بائع الموت

بائع الموت *

د. محمد بن عبد القادر الشواف

كان سامي يحلم بالأسرة السعيدة , ويتوق إلى الدفء العاطفي والحنان الذي فقده منذ ماتت والدته بعد معاناة طويلة مع المرض .

عناية أمِّه به لم تكن عادية؛ فقد كان وحيدها ويمثل كل شيء في حياتها .. تبتسم لابتسامته وتحزن لحزنه وتحاول تلبية رغباته بفرح وسرور.

يغمره الاطمئنان وتلفه السعادة عندما تضمه إلى صدرها , وتُغرقه بوابل من الكلمات الرقيقة والنصائح والدعوات الحلوة .. يفرح سامي, وتأخذه النشوة, ويتهلل وجهه البريء بالبشر, وينطلق بقفزات راقصة ليلعب في الحديقة.

يشعر سامي بالجوع للعاطفة والحنان , ويُحسُّ بفجوة كبيرة في أعماقه ولا يدري كيف يعوض ما فاته بسبب فقد والدته !.

يتذكر أستاذ المرحلة المتوسطة عندما تكلم حول موضوع بر الوالدين وذكر لهم ما يبذلانه من جهد من أجل تربية الأولاد, وحكى لهم قصة مؤثرة عن أم ضحت وبذلت الكثير من أجل ولدها ثم كبر وتزوج وخسر أمه بسبب زوجته !

صار الأستاذ يسأل الطلاب عن علاقتهم بآبائهم وأمهاتهم ... فاجأه الأستاذ بقوله :

-سامي هل أمك راضية عنك ؟

أخذ الذهول يسيطر عليه ، سرح بعينيه الحزينتين بعيداً , تذكرها وهي تعانقه وتقول :

أسأل الله أن يرضى عنك يا ولدي ، وأن يسعدك في الدارين .. حاول أن يخفي دموعه عن أستاذه وزملائه ولكن دون جدوى !

ظل سامي محافظاً على تفوقه الدراسي برغم الجرح العميق الذي خلفه فقد أمه ؛ فقد بذل أبوه كل ما في وسعه ليخفف عنه ما يعانيه إلا أنه كان يعتقد أن عطف الدنيا وحنانها لا يعادلان ضمة إلى صدر أمه الدافئ الحنون .

هناك في الجامعة لم يكن يشارك كثيراً من الطلاب جلساتهم المختلطة ... كان جدياً في تعامله مع الفتيات لا يخفي وسامته وسمته الحسن ولا يملكن إلا احترامه لأدبه ولباقته .

كثير من الفتيات يطربن لسماع عبارات الإطراء , وترضي أنوثتهن كلمة ثناء على بعض صفاتهن , لكنّ كل واحدة منهن عندما تخلو بنفسها تتمنى أن يكون شريك حياتها وفارسُ أحلامها ؛ يخشى الله في أقواله وأفعاله، ومهذباً لا يكلم الفتيات , لأنها تريده لها وحدها , ولتشعر بالأمان بجانب زوج مخلص .

تتضايق سميرة كلما سمعت كلمات الإطراء على سامي وتشعر كأنهنّ يتكلمن في أمر يخصها دون غيرها ؛ فهي لا تريد أن تنافسها أي فتاة حبَّه .

كانت تلك المشاعر تخفيها عن كل أحد , لكن صديقتها المقربة( لمـى ) كانت تعرف ما يختلج في صدرها بل تُحِسُّ أنها تملك نفس المشاعر نحو سامي , وتعيش صراعاً مع نفسها لهذا السبب ؛ فهي تدرك جيداً أن (سميرة) صديقتها الأثيرة , وما كانت تتوقع أن تقع معها في مثل هذا الموقف المحرج .

لم تيأس سميرة التي كان يسبقها سامي بسنة واحدة في الدراسة الجامعية ؛ فهي تترصد حركاته وتبحث عن وسيلة لكي تلفت انتباهه إليها .

تتجرأ ذات صباح وتعترض طريقه فجأة وهي تحاول أن تخفي ارتباكها , وتسأله عن كتابٍ لم تعثر عليه في المكتبة ... اعتذر سامي بأدب وتابع طريقه مسرعاً ليدخل إلى المحاضرة محاولاً أن يتجاوز نداءات الأنوثة التي لمحها وهو يتأمل وجهها المليء بالتعبيرات المتناقضة وكأنها لامست جراحه وذكرته بعطف أمه وحنانها عليه .

دارت الدنيا بسميرة وتمنت أن تكون قد ماتت قبل أن تتعرض لجرح مشاعرها ؛ فهي تعلم أن البنت لا يمكن أن تُقدم على الحديث مع شاب إلا وهي تظن أنه سيكون أكثر ترحيباً بها ... فلماذا أهملها سامي ؟ لماذا وجه طعنة نجلاء إلى أنوثتها ؟! سارعت سميرة إلى حديقة الجامعة واختارت مقعداً منزوياًَ .. فتحت حقيبتها .. أخرجت مرآتها الصغيرة .. تأملت وجهها وكأنها تطمئن إلى أنها مازالت جميلة .. ذرفت دمعات حرَّى , ونهضت مسرعة لتتوجه إلى بيتها دون أن تكمل يومها الدراسي ؛ فهي غير قادرة على مواجهة ( لمى ) التي لمحتها وهي تحاول الحديث مع ( سامي ) .

