الورقة الأخيرة

الورقة الأخيرة

خليل الصمادي

 [email protected]

ما كادت المحامية \"نادرة\" تنظر من نافذة الشقة المطلة على الشارع الكبير حتى صرخت : قم يا حاج يبدو أنَّ المسلحين رجعوا ثانية إنهم يترجلون من \"السيارة\" وينظرون إلى شقة \"جوزيف حنا\".

ألقى \"الحاج راشد\" الجريدة من يده وهبَّ مذعورًا وهو يهدد ويسب ويتوعد:

 ـ  يبدو أنَّ هالزعران  ما ذاقوا على دمهم .. ويبدو أنَّ الكلام الطيب لم ينفع معهم أمسٍ ، ولا بالأمس.... سأنزل وأواجههم باللغة التي يفهمونها، وانطلق \"الحاج راشد\" إلى أريكة خشبية قديمة كانت في الشرفة الكبيرة المطلة على الشارع ورفع غطاءها  وتناول \" الكلاشنكوف\" وقام بتلقيمه والتأكد من فعاليته وهو ينظر إلى العصبة التي توزعت على مفترق الطرق لتأمين الحماية ريثما يتم نهب وسلب شقة المحامي المشهور في طرابلس \" \"جوزيف حنا\"\" فالمحامي معروف عنه أنه يهتم باقتناء الأنواع الفاخرة من السجاد وثريات الكريستال وغيرها من التحف النادرة.

 ولما سمعت الزوجته صوت أقسام الكلاشنكوف حتى صرخت: اهدأ ياحاج.... مالنا ومالهم..... يصطفلوا ...

لم يأبه \"الحاج راشد\" لتوسلات زوجته \"نادرة\"، حمل سلاحه بيمناه، وفتح الباب بيسراه، وانطلق يهدد ويتوعد ولما وصل أمام مدخل المبنى الذي يضم ثلاث شقق كبيرة رأى سيارة كبيرة بجوارها أربعة رجال يبدو أنهم عمال مستأجرون، يستمعون إلى رجل طويل عريض المنكبين يتطاير الشرر من عينيه، يعلق رشاشه على كتفيه، لم يأبه الحاج بهم صاح بأعلى صوته: يا أبو الشباب ألم نتفق أمس على أن تتركوا شقة المحامي جوزيف وألا تتعرضوا لها بالنهب والسلب، صاح الشاب:

 ـ غيرنا الإتفاق ، سيصعد هؤلاء العمال الآن ويخلعوا باب الشقة وينزلوا العفش .

ـ على جثتي إن شاء الله.

ـ لا تسوي مراجل يا عم.

ـ يا بني المحامي جوزيف وغيره من العائلات المسيحية تسكن معنا في طرابلس منذ وعيت على الدنيا ولم يتعرض أحد لهم بسوء، هم في ذمتنا ونحن نتقاسم معهم الخير والشر من زمن بعيد.

ـ ألا تدري  ما فعلت جماعته بأهل ملتنا في بيروت والجبل وزغرتا و... و.....

ـ أدري يابني ولكن \" ولا تزر وازرة وزر أخرى\"

ـ ما ذا قلت ؟ لم أفهم

ـ طبعا لم تفهم ولو كنت تفهم لما تصرفت هكذا!! وهل أنت ستحمي أهل ملتنا في طرابلس الشام؟ أم في لبنان؟

ـ لا تكبر كلامك، أنت أكبر من والدي لذا أحترمك،

ـ قبل أن تحترمني احترم من يسكن في هذا البلد، فلا يجوز لك أن تعتدي على أملاك أي من كان، حتى إن لم يكن من ملتنا.

ـ وهل أنت شيخ الإسلام أم مفتي المسلمين؟

 

ـ قلت لك لن تدخلوا الشقة إلا على جثتي.

ـ سندخل الشقة شئت أم أبيت.

ما كاد الشاب ينهي كلامه حتى رفع \"الحاج راشد\" رشاشه وقام بإطلاق زخة من الرصاص في الهواء إرهابًا للصوص، في هذه الأثناء تقدم المسلحون الذين رابطوا على مفترق الطرق، واختفت سيارة النقل بسائقها وعمالها الثلاث، ولم يبق في الساحة سوى \"الحاج راشد\" وأربعة مسلحين وعشرات من سكان الحي هرعوا من بيوتهم لدى سماع أزيز الرصاص.

 لم تجد العصبة مخرجًا من هذا الموقف المحرج إلا المهادنة والتهدئة، ولا سيما بعد فرار سيارة النقل وعمالها.

