شارعي الحزين
شارعي الحزين
علي أبو عبد الرحمن
بعد سبع وعشرين عاماً يعود لشارعه ... عاد ليطلّ على طفولته من قمّة السنين الماضية ... وقف في أوله ...مستأذناً من ذكرياته الدخول إلى عالم الطفولة والصبا ... نظرة جمع بها الشارع في قبضة عينيه ... أغلق بابهما قليلاً مستذكراً شيئاً ما ... فتحهما ببطء كأنه يحمل فوق رمشيه الموت ... ناظراً إلى أرصفته الثلاثة ... رصيفين جالسين إلى جانبيه ... والآخر مرتمياً بينهما ... ميتاً قتلته الأقدام الغريبة التي وطأته ... الرصيفان ينظران إليه نظر الثكلى لوحيدها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ولا تستطيع فعل شئ له ... الدكاكين واقفة في الجهتين يتّكئ بعضها على بعض جيشاً مهزوماً أنهكه التعب والأفكار ... وقد رسمت فرشاة الليالي الكآبة على وجوهها القديمة ... جثا على ركبتيه ويديه مقبّلاً شارعه الحزين ـ كما سمّاه بعد عودته ـ هامساً في أذنه ... بدمع يغسل التراب عن لوحة الماضي :
يا شارعي الحزين ..........
ما لي أراك تسير غريباً بين أُناسك ثملاً يترنّح ؟! ... ما لك تطرق الأبواب ؟ ولا باب يُفتح ... تُولّي عنه ... يدعونك ... على أن تنسى الماضي ... لكنك تمضي ... راحلاً بخطاً وئيدة ... ما أثقلها قيود الماضي في زمن الغربة ........
ياشارعي الغريب ..........
هلمّ اليّ ... لا ترحل ... تعال انظر في عيني ... أم أنّك نسيت هذه العيون التي كتبت ببريقها كلمات الطفولة على صفحاتك ... حملتني طفلاً ... داعبتني صبياً ... رافقتني يافعاً ... وفي شبابي مزّقتُ لياليك بآلامي ... حدّق في جفني الذابلين لتعرف كم دمعة جرت عليك وأنت غافل عنهما ... تعال اجلس بجانبي ... وليشكُ كلٌ منا دمعته ... كلانا اليوم غريب بين أهله ... تعال علمني كيف أمحو الناس منك في قلبي ؟ رسمتك فيه منذ الطفولة ... ورسمت فيك ذكرياتي ... وعلى جانبيك تمثالاً لكلّ ليلة تولّت ... وعلى كلّ تمثال سراجاً لأُناسك الذين رحلوا ... لأصحابي الذين حال الدهر بيني وبينهم ... ولمّا انتهيت من رسمي ـ ياشارعي ـ استيقظت ... استيقظت من غفلتي ... فتحت عينيّ ... لم تزل الفرشاة بين أُناملي ... حينها ... لم أجد أحداً عليك ... لم أحداً سواك ... لكنك خالٍ ! ... التماثيل محطّمة ... الأسرجة مطفأة ... لا أُناسك ... لا أصحابي ... حتّى السماء التي أسير تحتها ليست هي ... وجدتك أطلال ذكريات كباقي الوشم في ظاهر اليد ... بقايا مدينة مهجورة ... ولكن ... لم يزل رسمهم في قلبي ... فتعال ياشارعي ، وخبّرني كيف رحلوا ؟ ... وأين ؟ ...... وعلمني كيف أمحوهم ؟
يا شارعي الحبيب .........
لا تخف منّي ... هاك دموعي ... اغسل بها قلبي بعدما تغسل بها دربك ... رشّ بها ترابك ... لنشمّ معاً عطر الليالي التي رماها الزمن ـ برغم أنفينا ـ خلف آلامنا وأحزاننا ... ها أنا آخر من بقي من أيامك الخالية ... أقف أمامك ... منتظراً حكمك فيّ ... أقف ... لأرحل عنك مرة أُخرى .................
عشقتك يا شارعي حتّى الموت ... مثلما عشقت الرحيل عنك حتّى الموت ... أحببتك هجرك ... لأنني أحببتك ... سأرحل ... لتبقى طفولتي فيك طفولة ... يا شارعي ..... عانق شارعه ... وأراد أن يصافحه ... مدّ يده ... لكن شارعه لم يفعل شيئاً كأنه لايراه ... ظلّ مادّاً يده ...مرّ طفل جارياً بالقرب منه ... توقّف ليراقب هذا الغريب الذي وخطه الشيب وهو يمد يده ... فظنه مجنوناً ... فقال له :
ـ ماذا تفعل أيها المجنون ؟! أتصافح الأموات أم أنك ميت مثلهم ؟.........
ثم ولّى الطفل مسرعاً وهو يقهقه ...انتبه صاحبنا لكلمته الأخيرة ... إنك ميّت مثلهم ... انتبه فرأى شارعه وقد تحوّل إلى مقبرة .......... ترك المقبرة وراء ظهره وحقيبة السفر لم تزل قابضة على كفه ... وهو يردّد
انك ميت مثلهم ..... انك ميت مثلهم ..... انك ميت مثـ............................