وحده وحده تماما

زياد خدّاش

أخوه وأخته في بيت الدرج، يحتاجان إطلالاته المستمرة، لإعادة ترتيب فراشهما، للربت على اكتافهما الهشة. أخوه وأخته يمتلكان أسماء كباقي البشر، هي في أوائل العشرين وهو في آخرها. حياتها هي متوقفة على قلم ودفتر، تضغط على القلم وتسافر مع خطوطه المنحنية والمشتبكة والمنقطعة، ولا تصل إلى أي مكان أبداً، حياته هو متوقفة على مسدسات وهميه يصنعها بيديه ويطلق رصاصها على الجدران والسماء والجيران. بجوار بيت الدرج يقيم هو في غرفة صغيرة، أمه وأبوه نائمان الآن في غرفتهما السفلية، مستلق على فراشه ولا أصوات، الليل مستلق على العالم، قبل لحظات سحق بمكنسة عقربين أسودين متوسطي الحجم، راقبهما يتسللان من تحت الباب، تسلقا الجدار وتجمدا هناك بجانب الستارة القذرة البيضاء، قبل ثلاثة أيام قتل فأرين اختبئا في أدراج مكتبته، واقتاتا على بضع صفحات من جواز سفره وعلى شهادة ميلاده، وعلى مسودات قصائده، أخته وأخوه نائمان بعمق، ليته يستطيع ملامسة هذا العمق، نومه خفيف ومتقطع، فأخته وأخوه بحاجة لإطلالات كثيرة، هما بانتظاره دائما ليقول لهما همساً: لا بأس، لا بأس فأنا هنا، أنا هنا.

مستلقياً على ظهره يفكر في بقايا جواز سفره وقصائده وشهادة ميلاده، متكئاً على هزائمه يصغي إلى أنفاس أخته وأخيه، ويهمس لنفسه، لا بأس، لا بأس، فأنا هنا، أنا هنا. كم يود لو يخرج الآن من غرفته ويتوغل في تفاصيل الجبل المجاور، ويذوب في كهوفه ووديانه وحقوله وصخوره. غرفته تجاور جبلاً يشبه مؤخرة امرأة لن يستطيع ذكر اسمها لئلا يتعرض للطرد فهي تدير مؤسسة يعمل هو في صحيفتها محرراً لغويا. منطوياً علي نفسه يجلس هناك في مكتب مجاور لمكتبها، يعيد صياغة الجمل والتعابير. تمر هي بين الحين والآخر أمام مكتبه، فيقول في سره: آه لو تعطيني هذه المرأة فرصة صغيرة لإعادة صياغة مؤخرتها كما تشتهي ظلماتي، ليت هذه المرأة نصاً ألعب به كما ألعب بنصوص جريدتها. كتب مرة قصيدة سرية لم ينشرها بعد: مؤخرتك يا سيدة رزقي أجمل خطأ إملائي والأجمل منه قابليته للتصحيح فقط بباطن كفي. ذهبت قصائده التي تبرهن على اختلافه مع العالم. فأر صغير أضاع نزيف ليال طويلة بقرضة أسنان قذرة. صامت بيت الدرج الآن كما الأشياء كلها، كما هو. نهض عن سريره يهم بالخروج، لكن أصواتا غريبة صادرة من بيت الدرج استوقفته، أصوات يسمعها لأول مرة، أصوات لا تشبه أصوات أخيه وأخته حين يناديان عليه طلباً لماء أو رعباً من ظلمة، كأنه يحلم هذه الأصوات، كأنه يتوهمها! لا، لا، الأصوات حقيقية، خليط هي من أنين وخوف ونداء ورعب وفرح وبكاء وغضب، أطل من ثقب الباب على بيت الدرج؛ عتمة عمياء، يكسرها ضوء سكران لقمر مريض يتجول بالجوار،أخوه وأخته ليسا في مكانهما، أين ذهبا؟ هل هبطا إلى الأم بعد أن يئسا من حضوري؟

فتح الباب بهدوء ومن شق صغير استطاع أن يرى المشهد كاملاً؛ أخته نائمة فوق أخيه بطنا على بطن، أخته تضغط بقوة جسدها الممتلئ بجسد أخيها النحيل. الأخ متفاجئ تماماً ولكنه سعيد ولا يعرف لماذا، والأخت متفاجئة ولا تعرف كيف تتوقف أو لا تريد. وهو مذهول، مذهول، ولا يعرف كيف يتصرف. الأصوات تزداد توحشاً. أخوه يضغط بيديه البلهاوين على ظهر أخته وعلى ردفيها، أخته تشهق، كأنها تموت. الأخت تضغط وتضغط، والأخ يحفر ظهرها شبه العاري، أحس برغبة في أن يقول لهما: لا بأس، لا بأس فأنا هنا، أنا هنا. الأخ والأخت شبه عاريين الآن، وأصواتهما تتعالى عنيفة وباكية ومستغربة، هل يهجم عليهما ويفكهما عن بعضهما البعض؟