تجمهر عدد غير قليل من الناس، عندها صاح قائد المجموعة المسلحة: تكرم يا حاج، لن ندخل الشقة، ولكن هل تدري يا حاج أنك منعت الخير عن إخوانك المسلمين، يا ناس، يا بشر، هل تظنوننا لصوص؟ لا نحن سنأخذ العفش ونوزعه على المهجرين المسلمين الذين فقدوا ديارهم وسلب متاعهم في مناطق عديدة من لبنان!

مدَّ \"الحاج راشد\" يده إلى جيبه وأخرج منه مفاتيح شقته و صاح بأعلى صوته: يا ناس يا جيران اشهدوا هذه مفاتيح شقتي إنها في الطابق الأول ، اصعدوا وخذوا ما تريدون منها عن طيب خاطر . وألقى بالمفاتيح نحو كبيرهم في جو ساده الصمت والهدوء، ولم يقطعه سوى بضع عبارات من الثناء والمدح من جموع الناس الذين زاد عددهم: عشت يا حاج، الله يحميك يا حاج، يا كريم يا ابن الكر ماء.......

اقترب رئيس المجموعة ورجاله من \"الحاج راشد\" مبدين أسفهم واعتذارهم من هذا الموقف الذي أحرجهم أمام جموع الناس، وفي تلك اللحظات اقتربت منهم سيارة جيب عسكرية كانت ترابط في إحدى زوايا الشارع فاستقلوها على عجل في مشهد مثير من الحزن والفرح في آن واحد.

تفرقت الجموع وصعد الحاج إلى شقته ولكنه لم يسمع هذه المرة عبارات الثناء والمديح، بل سمع عبارات اللوم والتقريع من زوجته المحامية \" نادرة\": البلد فلتان لا يوجد قانون لا يوجد قضاء، ولا عدل، الأوباش يتحكمون في مصير البلد، ماذا لو أطلقوا النار عليك وأردوك قتيلا ؟ ماذا سنستفيد؟ سيقولون إنك رجل وبطل وشهم، وكل يمضي إلى بيته .

لم يرد \"الحاج راشد\" على زوجته الغاضبة وخرج إلى الشرفة ورفع غطاء الأريكة القديمة وأرجع سلاحه إليها ورجع إلى الصالة الكبيرة حيث لوم المحامية لم ينقطع.

رفع الحاج سماعتة الهاتف وأدار القرص : ألو المقدم فاروق : السلام عليكم غير معقول يا خيي ، لازم تضب الأوباش من طرابلس، ألم تعلم ما حصل اليوم؟

ـ لقد علمنا وسنبحث عنهم وسيلقون جزاءهم إن شاء الله، شكرًا لاهتمامك يا حاج.

رد السماعة ثم رفعها وأجرى اتصالا آخر:

ـ ألو الشيخ سعيد: السلام عليكم، يطول عمرك يا شيخ ألا يوجد أحد من جماعتك يردع الزعران، لقد أساؤوا للدين وللمشايخ وللبلد باسم الإسلام والمسلمين!!

ـ حاضر يا حاج علمنا بالموضوع وأجرينا اللازم.

ـ ألو مقسم مخيم نهر البارد، لو سمحت أعطيني \" العقيد أبو الوليد\"

ـ لا يا حاج ما أحد يعملها من المخيم، لقد علمنا بما حدث، الذين عملوها من جماعة \" أبو الغضنفر\" من الميناء.

ـ شكرًا سيادة العقيد.

ـ ألو بيروت، منزل أنطوان رحمة، لو سمحت خبِّر خيَّك جوزيف.......

في اليوم التالي خرج الحاج د إلى عمله وأوصى زوجته أن تخبره إذا أعادت المجموعة الكرة، لكن الزوجة لم تكترث لما يقول، بالرغم من تأكيده على الموضوع.

عاد \"الحاج راشد\" من عمله متعبا منهكا، لقد كان هذا اليوم شاقًا ولا سيما بعد عطلة نهاية الأسبوع التي كدرت صفو كثير من سكان الحي فتح الباب وصاح : أين أنت يا \"نادرة\" طمئنيني هل رجعوا اليوم؟

ـ نعم يا حاج، رجعوا ومعهم \"كميون\" كبير وقشوا البيت كله!!

ـ صاح الحاج مغضبًا: ولمَ لمْ تخبريني يا \"نادرة\" ؟ ألمْ أوصك بذلك؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ضحكت الزوجة، فصرخ بها بعد أن اشتد غضبه:

ـ يجب عليك أن تبكي لا أن تضحكي!! ولماذا لم تفتحي الباب وتصرخي بهم وتمنعيهم ؟

ـ نظرت إليهم من ثقب الباب ورأيتهم يحملون العفش وسررت من ذلك، لقد ارتحنا من المشكلات

ـ سررت من اللصوص وهم يسرقون جيراننا!!