الدكتورة نادية مشهورة في الجامعة؛يحترمها الطلابُ والطالبات ويثقون بها فهي جدية ومُهابة لكنها تفيض إنسانية,وتتعامل مع طلابها بمشاعر الحرص على مصلحتهم,والشدة مطلوبة أحياناً..شدَّ انتباهها تغيّر أحوال سميرة وتأخرُها الدراسي؛فاستدعتها ذات صباح إلى مكتبها,وبادرتها بالسؤال دون مقدمات:

-مالك يا ابنتي ؟ مالذي غيّر أحوالك ,عهدتك مجتهدة و مثابرة .. أين حيويتك وابتسامتك وخفة دمك ؟

-أنا بخير .. كل شيء على ما يرام .

-لا يا سميرة وجهك الشاحبُ وذبول عينيك وقلة اكتراثك الطارئ بالدراسة .. كل هذا يدل على وجود شيء داهم حياتَك .. أعرف طالباتي جيداً , ولــست أول طالبة درَّستها . ورفعت الدكتورة نادية نظارتها عن عينيها وابتسمت ابتسامة ذات مغزى ورددت :

-سميـرة .. قولي بسرعة هل هو فارس الأحلام ؟

ازدادت خفقات قلبها , بدا العرقُ على جبينها , سمعت ضجيجاً في داخلها , حاولت إخفاء ارتباكها , أرادت للحظة أن تعترف لها وكادت تنهارُ طمعاً في طلب مساعدتها لعلها تجد وسيلة تجمعها بمن تحب .. ذهب الخيالُ بسميرة بعيداً , تخيلت أنها تلبس طرحة العروس , وتمسك بيد سامي وهو ينظر إليها مبتسماً , ويشد على يدها وسْط زغاريد المحتفلات بفرحة عمرها . اختلط الواقعُ بالخيال لديها وتساءلت في نفسها لم لا ؟ فأنا لا أريد إلا الحلال ولا أطمع للوصول إلى فارس الأحلام إلا من الباب , ولا أؤمن بما تفعله بعضُ البنات من الحرص على العلاقات قبل الزواج بحجج واهية .

نظرت سميرة إلى معلمتها وتنهدت وهي تحاول أن تتماسك , ثم قالت :

إنني أمر ببعض الظروف العائلية ؛ هناك خلافات بسيطة بين والديّ وهذا أثّر علي قليلاً

-أحاول تصديقك مع أن مشاعري تقول غير هذا , وعلى أية حال .. كل بيت ممكن أن تنشأ فيه بعض الخلافات وواجبك أن تحاولي الإصلاح وتهدئةَ الخلاف بين أبويك , كـوني صمامَ الأمان , وحاولي أن تساعديهما على تجاوز هذه المشكلة . ولا تنسَي أن تستفيدي خبرة إيجابية من هذا الخلاف ؛ فالحياةُ مدرسة , و ربما ساعدك ذلك على تجاوز مثل هذه الخلافات في حياتك الزوجية .

لمعت عينا سميرة وعانقت بنظراتها أستاذتها , وسرت قشعريرةُ الاطمئنان في جسدها , ولم تستطع أن تخفي ابتسامتها وهي تقرأ في وجه الدكتورة نادية أنها تفهم السبب الحقيقي لتغيّرها , وأنها لا تملك الجرأة لكي تبوح لها بحبها لسامي.

عندما رجع سامي إلى البيت كانت صورة سميرة بوجهها الملائكي وصوتها الذي يفيض سحراً , ونظرات عينيها تتراءى أمام ناظريه,وعبثاً حاولَ إبعاد صورتها عن مخيلته .. دخل سامي في صراع مع نفسه وبقي عدةَ أيام في حيرة وتساءلَ : لماذا هذه بالذات ؟ هذه رابعُ سنةٍ لي في الكلية , لم أشعر بمثل هذا الإحساس نحو أي بنت أخرى .

وبدأ يوجه اللومَ لنفسه , لماذا كنتُ قاسياً معها ؟ كان علي أن أعطيَها الكتاب الذي طلبته , حقاًَ لقد كان جوابي جافاً .. لقد لمحتُ انعكاس كلماتي على وجهها عندما كنت متوجهاً إلى قاعة المحاضرات . لقد وقفت أمامي كلوحة فنية أبدعتها ريشة فنان.