هل يشتمهما؟ يصفعهما؟

لماذا لا يتركهما فهما مبتهجان؟

ولكن كيف يتركهما يواصلان هذا الجنون، فهما لا يدريان، هما لا يدريان؟

هل يعود إلى فراشه ويدفن رأسه في وسادته ذات القطن المنفوش ويبكي بصمت؟

هل يهرب إلي الجبل؟ ولا يعود أبداً؟

يندس في أمعاء كهف ويتحول إلى سحلية أو عنكبوت،

ظل جالساً خلف الباب، يراقب رعب المشهد بعينين مغمضتين.هدأت الأصوات وانطفأ الحريق. هما بحاجة إليه الآن حتى يعيد ترتيب فراشهما والربت على أكتافهما والقول: لا بأس أنا هنا أنا هنا. يداه تفتحان الباب. خطا في الظلمة الخفيفة خطوتين مرتبكتين، كمن هناك في زاوية بيت الدرج اليسرى. لم ير شيئاً. سمع أصواتا فقط، مخنوقة كأصوات صحراء متورطة بوحوشها، وزوابع رملها. أحس بشيء يتسلق ساعده، ابتسم، هل هو العقرب؟ الشيء يتجه نحو عنقه وربما وجهه. وقف العقرب على رموشه، تجمد هناك. كان يريد أن يبكي. لم يستطع. كان بإمكانه أن يزيحه بيده ويسحقه بقدمه، لم يفعل، تخيل شعور العقرب وهو يقف على رموشه. رموشي قد تكون الجبل بالنسبة له، والكهف عينيّ.

عاد الى فراشه. اختفى العقرب. هل سينام الآن بهدوء؟

غرفته تجاور جبلاً بكهوف وصخور ووديان.

حافياً مشى الى الجبل،

وحده بلا قصائد، بلا شهادة ميلاد، بلا إخوة

وحده، وحده تماماً

عند السفح نظر طويلاً الى قمة الجبل.

قبل قمته بأمتار، فتح كهف فمه على مصراعيه، كأنه يناديه، كأنه يحبه،

تسلق الجبل بطاقة لم يعرفها فيه من قبل. عال وبعيد هو كهف ما قبل القمة بقليل. الشمس تحرق وجهه، والعرق يتسايل من عينيه. في اللحظات الأخيرة التي سبقت وصوله، أطل عقرب كبير أسود من طرف الكهف. خلف العقرب أخته وأخوه عاريان، يتعانقان بوحشية. الآن هو أمام الكهف راكعا ولاهثا. ظلام دامس، لكنه لا يعرف كيف رأى جدته الشقراء تلحس بلسانها الناشف والقديم مؤخرة بائع خضار متجول وبدين. صديقه الحميم يدخل يده كلها في فرج حبيبته المبلول. مديرة المؤسسة تحشو فئرانا في فرجها العتيق المنكمش على زهو مضحك. رجال إطفاء يتقلبون عراة وضاحكين فوق أطفال خطفوهم من دار حضانة مجاورة. كلاب شرسة تتناوب على فروج زميلاته في الجامعة لحسا وشما. مدرس الرياضة الذي علمه قبل سنين بعيدة يطلق النار على تلاميذ الصف الرابع لأنهم لم يفوزوا بمباراة كرة قدم مع مدرسة أخرى. جلبة غريبة مختلطة تأتي من أقاصي الكهف. صراخ، ضحكات، استغاثات، همسات. واصل تقدمه في العتمة الفظيعة. يبدو انه يتجه صوب الجلبة. أخته تضغط وتضغط، وأخوه يحفر ويحفر. سقف الكهف يمطر دما ورملا، جدرانه ترشح منيا. عقارب بين قدميه، وأفاع رقطاء تتطاير من فم سائق باص المخيم، وهو يشتم المارة والوطن والنساء!

تقدم عميقا داخل الكهف، لا يعرف الى أين سيصل، وما هو دوره،؟

سمع صوتاً عميقاً يقول له: لا بأس، لا بأس أنا هنا، أنا هنا.