ـ لا يا حاج ليسوا لصوصًا، لقد حضر جوزيف وزوجته وبعض العمال، لم يتركوا شيئا في الشقة، نظرت إلى السيارة من الشرفة، لقد حملا كلَّ شيءٍ يبدو أنهما لم يتركا شيئًا في الشقة.

هدأ الحاج من روعه وحمد الله على الانتهاء من هذه المشكلة، ولكنه التفت فجأة نحو زوجته قائلا: ألم يقرعا الباب ويسألا عنا؟

ـ لا يا حاج.

ـ\" لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم\"، \" إيـــــه، اعمل مليح وكب بالبحر\"و\" ما يضيع شيء مع رب العباد\".

ـ الحمد لله يا حاج، ارتحنا من هم كبير كل يوم ومشكلة مع الناس، هل نحن حراس للعالم؟

قام \"الحاج راشد\" وتوجه للمغسلة وتوضأ عله يطفئ غضبه الذي حاول إخفاءه حتى عن رفيقة دربه.

دخل غرفته واستلقى على سريره مشبكًا أصابعه حامل بها رأسه، وصوب نظره بأعلى السقف وأخذت الأفكار تتوارد على ذهنه: ولو يا جوزيف ألا نستحق كلمة شكر؟ ، أليس من المروءة أن تسأل عن جيرانك الذين حموك وحموا بيتك طيلة أيام الحرب البغيضة ؟  لا، لا أريد أي شكر لأن الذي عملته قصدت به وجه الله، الحمد لله الذي لم يقدم لنا شكرًا، لا الواجب عليه أن يشكر لأنَّ من يشكر الناس يشكر الله!! ربما ظننا غير موجدين في الشقة، ربما أنه سيتصل بالهاتف غدًا أو بعد غدٍ ليطمئن عنا، ربما...... وهكذا حاول \"الحاج راشد\" أن يقنع نفسه بحسن النوايا.

مرت السنون ووضعت الحرب أوزارها، وعاد الأمن لطرابلس وغيرها، ونسي أكثر اللبنانيين الحرب ومآسيها وكذلك نسيها \"الحاج راشد\"، لكنه لم ينسَ موقف جاره جوزيف، لا شكر ولا اتصال ولا اطمئنان.

 قصد \"الحاج راشد\" والمحامية \"نادرة\" بيروت لزيارة قريب لهما بمستشفى الجامعة الأمريكية، لقد سبقته \"نادرة\" إلى غرفة المريض لأن \"الحاج راشد\" أراد أن يشتري باقة من الزهور للمريض ولما وصل غرفة المريض سلم على المريض ودعا له الشفاء ولما هما في الخروج قالت \"نادرة\": يا حاج لقد رأيت مدام جوزيف وسلمت عليها وأخبرتني أن زوجها في غرفة رقم\"44\" وأنه تماثل للشفاء بعد أن أجرى عملية الزائدة الدودية قبل يومين.

صاح الحاج: \"جوزيف حنا\"!!

ـ نعم \"جوزيف حنا\" جارنا القديم سنعوده الآن إنها فرصة لن تتكرر!!

ـ لا يا \"نادرة\" أنا لن أعوده، وأنت حرة إذا أحببت أن تذهبي فسأنتظرك هنا.

ـ لا يا حاج أنت رجل مؤمن، وربنا لن يضيع أجر من أحسن عملاً.

حاول \"الحاج راشد\" أن يتملص من هذه الزيارة ولكنه لم يفلح، لقد أجبرته المحامية \"نادرة\" على الزيارة وعلى شراء باقة من الزهور أيضًا ولما دخلا غرفة جوزيف وقدما باقة الزهور ، سلما عليه. لم يفاجأ جوزيف بهذه الزيارة، فقد أخبرته زوجته بوجودهما في المستشفى ولكنه راهن زوجته على زيارته ، لقد حاول أن يبدي إعتذاراته وأسفه للحاج راشد وللمحامية \"نادرة\" ، لم يعد ذاك المحامي المشهور الذي يترافع عن القضايا التي لا يقدر عليها إلا المحامون الأساتذة، لقد بدا وكأنه متهم في القفص يريد من يدافع عنه ، صمت \"الحاج راشد\" بينما أخذت المحامية \"نادرة\" تدافع عن المتهم الذي ساءها موقفه الحرج مما أبداه من إعتذارات وحجج واهية : أنا والحاج لا نتمنى لكما إلا الخير ، ولو ما عملنا شيئًا، هذا واجبنا، صحيح يا حاج، رد \"الحاج راشد\": طبعا صحيح نحن لم نعمل إلا الواجب.

