لعبة الملوك

محمد حسن فقيه

[email protected]

تربع على كرسي العرش ، رفع تاجه المرصع فوق رأسه ، حدق إلى وجهه طويلا في المرآة ، عدل من وضعه قليلا ، أعاد التأمل ثانية في المرآة ، هزّ برأسه هزات خفيفة تنم عن إعجاب واضح بمظهره .

 لقد أعطى التاج والكرسي حقه من الهيبة والأناقة !

يا لغبائك يا أخي.... لقد أطلقت يدك في كل شئ ، ومنحتك صلاحيات شتى ، وجعلت منك أميرا وولي عهدي ، فعشت أميرا معززا مرهوب الجانب تمارس نفوذك وسلطاتك ، بسطت يدك على أملاك عامة وخاصة فسكتنا عن ذلك ، هزأت وزراءنا ومسئولينا ظلما وعدوانا فتجاهلنا أمرك ، سرت في طريق الغي والرذيلة والفساد حتى سرت أخبارك ومغامراتك الماجنة في كل تجمع وناد وساحة وشارع ودكان ، فكنا أذن طين وأذن عجين .

كل هذا سكتنا عنه وتجاهلناه ، ولكن أن يصل بك الصلف والغرور لتتعدى صلاحياتك ، وتعتدي على حقوقي ، وتتدخل في أموري ، وتخالف تعليماتي وتتجاوز قوانيني...لا.... لقد تجاوزت حدك ، ولا بد من فركة أذن كي تصحو قليلا من غيك وتعود إلى رشدك ، لتعرف حدودك وقدر مليكك .

صفق بيديه ثلاث صفقات رتيبة خفيفة ، هرع الحاجب نحوه يقدم أوامر الطاعة بين يديه ويستمع إلى التعليمات .

- أحضر لي قائد الجند أيها الحاجب .

- أمرك يا جلالة الملك ، انحنى بين يديه يقدم أوامر الطاعة ثانية ثم أنصرف مسرعا ليعود بقائد الجند ويقدم التحية ثم ينصرف ويتركهما معا .

- أيها القائد ! أصغ إلي جيدا واستمع لما أقوله .

- أمرك يا جلالة الملك ... وهل عهدت عني غير ذلك في يوم ما .

- لا ..... ولكن الأمر جلل .

- لعله خير يا صاحب الجلالة .

قال الملك بهدوء لكن بعزم وتصميم واضح من كلماته ونظراته ونبرة صوته :

- أحضر لي ولي العهد مقيدا وعلى جناح السرعة .

-     أجاب قائد الجند باستغراب ودهشة شديدة : ولي العهد يا جلالة الملك ؟ !

- هز الملك رأسه بصمت دون أن يجيب بكلمة واحدة .

-  ولكن... يا جلالة الملك ؟!

- تحركت شفتا الملك بهدوء وصـرامة ..... نفذ الأوامر.

- أمرك سيدي ... ولكن ما رأيك أن نحضره ولكن بدون قيد ؟

- كان الجواب في هذه المرة جافا وحازما : نفذ ودون تردد .

- انحنى أمير الجند أمام الملك... أمرك سيدي ..

جمع القائد بعض جنده وانطلق بهم نحو قصر الأمير وعندما حاول اقتحامه اعترضهم الحراس فهجم جنود القائد عليهم بعنف وشراسة ودارت بينهم معركة قصيرة انتهت بأسر جميع حراس الأمير ودخل الجنود مع قائدهم ردهة القصر. أطل الأمير عليهم من فوق الشرفة بعد أن رأى وسمع ما دار أمام البوابة ، فأدرك في حسه ما يحاك حوله ويدبر ، فابتدر مرحبا :

 أهلا بجنودنا... وحضرة قائدنا... زيارة مباركة... حللتم أهلا ونزلتم سهلا في قصر الملك... وقصركم .

أجاب قائد الجند .... حياك الله يا سعادة الأمير .

أجاب الأمير ما ألجأكم إلى ما قمتم به من أسر الحراس أيها القائد .

- لم يسمحوا لنا بدخول القصر .

- وقد دخلتموه عنوة ... فما طلبكم يا حضرة القائد ..

- أن تسير بصحبتنا يا مولاي إلى صاحب الجلالة .

