ؟؟ هل مكاننا حقا هنا ؟؟