تيه
تيه
أسد محمد
فتح باب الشقة ، ولجها مسرعا ، عتمة ، وهدوء تصرفَ بشقاوة ، أزاح ستار النافذة ، ودلف الضوء الذي كشف عن غرفة الجلوس بشيء فيه تقشف مبالغ به ، تحرك ضمن عش الإنارة الخافتة ، استعد للدخول إلى غرفة أخرى ، تراءت له صورة أولاده يتقافزون وينطون من حوله ، ظل ضمن نسيج الضوء المنسوج على الجدار المجاور والكرسي والكنبا ، تحرك مفتعلا بعض التدبر في خطواته، وقت من زيت ، لزج ، معكر ، تطفو بقعه فوق سائل حركاته العشوائية ، ضمن دائرة نظره المتحكم بها : أولاده الثلاثة الذين غادروا للمدرسة، الزوجة التي خرجت للعمل ، وساعة الحائط المتوقفة " أف، لقد نسيت شراء بطارية للساعة " زمّ شفتيه ، وأيد طلبات ابنه الأصغر حول أمور عدة ، رن الهاتف ، فأسرع إليه، لكنه توقف عن الرنين قبل أن يلتقط السماعة ، رغم ذلك رفعها ، زرع عينيه في بوقها ، مرت من تحت أصابعه نبضات تجسمت أمامه مثل قطرات وقت تتبعثر على البلاط ، تفَّ على الشيطان ، ثم أعاد السماعة منتظرا أن تعاود رناتها ، ضغط على زر النيون فأضاء الغرفة ، أخذته ورقة تقويم مرمية على طاولة الهاتف إليها ، التقطتها أنامله ، التهمت عيناه التاريخ المكتوب عليها ، لم يمهله تيار الهواء أن يكمل قراءة ما كتب عليها ، سقطت من يده على الطاولة ، طيرها هواء مروحة السقف ، فانتبه أنه كبس زر المروحة القريب من زر النيون عن غير قصد، انحنى كي يلتقطها ويرميها في سلة المهملات ، وهو ينظر إلى المروحة راغبا في توقيفها ، كاد يمسك بالورقة ، لكن دبوسا لمع عند حافة الطاولة ، فترك الورقة ، تزحف على بطنها باتجاه آخر، ثم عاود النظر للبحث عن الدبوس الذي اختفى لمعانه مع تغيير مكانه ، طوى نصف صدره مثل قوس ، وأسبل يديه أمامه مثل جرسين معلقين إلى سقف صدره ، راح يبحث بين ظل الطاولة وقوائمها ، وبين ألعاب أولاده " أف ، قد يدوسون عليه .."
ثابر على البحث ، أزاح بحذر بعض الألعاب ، جلس القرفصاء ، حبس شهيقا ، و نفخ صدره إلى أمام ، وصعد ضغط عبر أوداجه إلى رأسه " يأتي الشقي ، يخلع حذاءه ، يركض ، يدوس على الدبوس ، يخترق قدمه ، يصرخ ، أنقله للمستشفى ، أطباء وممرضات ، علاج، فاتورة ، ويتعطل عن المدرسة ، وتضطر أمه للجلوس معه و .. " تفل على طرف كمه ، سحت قطرات عرق على وجهه ، أخضع كامل حواسه لعملية البحث، وتركزت عند رؤوس أصابعه ، وراح يمرر حد راحة كفيه مثل حافة سكين يمينا ويسارا ، ودائريا ، وفي كل اتجاه ، قرّبَ صيوان أذنه من يده المتحركة لعله يسمع صوت طنين " اختفى في يد إبليس " فارت النظرات من عينيه كأنها فقاقيع ماء يغلي ، واحمّر وجهه فوق صفيحة حماسه ، ابتعد إلى المطبخ لإحضار مكنسة و رفش ، وجد المكنسة بالقرب من جرة الغاز ، وراح يبحث عن الرفش في زوايا المطبخ ، ثم في الكريدور ، والبلكون ، وتحت الأسرة " الأولاد ضيعوه ، يمكن رموه في كيس الزبالة .. أشقياء "
أسرع ، رفع كيس الزبالة الذي ركنته الزوجة في مكانه المعتاد ، رفعه بسرعة ، فتوسعت فتحة في أسفله ، وسقطت منه بعض الأشياء، مدّ يده وأدخلها في الكيس بعناد ، بحث ، ضغط نحو الأسفل، فتمزق أسفله بالكامل ، وسقطت الأوساخ ومعها كمشة دبابيس راحت تنتشر في كل اتجاه ، نظر إليها مثل ذيول عقارب متأهبة للدغه ، لاحقته بنظراتها وهو يبتعد على قدمي إصراره ليجد الرفش الملعون ، ويتخلص من كل شيء دفعة واحدة ، وهو يردد " الرفش ، الرفش ، الرفششششش..."
كان يفتش تحت الصوفا عندما رن جرس الهاتف من جديد ، مشت رناته إلى أذنيه بترنح مفتعل ، رفسها عنه بقدمي إهماله ، أحال تصنته اللزج إلى رنين داخلي يعاكس زحمة الرنات ، ورفع الصوفا من حافتها نحو الأعلى ، رأى غبارا وعشا صغيرا لعنكبوت ، ترك الصوفا تهبط على الأرض ، وأسرع لإحضار المكنسة وتنظيف تحت الصوفا ، نسي أين وضع المكنسة ، راح يفتش عنها ، عاود الهاتف رناته ، شاهد الدبابيس المنتشرة ، مرّ بالقرب منها رغم محاولته الابتعاد عنها " المكنسة ، المكنسة ، المكنسسسسسسـ..." وجد نفسه بالقرب من سرير النوم ، فألقى بجسمه عليه .. لف ساعديه حول بعضهما البعض ، وجعل منها مخدة لرأسه ، غرس نظره في زاوية قصية من الغرفة ، وبعد فتح ثغرة صغيرة لفكرة غير محددة ، نفذ إليه سؤال " لماذا رجعت إلى البيت ؟ .. لماذا ..لماذا ؟ " استلد السؤال سؤالا آخر حول السؤال ذاته ، استنسخ السؤال أسئلة أخرى ، أسئلة مثل الدبابيس ، والرفش المفقود ، والمكنسة الضائعة ، انتشرت من حوله الأسئلة ، فقست ، تكاثرت ، بدأ يبعدها عنه كمن يبعد الذباب عن مخاط أنفه الممطوط ،
فجأة وقف ، ضرب كفه بطرف خاصرته ، فرأى سحاب بنطاله لا يزال مفتوحا ، حاول سحبه دون جدوى ، وابتسم ساخرا من نفسه " هه ، عدت ، لأغير بنطالي بسبب سحابه المنزوع .."