- هذا شرف كبير لي .. أو يحتاج الأمر إلى كل هذه الترتيبات والعنف... سامحكم الله على ذلك... القصر قصركم ... وأنا تحت إمرة الملك وأمركم ... تفضل لنقدم لكم الضيافة أولا يا حضرة القائد..

- أعذرنا يا مولاي .. .  فجلالة الملك في انتظارنا..

- وأنا في شوق أشد للقائه ولكن ... إنها المرة الأولى التي تدخل قصري أيها القائد وحراسي مكبلون بين أيديكم ... وأنا أعزل في قصري... أتخافون مني ؟! ومن ثم الأبواب موصدة ، ولو لم يكن لي رغبة في مقابلتكم لانسحبت من مخارج سرية إلى جهة لا يعلمها إلا الله ... فلن تروني أبدا... هل تريدنا أن نتصرف بهذا الأسلوب الهمجي من الفوضى والغوغائية ... أم ترتاح قليلا أنت وجندك ونجلس معا لنتفاهم قليلا ، ولك أن تفعل ما تشاء من حراسة وترتيبات أمنية تناسبك ليطمئن قلبك ويرتاح ضميرك....

- وما الفائدة من جلوسنا يا سيادة الأمير... لست أنا الذي أريدك ، جلالة الملك هو الذي يريد استضافتك.... ما رأيك أن نجلس في قصره ؟

- هون عليك يا حضرة قائدنا المعظم ... سنجلس معا في قصر جلالته معا ، بل بعد لحظات.... هذا أمر لا بد منه...

وهل تظن نفسي تسمح لي أن أتمرد على أمر من أوامر جلالته..... أو حتى قائده..... ولكن قد تشكرني كثيرا إن جلسنا معا ، قبل أن نجلس سويا مع حضرة الملك .

صمت قائد الجند وقد دارت في رأسه أفكار شتى .

وقبل أن يتسرع في الإجابة أضاف الأمير بعد بسمة لطيفة... جرب ذلك أيها القائد... ولن تندم أبدا... سوف تشكرني على ذلك كثيرا...

قفزت الأحلام متسارعة في رأس القائد... ودارت في نفسه خواطر... وأطياف شتى ... إن هذه النوعية من الأمراء... لو حكمت لعلها تعود بالفائدة والنفع أكثر بكثير من حكم مليكنا... فأنا مع كل صلاحياتي ونفوذي لا أجرؤ على الاستيلاء على بستان جميل... أو أتغيب في نزهة ممتعة.. أو أغرف بعض الأموال في حين يغرف غيري  بلا حساب .

هز القائد رأسه علامة الموافقة على عرض الأمير... انتظر سأصعد عندك ثم التفت نحو الجنود... إلزموا أماكنكم وخذوا حذركم ريثما أعود لكم ، وبعد أن تنحى جانبا مع نائبه همس بضع كلمات خفيفة في أذنه وهو يصعد سلم القصر وكأن الدنيا تدور به وألف فكرة تنبثق داخل تلافيف دماغه وتطفو على السطح ... وما إن ولج بصحبة الأمير مكتبه الفخم.....

- أهلا بك يا حضرة القائد المعظم في قصري  ... ومكتبي ، لعلها المرة الأولى التي تدخل فيها قصري هذا ؟

- شكرا لك يا سمو الأمير .

هزّ القائد رأسه دون أن يجيب ثم أردف بعد هنيهة.. ومن يجرؤ على دخول قصر سمو أميرنا... وولي العهد ؟

قاطعه سمو الأمير.. دعنا من هذا الآن لننتقل إلى الجد ونتكلم في لب الموضوع وجوهر القضية... ما الخطب الجلل أيها القائد؟ وماذا يدور في خلد الأمير؟.

- وما يدريني يا سمو الأمير... إنما أنا جندي أنفذ الأوامر وما يدريني ما يدور في دماغ الملك وبم يفكر؟.

-        إني أغبطك على تواضعك الجم يا سيادة القائد... ولكنك لو كنت تعمل معي.. لمنحتك أكثر من ذلك !...