في الأسبوع التالي وقف سامي ينتظرُ سميرة لتخرج من قاعة المحاضرات .. تقدم إليها بهدوء , ناولها الكتابَ بابتسامة متماسكة .. ظنت للحظات أنها في حلم , هزت رأسها , نظرت إلى سامي , أخذت منه الكتاب وشكرته وهي تشعر كأنها ملكت الدنيا بأسرِها .. لم تَقدِرْ سميرةُ عل إخفاء البهجةِ والسرورِ والسعادةِ التي سيطرت عليها , ابتعدت قليلاً وضمت الكتاب إلى صدرها , وغابت بين أشجار حديقة الكلية .

بعد شهرين كان المأذون يعقِد للعروسين , وصوتُ الزغاريد يخترق أجواءَ الحي الهادئ الجميل.

كان ترددُ سامي في خِطبة سميرةَ بسبب عدم تقيُّدِ أسرتِها بضوابط الاحتشام في العلاقات الاجتماعية , وفهم من خلال السؤال عنها أنها مهذبةٌ وطيبة , ذات شخصية قوية تميلُ إلى العصبية أحياناً ، لكن البيئة التي نشأت فيها لا تحضُّها على التمسك بالحجاب بشكل يُرضي ربَّها ويبعد عنها أصحاب النيات السيئة , ويقيها خطرَ الذئاب البشرية ! ولما فاتحها في هذا الموضوع وعدته أن تكون كما يريد .

سارت أمورُ الزوجين على أحسن حال , وتعاونا معاً لبناء أسرة متفاهمة يُخيِّم عليها الحبُّ وتغمرُها السعادة .

سامي لم يكفَّ عن توجيه سميرة لأن تكون أكثرَ حشمةً والتزاماً , وهي لا تُخفي زهوَّها لغيرتِه عليها وتلفت نظره إلى أن الغيرةَ كالمِلح في الطعام , وكثيرُها يفسدُ الحياةَ الزوجية ... وهو يردد : ليتك ما درستِ الفلسفة.

كان البيت هادئاً صبيحة أحد أيام العُطلة الأسبوعية و الزوجُ يغُط في في نوم عميق .. قُرِع باب البيت فأسرعت سميرةُ لتفتح الباب بهدوء كي لا تؤرق راحة زوجِها .. إنه بائع اللبن . ذهبت لتحضر إناءً تأخذُ فيه اللبن , فتسببت بوقوع طبق أصدر صوتاً قوياً ، تركته وتابعت مسرعة نحوالباب . صحا الزوجُ لدى سماعه الصوتَ , ونهض من فراشه ليتعرف إلى مصدره .

ذُهل سامي وهو يرى مشهداً يستفزّ غيرةَ أيِّ رجل مهما كان متساهلاً .. فرك عينيه قليلاً لم يصدق ما يرى , إنها سميرةَ , بثوب النوم الشفاف القصير ، وهذا بائعُ اللبن ينظرُ إليها كذئب بشري يكاد ينقض على فريسته . لم يحتمل المشهد , سارع إلى الباب وصفعه بوجه بائع اللبن , وفي لحظةِ غضب وجدَ نفسه يهوي بيده على وجه سميرة , وقع الإبريق من يدها وتناثر قطعاً صغيرة . لم تُسعفها الحكمةُ في تهدئة زوجها , وتلطيف الموقف , بل ثارت في وجهه من هول المفاجأة فهذه أول ُ مرة تمتدُّ يدهُ إليها .

وجهت له كلماتِ قاسيةَ , رجع إليها وغضبُه في تزايد , سارعت بالدخول إلى المطبخ وأغلقت الباب . كاد سامي يتراجع لولا أنها أمطرته بوابل من الكلماتِ الجارحة التي مست رجولتَه . حاول دفعَ الباب لكنها نجحت في منعه , زادت عصبيتها وقذفها له بمزيد من الشتائم , دفع الباب دفعة قوية فانفتح ليراها وهي تسارع إلى سكين في المطبخ وتعاجله بطعنة في يده . انقض عليها , وأخذ منها السكين بعد أن رأى منظر الدماء تسيل من يده , والدم يغلي في رأسه, أغواه الشيطان بالانتقام لرجولته , وجه نحوها طعنات متلاحقة , فقدت سميرة المقاومة وسقطت على الأرض!

هدأت ثورةُ سامي وصحا على أناتِ سميرة لكن بعد وقوع الكارثة . ألقى السكينَ جانباً واتصل بالإسعافِ وصار يصرخ كالمجنون لعل أحداً من الجيران يسمعُه فيهب لمساعدته , حاول إنقاذَها ولكن دون جدوى .. فتحت سميرةُ عينيها بصعوبة بالغة , وحركت شفتيها بكلمة واحدة , وما أن سمع سامي صوتَ سميرة المتهدجِ يُردِّد :

سـا .. سـامحنـي .. حتى صرخ صرخة قوية ووقع بجانبها جثةً هامدة مع وصولِ سيارات الإسعاف ورجال الشرطة .

        

* قصة واقعية و مأساة حقيقية عصفت بحياة أسرة آمنة، طرفاها: الغيرة والاستهتار