بين الوهم و الحقيقة
بين الوهم و الحقيقة
لبنى ياسين
دخان كثيف و أشباح تتراقص بجنون .. صخب و ضجيج .. العالم مجنون حقا . وهو في لجة الصخب تائه , تتراءى له تلك الأشباح .. تتراقص فوق جسده .. يسمع أصواتا تهزأ منه و صراخا مجنونا يطبق على سردابي أذنيه فيبدو و كأنه سيصاب بالصمم قريبا ... أركان جمجمته أضحت كطبل فارغ مجوف و الصوت يتردد داخلها صدىً هازئا .. فتح ورقة صغيرة مطوية بعناية فائقة من كل الاتجاهات منعا لتسرب ما في داخلها .. سكب قليلا من البودرة البيضاء و اخذ يحضر جرعته الثانية لهذا المساء .. واحدة لم تعـد تكفيه, فالصداع يسحق رأسه , و كل شئ مجنون مجنون .
وضع البودرة البيضاء على ظهر كفه و رفع كفه الآخر بنشوة غريبة و اغلق بسبابتها فتحة انفه اليمنى و اقترب برأسه من المادة المستلقية على ظهر كفه و استنشق جلها بحركة متقـنة كأنما أدمنها هي الأخرى , و رفع رأسه نحو السقف و هو يسحب الهواء المختلط بتلك المادة بكل قوته و بنشوة من الصعب وصفها , و كأنه يخشى أن تفلت منه إحدى ذرات تلك المادة فتنقص مقدار نشوته ... صارت الأشباح اكثر طولا و اشد سوادا ... لاحت له الأضواء المتراقصة في ذلك المكان السنة لهب شيطانية تحيط به و تتمايل على أنغام الموسيقى الصاخبة التي تنبعث من كل الاتجاهات ... ازداد صداعه و كاد أن يفتك به ... حاول أن يحمل نفسه على الخروج من ذلك الصخب الشيطاني إلا أن جسده تهاوى و لم يستجب لأوامره ... ( لا بد من جرعة ثالثة ) قال بينه وبين نفسه ( و إلا انفجر رأسي) .
( جرعة ثالثة) صارت الجملة تتردد في رأسه بنفس الرتم الذي تصدح فيه الأغاني ... لم يستطع أن يميز .. تراه الصوت في الحفلة ينطلق من رأسه أم انه يستولي على رأسه قادما من المكان حوله , ثم عاد و ضن على نفسه بالجرعة الثالثة إذ أن ما اشتراه اليوم من تلك المادة اللعينة كاد يودي بحياة أمه ... أمه التي يحبها بطريقة استثنائية فهي كل ما لديه و مع ذلك لم يتوان عن فتح خزانتها و الاستيلاء على مجوهراتها و دفعها أرضا عندما حاولت أن تردعه عن سلب ما تبقى لديها من مجوهرات ... (لا بأس) قالها بينه وبين نفسه (ستتحمل ذلك كما تحملت ما قبله) و التمعت دمعة تحاول الانفلات من عينه قسرا .. سأل نفسه ترى هل تعرف أمه كم يؤلمه أن يعاملها بهذه الطريقة ؟؟ هل تعلم كم يحبها ؟ و كم مرة قرر أن يمتنع عن استنشاق تلك المواد لاجل عينيها ؟؟ لكنه لم يستطع .. كل محاولاته باءت بفشل ذريع و عاد اشد حاجة لاستنشاقها من ذي قبل .
عاد الصداع يشتد اكثر فاكثر (آه يا أمي لو تعرفين كم يتعذب ابنك ) .. صارت الأضواء تحرق عينيه و تلتمع داخل تجاويف دماغه ... صار الهواء خانقا كأن الأوكسجين قد فرغ من المكان .. و بدأت الأشباح تلتف حوله و تضيق الدائرة عليه شيئا فشيئا , و كلما ضاقت الدائرة كلما طالت الأشباح اكثر و اشتد تواتر حركاتها عنفا و تراقصت السنة اللهب بطريقة اكثر شيطانية و زاد غثيانه و صداعه ... صرخ بأعلى صوته مناديا أمه إلا أن صوته لم يتجاوز أذنيه .
اخرج ما تبقى من الهيروين ووضعه للمرة الثالثة على ظهر كفه , إنما هذه المرة باستعجال و دون أدنى نشوة ... استنشقه مرة واحدة و اغمض عينيه هربا من كل الشياطين التي في الدنيا ... إلا انهم خرجوا إليه من ظلام أوهامه فارتعد و فتح عينيه ... لم يجد ثمة فرق بين تصوراته و الواقع كلاهما مر مخيف ... بل لم يعد يعرف ما الوهم و ما الحقيقة , فالأشباح ذاتها تحيط به سواء اغمض عينيه أم فتحها و تضيق عليه الخناق اكثر فاكثر ... و تنفسه يصبح اكثر صعوبة ... يتحشرج النفس في محاولة مستميتة للدخول إلى رئتيه لكن ذلك يبدو معركة طاحنة بين الموت و الحياة , و يصبح التنفس حربا ضروسا بمعنى الكلمة ... يحاول انتزاع نفسه انتزاعا من لجة الجنون هذه إلا أن كل ذلك يذهب عبثا , فعضلاته تعلن العصيان التام لأوامره و تحكم الأشباح سيطرتها عليه تماما و تمتد اكفها السوداء باتجاه رقبته و تحكم الإطباق عليها ... خاف أن يغمض عينيه فيجد الحال اكثر سوءا فظل يحدق بالسقف و هو يحاول التملص أو حتى الصراخ و لكن أنّى لصراخه أن يُسمع وسط هذا الضجيج المرعب .. و فجأة .. يدخل أحد الأشباح العملاقة السوداء في محجري عينيه فيتحول الكون كله إلى لجة من سواد , بينما يبقى هو محدقا في السقف منتظرا نجدة لن تأتي .