وجع
يسري الغول
*إني أراك...
كما أنت، هزيلاً تنهشك الأمراض، وضعفك يسري بين يدي.
أراك...
متيبس الأضلاع، تهوي روحك في قيعان سحيقة، ألتمس جبهتك العريضة، حارقة كهجير آب، أتمتم بآيات من الرقية التي حفظتها مذ كنت صغيراً، وجسدك ممد إلى آخر الدنيا. أحاول استمطار الكلمات، الهذيان معك بأي شيء، لكنك غائب عنك، عن كل ما هو حولك، ورعشة النزع تنتابك، فلا تملك سوى الاستسلام. عيناك تحدقان في الفراغ، وسكون الغرفة يزرع الرهبة فينا، فلا نجد غير الصمت كي نلوذ به. وبين الفينة والأخرى تشخر أنفاسك لتقطع شريط الذكريات الطويل. يسألني أحد أقاربك:
- ألست من جاءنا بالخبر؟!
وصمتي هوية لا أحمل غيرها.
يعاود السؤال مرة تلو أخرى دون أن يحظى بإجابة تشفي غليله، أو تطفي ذلك الفضول الكامن بين شفتيه، فيقرر الانسحاب من الغرفة، ونحن، كما كنا منذ عام، ألف عام، وحدنا، ننتظر أن يستفيق أحدنا كي يخبر الآخر أين هو الآن؟ أأنت في الجنة أم نحن في النار؟
ثم تموت........
***
الثالثة صباحاً
اليوم الثامن من الحرب
سرداب عميق تحيطه ظلمات ثلاث، بعضها فوق بعض، وخندق يتوسد قلبينا، فلا نبصر غير البندقية. أصوات قذائف تئن خارج الفضاء الرحب، وسرب من طائرات مجنونة تحوم في محيطنا، وأنا وأنت... لا أحد سوانا، إلا المتوحد بجلال العظمة، تمتشق بندقيتك كفرس مكابر، ويداك ترتعشان خوفاً من حتف مجهول. أما أنا فكأني اعتدت على مثل تلك المواقف، لا أدري لماذا؟! ربما لأن قدماي تجذرتا في عمق المكان، فكل شيء فيه بات يحفظني، أو ربما لأنني نجوت من غارات عدة... لحظتها ابتسم في وجهك، فتبكي في وجعي، تسألني:
- متى سيحين الخروج؟
لا إجابة، القمقم بات يحتضننا كقبر شاخ قبل أوانه، صمت لاسلكي كجهازي الذي يحاصرني بأوامره (تعميم، تعميم، على الجميع اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر والتزام الصمت اللاسلكي حتى إشعار آخر، على الجميع نفِّذ) .. أهمس في أذنك، والرعب يساورني لأول وهلة:
- يبدو أن الليلة لن تمر على خير.
تحدق في الفراغ، تسأل:
- أسنموت الآن.
أضحك، بينما تطفر دمعات خجلي على وجنتي..
- ربما، لقد بات حتى اللحظة عدد الشهداء خمسمائة.
- .......................
- .......................
- إلى متى سنظل ننتظر نزولهم إلى الأرض؟
ثم متابعاً:
- إلى متى سيظل قصفنا من أعلى؟!
تنطفئ، والأرض من حولنا تمور، تتضور جوعا لدماء ما زالت غضة، طرية تغازل وجه الريح، زلازل متتابعة تراوغنا وتطفو. عويل يجوب الآفاق، أصوات القذائف تئن في كل ردهة من مخيمنا، تتبعها أصوات سيارات الإسعاف والدفاع المدني.
تفتح المذياع، وأنت تحاول أن تغير من وضع جلستك التي مللتها.. (قصف برج الـ... بالكامل، وأنباء عن عشرات الشهداء أسفل الأنقاض...) (وصلنا الآن خبر عاجل، استشهاد مجموعة من الأطفال بقصف طائرات الاحتلال لمدرسة الـ...)
البرد والليل والجرح المكابر والوجع اللعين يكبلنا بالأصفاد، نحتمي من هدير المدافع بالدعاء، والظلام يتلوى كأفعى أصابتها تخمة ضحاياها، فباتت تموت ببطء. سكون أثير إلا من عواء هنا أو هناك، والطائرات تنقلنا إلى رحاب الجنون.
جهاز اللاسلكي يصدح بقوة من جديد بعد موجة من الصمت (تعميم، تعميم، بدأ العملية البرية الإسرائيلية على القطاع، على الجميع، على الجميع أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر والضرب بقوة في موطن الأعداء... والله معكم ولن يتركم أعمالكم)
أهتف بصاحبي:
- أسمعت الإشارة.
- نعم
- علينا الاستعداد إذن، نحن في خط المواجهة.
تمتشق بندقيتك كما لم تفعل من قبل، كأنك تمتشق زوجتك التي فقدتها مع بدايات انتفاضة الـ87...
- عليك أن تجهز البطاريات، فالعبوات في مكانها، وجاهزة للتفجير.
- جاهز، وبانتظار الفرصة سيدي.
هزيم الرعد يعلو، البسيطة تنحني للريح، تتراقص لموجات من الغبار، تُخرِج أثقالها. كأننا سكارى، وكأن عذاب الله واقع على كل ما هو حي يرزق. نتحرك بهدوء إلى الزاوية الأخرى من السرداب، تراوغنا حينها صور شتى، أطياف لمن أحببناهم، لأولاد غادرتهم وهم يتعلقون بثيابي الخشنة، وزوجة تمرغت في أوحال الخوف حتى باتت جزاءً منه، لرفاق ما زالوا يرابطون في ثكنات وسراديب تنتظر النهاية، وحكاية عشق لمدرسة تحن إلى أستاذها كي يعود لمكتبه وطلابه الكسالى، و...
لحظات، تمطر فيها السماء حمماً. ننجو من الخوف، ونستسلم للحياة. نخرج بهدوء، خدر يسري في الأجساد التي تتلبسنا. أمامنا راجلة من جنودهم، تتجلى صورهم، أسمال متخمة بدروع وأجهزة ثقيلة. يضغط رفيقي بقوة على البطارية التي تئن بين يديه، تنفجر العبوة بجوار الجند. تتطاير الأشلاء، وطلقاتي تزنر في المكان، نضرب بقوة في مضاجعهم، وصوت جهازي اللاسلكي يهتف بالثورة، خشخشة الثياب على الأجساد سيمفونية ولهى لحبيب مات طرباً في زمن التيه، القذائف تسقط بجوارنا، تسقط أنت، وأبقى أنا.
***
بجوار ذلك السرير، الفاصل بين يديك إلى آخر الدنيا، أغني لك، أهذي، استمطر الكلمات.
إني أراك...
أراك وأرقامهم[1] بين العبوة يتساقطون كأوراق غرقد خبيث، تقتلهم لتنجو بنفسك، وغارة من بعيد تصفعك، فتتوسد الأرض، تحتضن الأديم بوجهك، تستحلب ريقك، تشخر، وأنا خلفك لا حول لي ولا قوة، أحتضن بقاياك، وأسلمك لسيارة الإسعاف التي جاءت بعد ساعات من إصابتك، والآن ألحق بك، أعود للسرداب والخندق، فلعلها حرب ستأتي من جديد.
*عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين
غزة – فلسطين
[1] قال شارون يوماً: (قتلاهم أرقاماً وقتلانا قصص) لكن الحرب الأخيرة على غزة أثبتت عكس ذلك، فبات قتلانا قصصاً وقتلاهم أعداد لا قيمة لها ولا وزن.