فكرة لها عضلات

فكرة لها عضلات

د.أسد محمد

بلغ الحماس حدا تطاير من أطراف الألسن شررا ، وفي وسط زحمة الحديث ، نظر إليهم بعينه العوراء ، تملل ، انكمش على نفسه ، وتمتم  \" هم ليسوا أشطر مني ، بربي سأوقفهم عند حدهم ..كمان أنا عندي أفكار تطير العقل \" بثّ زوبعة حركات افتعالية في المكان ، شعر بيقظة غريزة جسمه المعطلة أصلا حتى عن التمتع بشراب التوت البارد الموجود أمامه في فنجان فخاري مزخرف ، فاستجاب لها وحرك المصاصة البلاستكية في الفنجان محدثا صدى لصوت اصطدام الثلج مع الكأس، ثم نفخ بالمصاصة كولد مفتعلا فرقعة لفقاعات العصير..

 غرقوا في جدلهم البركاني أكثر ، صعد إلى قمة يافوخه ضجر ، وأبى أن يستسلم لمكونه العصبي ، وأثار حركات فاشلة لم تجلب إليه الانتباه.

تأمل من ضجيج السيارات وزعيق الباعة أن يكبح زئيرهم غير المبرر حول تقصير ساعات العمل والاحتمالات المترتبة على إضراب يستعدون للقيام به  بعد يومين إذا لم يستجب صاحب الورشة  لمطالبهم ، تنبه أن له دورا في الأمر ، فاقترح اقتراحا فيه تهور وتعاطف مع صاحب الورشة ، صده زميل ، وأزاح رجل متين يده عن طرف الكرسي بزنده ، وطلب منه أن يعمل معهم وفق خطة جماعية، استاء من هذا التصرف العبثي ومن إهمالهم التام الذي تلا الموقف .. غلا داخله واعتملت فيه الأفكار دويا داخليا ترجمه مباشرة باقتراح حول التفاوض مع النقابة .. بدا وكأنه يكلم نفسه .. فكّر بتعكير أمزجتهم ، وتحويل مجرى الحديث .. حامت حوله أفكار عديدة، بعضها ضعيف ناحل مثل أعواد كبريت رأسها أحمر جاهز للاشتعال ، وبعضها منفوخ مثل بالونات ، وفكرة أخرى مثل علكة خالية من النكهة ، وواحدة لها عضلات،   تحمس لها ، انتهز فرصة اقتحامها له ، لكنته من عصب تردده ، اعتملت فيه حماسة نارية ، حفزته ، فتجرأ وتكلم،   كانوا غارقين في فكرة طافحة على سائل الجدل الحامي ..

اجتاحته رغبة في إثارة انتباههم إليه وتقديم هذه الفكرة المجدولة ذات البنية القوية ، حاول دون جدوى

بسبب الرجل البدين نفسه الذي تزعم النقاش منذ بدايته ..

 وبتحريض من الفكرة ذات العضلات  حزم أمره ، وقرر أن يفعلها ، كما فعلها في مرات كثيرة ، وليس أمامه سوى  رائحة عفونة قدميه التي تزعج مئة رجل ، وتفرقهم عن بعضهم البعض، بحركة لافتة ومقصودة دوّر ذراعه ، رافعها للأعلى ، ثم انحنى  ، خلع فردة حذاءه الأول ، ثم زرع نتوء ذقنه بين راحتي كفيه ، وراح ينظر إليها مثل قط منتظر ردة فعلهم ،  استمروا في حوارهم، انتظر أن يبتعد أضعفهم والذي لم يشارك كثيرا في الحوار ، دون فائدة ، خلع فردة حذاءه الثاني ، ضرب أحدهم على الطاولة بطرف كفه معترضا على وجهة نظر آخر ، ارتاح في البداية معتقدا أنه بدأت الرائحة العفنة تؤثر، راقبهم بامتعاض ، وهم ينساقون وراء فكرة جديدة في حالة من التوهج جعلتهم يلتفون حولها بقوة ويصممون على الوصول إلى نتيجة ، فكرته ذات العضلات بدأت تخور وتذوب في قلة حيلته ، اشتم رائحة عفونة قدميه ، وقال :

- إنها مزعجة جدا ، ولأول مرة في حياتي أنزعج منها هكذا ..

 انتظر أن يتفرقوا ، وقال في نفسه :

- لقد تعبت منهم ..

قابل هواجسه السطحية بمزيد من الارتباك ، حاول أن يثير انتباههم بنكتة ، لم يسمعوه ..

كشف عن صدره المشعر مثل إسفنج جلي مهترئ ، وهمس  :

- إن زوجتي لا يروق لها منظره ، فقد يهربون منه ..

فك الزر العلوي ، ثم الذي يليه ، كشفه أكثر دون أن يكترثوا له ، فكرر هامسا :  \" ماذا يمكن أن أريهم من جسدي ؟ ، هل أفك أزرار سروالي ؟\"

وقف بقامته الطويلة ، مطَّ خاصرته على عجل ، وفرش أمامهم أبخرة لهاثه،  أهملوه ، فعاد وجلس ..

كان يفكر بالكشف عن عضلات زنوده منتظرا أن يسألوه ولو سؤالا عن كبرها وقوتها عندما التهمه الضجر كجثة ، ضجوا ، فتثاءب ، استفاقوا ، فسها .. ابتعدوا بصدورهم عن الطاولة متحفزين ، فمال ، واستقبلت حافة الطاولة رأسه الذي ألقاه على عضلاته المطويتين تحته كوسادة ناعمة ، غادروه إلى طاولة أخرى تاركين له فرصة النوم،  بينما كان حوارهم يزداد يقظة ..