ماسح الأحذية
ماسح الأحذية
نور الجندلي
مضى يجولُ في شوارعِ المدينة صامتاً ، منكّسَ الرأسِ كجنديّ هُزم في ساحة
المعركة .. لكنه لم يكن مهزوماً أبداً ، بل علت ثغره بسمة غريبة ، استقرت معه في
بقعة حدّق إليها طويلاً ، وكأنه يقيسُ أبعادها ليبني هناك مملكته .. ثمَّ أخذ
أدواته منطلقاً إليها ، باسطاً منضدة صغيرة وكرسياً قزماً يجلسُ عليه بكلّ ارتياح ،
فهو يثقُ بأنه قادرٌ أن يحملَ ثقله ، وثقل الزمان على كاهله ، يترقّب مرضاه من
الأحذية الجريحة والمتألمة بشوقٍ كبير !
صمتهُ المترقّب يوحي بثقته البالغة
بنفسه وأدواته ، عيناه ترتكزان على الأقدام ، هاهي الأحذية تأتيه راغمة ، تحملُ
أحزان الرّصيف ، وآهات الشوارعِ التي تاهت في هموم الزمان ..
المدينةُ كلّها
تنساقُ إليه ، الوفودُ المشبعة بالأطياف الملونة ، الناس وأشباههم كلّهم يقفونَ
أذلّاء قربَ مملكته !
الكلّ يخلعُ نعلهُ ومعهُ يخلعُ رداء الكبر ، ويقف منصتاً
باحترامٍ بالغٍ لسيمفونيّة الفرشاةِ وعلبةِ الطلاء التي يلقيانها ببراعة على مسامع
الحذاء المتعب ..
بلحظات قلائلَ تجرى عمليّاته التجميلية ، ويسرى الحزن عن
الحذاء المتألّم ، حين يفضفضُ لطبيبه في تلك اللحظات القلائل ، ويخبرهُ عن مدى
إذلالهِ وإهانتهِ من قبلِ صاحبه قاسي القلب ..
ويداوي ماسح الأحذية الجراح
بلمساتهِ الرّقيقة ، ويعزّزُ في داخلها الأملَ وحبّ الحياة ، يخبرها دائماً أنها
جميلة جداً ، وأنّها ستعيشُ طويلاً ، وأنه مازال أمامها فسحة عطاء ..
وتنتشي
لحديثهِ طرباً ، وتنحني امتناناً ، فهو بالنسبة لها معلّمٌ فذٌّ لا يشقُّ له غبار ،
تحاولُ بصمتِ أن تتعلم أبجدياتهِ الرائعة في الحياة ، تحاول أن تتسلّق هرم معرفته ،
كي تحيا بأمل ، وتجتلب لنفسها سروراً بما تقدّمه ..
تودّعه وقد تعززت في داخلها
الثّقة ، وسكنها الأمان ، وشعرت بكينونتها ، وتحاملت بصبر على مصيبتها في إذلال
صاحبها لها فهي تحتسبُ في ذلكَ أنها نجحت في تأدية مهمّتها على أكملِ وأحسنِ وجه
..
وقفتُ بينَ الجموعِ أتأمّلُ مهارة هذا الإنسان البسيط في صناعة الأمل ،
وتلفّتُ حولي .. فإذا بأشياء كثيرة تتهاوى ..
قرأتُ أصوات نحيبها في لوحة
النسيان ..
عدّتُ إلى منزلي .. أصلحتُ لوحة الصّالة المائلة ، لمّعتُ أحذيتي
،
رتّبتُ خزانتي ، عطّرتُ غرفتي ، ونثرتُ أصص الزهر على شرفتي ....... ثم
ابتسمتُ
للأمل