برقت عينا القائد ، وجمح خياله بعيدا يرفرف في الأفق بجناحين من حرير.. يفكر في قائد جند يكون شريك الملك ومستشاره.. ووزيره.. يعرف الأسرار، ويشارك في لعب السياسة ، ويكون له دوره في إعدادها وإخراجها .. بل وتنفيذها.. بل لم لا يكون هو صانعها وسيدها... مادام الملك مشغولا في أمور أخرى ، وعالم آخر من المتعة واللهو، تنحو به بعيدا عن عالم السياسة لتفسح المجال لسيادة القائد أن يكون الحاكم الفعلي من خلف الكواليس.. لا كوضعه الحالي البائس ...

أحس الأمير بما يدور في خلد القائد وشعر بطبيعة الصراع الذي يحتدم في رأسه ، فأراد الأمير أن يهتبل الفرصة ويجهز عليه ، فتوجه نحوه بصوت مرتفع قطع شرود القائد: أيها القائد كيف تحتمل حياة لا تسمع فيها غير الأوامر والتوجيهات والتنفيذ ... وأنت حامي حمى الملك ، وراعي أمنه وسلامته وأمن مملكته... ومع كل هذا فأنت لا تكافأ بهدية ثمينة أو هبة قيمة من مليكنا...

ثم اتجه إليه وقد غير من لهجته ليقاطعه بصوت هادئ وديع وبتودد ظاهر بعد بسمة لطيفة... ألا تحلم بقصر كما هو لدى شاعر البلاط ؟

أو جواد مطهم تزهو به وتتبختر؟... أو جارية مليحة تؤنسك وتجدد شبابك ؟ أو بستان جميل تنعم به وتسترخي فيه للاستجمام ، بعد أعمالك الشاقة ومهامك الصعبة ؟.

ران صمت ثقيل على القائد... ولم يجد جوابا وعيناه تحوسان في الأمير تتفحصان تعابير وجهه ، وأذناه تدرسان ذبذبة الصوت ليميز صدقه من زيفه .

- لا تنظر إلي هكذا كالمشدوه أيها القائد... كم دينارا تستلم في الشهر ... عشرين دينارا... خمسين .... مائه... ماذا يساوي ذلك مقابل خدماتك الجليلة وتفانيك العظيم في سبيل الحفاظ على الملك ومملكته... إن ما تستلمه في سني عمرك كلها لا يعدل هدية ثمينة كهذا القصر .

- انتفض القائد وقد انتصبت أذناه وجحظت عيناه تتفحصان سمو الأمير .

- لا تنظر الي هكذا كالأبله أيها القائد !... إنني أتكلم معك... وأعني ما أقول... أنا لا أبيع وأتاجر بالكلام ... أنا جاد وأعني ما ذكرت ... أنا رجل عملي ... ألا تعرف عني ذلك ؟ !

- بالطبع .... بالطبع... يا سمو الأمير، ثم تمتمت شفتا القائد بصوت منخفض ولكن لم أفهم قصدك يا سمو الأميرماذا تعني ؟

- ما أعنيه أيها الغبي  ..... أن تجلس أنت في قصري وأجلس أنا في قصر الملك.

- ضرب قائد الجند رأسه بأصابعه... هز برأسه... فتح عينيه ثم أغمضهما ... هل هو في حلم أم يقظة ، خرج منه صوت هامس بلا شعور: هل أنا في حلم ؟

- لا بل أنت في يقظة ، بل وأنت في أشد حالات يقظتك أيها القائد .

- وكيف السبيل إلى ذلك يا سمو الأمير؟

- بل قل : جلالة الملك يا حضرة الوزير .

 

*                                *                           *

في اليوم التالي كان سمو الأمير يجلس متربعا على العرش في قصر الملك وهو ينظر إلى نفسه في المرآة بعد أن وضع التاج المرصع فوق رأسه.....

بينما كان الملك مكبلا فوق حمار أجرب وقد وجه رأسه نحو مؤخرة الحمار، ويسحب الحمار السجان الجديد  ليقوده إلى زنزانة انفرادية ، ربما ينتقل بعدها إلى الجلاد ليفصل رأسه عن جسده بضربة سيف ، كما تم فصل رأس قائد الجند صباح اليوم ، لأن الخيانة طبع لئيم ، وخلق ذميم .... ومن خان مليكه الأول  كانت الخيانة لمليكه الثاني أهون عليه وأيسر !....

هذا ما قاله -  صباح اليوم - الملك الجديد إلى قائد الجند وهو يشيعــه إلى المقصـلة برفقة الجلاد