ردَّ جوزيف: يا جماعة، لقد فضلتم علينا، والله أنا قليل أصل وأنتما أحسن مني. وما أن انتهى حتى تفجرت الدموع من عينيه.

تقدم \"الحاج راشد\" من سريره وقبل رأسه وهو يقول : لا يا جوزيف نحن جيران وأهل ، كلنا لبعض ، وما قمت به أقل من الواجب .

ـ لا يا حاج، لا يا حاج، قصرت معك ومع الجيران، أرجو أن تسامحوني.

 خرج \"الحاج راشد\" والمحامية \"نادرة\" من غرفته وهما يطمئنانه، ويدعوان له بالشفاء العاجل.

رجع الزوجان إلى طرابلس بعد أن قضيا بعض الحوائج في بيروت، كانا في همة من أمرهما أحبا أن يكونا في طرابلس قبل موعد انتخابات نقابة المحامين بوقت كاف فالمحامية \"نادرة\" أرادت أن تخوض الانتخابات هذه المرة ولعلها أحبت أن تكون أول امرأة طرابلسية تخوض انتخابات نقابة المحامين.

لقد نصحها كثير من الأقارب والجيران والأصحاب بعدم ترشيح نفسها، كل يدلي بحجة قد تكون مقنعة وحتى \"الحاج راشد\" لم يكن شديد الحماس لمثل هذا العمل فهو يعرف الولاءات جيدا ويعلم تأثير الأحزاب السياسية على أصوات الناخبين وهو يعرف أيضا ما هو اللوم الذي سيلقاه من بعض أقاربه غير المؤمنين بمثل هذه الانتخابات ولا سيما إذا كانت المرشحة امرأة، بالرغم من ذلك أدار حملة الدعاية الانتخابية لزوجته، فقدم كل ما يستطيع من أجل أن تصل شريكة حياته إلى مجلس نقابة المحامين عن دائرة طرابلس والشمال ، كان المرشحون أكثر من عشرين، الكل يتمنى الفوز بالمقعد المخصص للمدينة .

جاء يوم الحسم, التنافس في مقر النقابة على أشده، المحامون يدلون بأصواتهم، ويضعونها في صندوق تشرف عليه لجنة من المحلفين، كاد الوقت ينتهي فأغلب المحامين كان في القاعة منذ الساعة الأولى، فجأة يدخل المحامي \"جوزيف حنا\" إلى قاعة النقابة، يفاجئ الجميع،  ينظر يمنة ويسرة، وكأنه رأى مبتغاه يقترب من \"الحاج راشد\" ويعانقه ويأخذه من يده ويمشي معه بالقرب من اللجنة، يأخذ جوزيف ورقة الانتخاب ويخلو مع \"الحاج راشد\" خلف الستارة ويتناول قلمه، ويكتب على الورقة\" السيدة \"نادرة\" ويخرج متجهًا إلى الصندوق ويضعها فيه .

 كان جوزيف آخر المقترعين فقد فتحت الصناديق، وكأنها كانت بانتظاره، أخذت اللجنة تفرز الأصوات، أحد أعضاء اللجنة يكتب على سبورة وضعت أمام الجميع أسماء المرشحين والأصوات التي حازها كل مرشح، يا للمفاجأة أعلى الأصوات هي للمرشح نبيل خوري والسيدة \"نادرة\"، الكاتب يكتب على السبورة أمام اسميهما 380 صوتًا ارتفعت أصوات نبيل وأصبحت 384 ، يقرأ رئيس اللجنة بصوت عال : \"نادرة\"، \"نادرة\"،.... لقد تساوت الأصوات بـ 384 لم يبق إلا صوت واحد سيحدد الفائز، وقف رئيس اللجنة ممسكًا الورقة الأخيرة، ووقفت معه الأنفاس وحاول أن يضفي شيئًا من الرهبة على الموقف إذ أخذ يقدم للفائز بمقدمة زادت معها الأنفاس حبسًا وتشوقًا هاهو يعلن عن الفائز بمقعد نقابة المحامين عن مدينة طرابلس: أعلن الآن ومن هذا المكان عن الفائز بمقعد النقابة: أتمنى للزميل الأستاذ نبيل خوري حظًا أوفر في انتخابات الدورة المقبلة، لقد حسم هذا الصوت الفوز للسيدة \"نادرة\" لقد حصلت على 385 صوتًا، مبارك للأستاذة \"نادرة\" ونتمنى لها مشاركة فعالة في نقابتنا.

ضجت القاعة بالتصفيق وبدت الحيرة والدهشة في وجوه الحاضرين، نظر \"الحاج راشد\" إلى المحامي جوزيف فرآه غارقا في التصفيق والدموع تنساب من عينيه.