أحب هدى.. وتزوج منى

نازك الطنطاوي

ذات يوم وبينما محمد عائد إلى منزله، ناولته أخته رسالة جاء بها ساعي البريد، وكان محمد في شوق كبير بانتظار رسالة تعيينه مدرّساً للغة العربية، وعندما قرأها بدت على وجهه علامات الحزن، فالتفت إلى والدته وقال بحزن:

- يجب أن أذهب إلى حلب خلال أسبوع لألتحق بوظيفتي هناك.. وهذا هو قرار تعييني.

ساد صمت طويل، وحزن عميق لفّ الأسرة التي كانت تأمل في أن يكون تعيين ابنها محمد في دمشق، وليس في حلب شمال سورية، ولكن هذا الصمت ما لبث أن قطعه الشيخ عبد القادر الذي تكلّف الابتسام، وهو يقول لولده:

- على بركة الله يا بني، حلب مدينة جميلة، وأهلها كرام، والمواصلات ميسّرة ولله الحمد، وسوف تأتينا بالصابون الغار الحلبي، والزعتر الحلبي إن شاء الله.

حزم محمد أمتعته وودّع أهله، متجهاً إلى حلب، وعيون أهله تلاحقه وتدعو له بالتوفيق.

كان محمد يحادث أهله بالهاتف كل أسبوع، وكانت والدته في كل مرة تحثّه على الزواج، وأنها تنتظر عودته لتريه الفتاة التي تتمنى أن تكون من نصيبه، إلا أن محمداً كان يسكت ويغيّر الحديث، فقد كانت نفسه عازفة عن الزواج، مقبلة على العلم تلتهمه التهاماً.

مرّت الشهور وجاءت امتحانات شهادة الثانوية العامة، وعُيّن محمد مراقباً للامتحانات في مدينة حلب، يتنقل من قاعة إلى قاعة أخرى في كل يوم، وفي اليوم الأخير من الامتحانات، وفي إحدى القاعات، لفتت نظره فتاة جميلة، ذات حياء مميّز، غضّ الأستاذ محمد طرفه عنها، ولكنه لم يستطع إلا أن ينظر إليها مرة ثانية نظرة خاطفة، فشغفته حباً، فأعاد الكرّة في حياء جم.

وبينما محمد شارد الذهن، يفكّر بكيفية التعرّف إلى أهل هذه الفتاة وأخذ عنوانها، سمع صوتاً عذباً يقول له بكل أدب:

- تفضل الورقة يا أستاذ..

تنبّه الأستاذ محمد من شروده، ثم أمسك الورقة محاولاً معرفة اسم هذه الفتاة التي سلبت لبّه بجمالها وحيائها، ولباسها الشرعي الجميل، وأدبها الرفيع، لكنّ الاسم كان قد طوي لكي لا يراه المصححون.

وعند خروج الطالبات من قاعة الامتحانات اتجه محمد نحو المقعد الذي كانت تجلس عليه الفتاة وكتب اسمها ورقمها المسجلين على ذلك المقعد، ثم أخرج سجلها من مدرستها، وعرف اسم أبيها وعنوانها.

وفي المساء كانت الفرحة تغمر قلبه، فأسرع إلى الهاتف وطلب من والدته الحضور إلى حلب بأسرع وقت ممكن، لأنه التقى بفتاة أحلامه.

لم ينم محمد ليلته تلك وهو يستعيد وجه تلك الفتاة مرة أخرى، ويدعو الله أن تكون من نصيبه، لأنها دخلت قلبه دون استئذان.

وعند ظهيرة اليوم التالي، كانت والدة محمد وأخواته يتناولن الغداء معه، وكان محمد لا يهدأ وهو يتكلم عن الفتاة وشكلها، وحجابها، ثم توقف قليلاً وابتسامة حلوة تشرق بين عينيه قائلاً لوالدته:

- تصوري يا أمي اسمها منى وهي مُنية قلبي.

وفي المساء كانت أم محمد وبناتها الثلاث عند أهل الفتاة لرؤيتها، وطلب يدها للزواج إذا حازت رضاهنّ، وكانت المواصفات جيدة، وعندما أقبلت العروس تحمل صينية القهوة وتقدمها لأم محمد، نظرت الأم إليها ثم إلى بناتها، وعلامات الدهشة تكاد تظهر على محياها، ولكنها أخفتها خشية أن ينتبه إليها أهل العروس.

كان محمد ينتظر عودة والدته وأخواته على أحرّ من الجمر، وعندما حضرن، ركض محمد مسرعاً نحوهن وقال بلهفة المشتاق:

- بشّري يا أمي.. كيف وجدت الفتاة؟

جلست الأم على الأريكة تستعيد أنفاسها، بينما كانت الأخت الكبرى (سميّة) تقول بشيء من الدهشة:

- والله يا محمد كل الأوصاف التي وجدتها في فتاتك لم نرها.

وقالت أخته بشرى:

- بصراحة –يا أخي- إنها فتاة عادية، متوسطة الجمال، ولكنها طيبة ولطيفة، والله أعلم.

نظر محمد إلى والدته، يريد الاستفسار عما قالته أختاه، فوجد والدته تهزّ رأسها موافقة لكلام ابنتيها، فنهض بعصبية وهو يقول:

- أنتم هكذا معشر النساء، لا يعجبكنّ شيء.. وأنا موافق عليها يا أمي كيفما كانت.

وأمام إصرار محمد على الزواج من الفتاة التي رأتها عيناه، وأحبها قلبه من أول نظرة، وملكت فؤاده وكيانه كله، حدد موعد آخر مع أهل الفتاة ليراها محمد ويتفق مع أهلها على موعد الخطبة.

في الساعة المحددة، كان محمد ووالدته وأخواته عند أهل العروس، وعندما حضرت العروس بلباسها الشرعي الجميل، وجلبابها الذي ينمّ عن حيائها، ممسكة بصينية القهوة تقدمها إلى محمد، رفع محمد نظره إليها، وإذا به يفاجأ بأن الفتاة التي سكنت قلبه غير التي أمامه.. كاد قلبه ينخلع من مكانه، وعقدت الدهشة لسانه، وقرأت أم محمد الحيرة والدهشة في وجه ابتنها، فما كان منها إلا أن أخذت والدة العروس تحدثها عن جنب، لتترك الفرصة لوحيدها للتعرف على عروسه عن قرب، وفهم محمد ما ترمي إليه والدته، فاقترب من العروس وسألها:

- أظنك قد عرفتني.. فقد كنت مراقباً لكم في الامتحانات النهائية، وفي اليوم الأخير منها بالضبط.

أطرقت منى رأسها إلى الأرض خجلة وحمرة خفيفة تعلو وجهها الحنطي الجميل قائلة بصوت ناعم خجول:

- للأسف أنا لم أكمل امتحاني، فقد أُصبت بمرض عارض اضطرني إلى القعود في المنزل والتخلي عن الامتحانين الأخيرين.

عقدت الدهشة لسان محمد، فصمت قليلاً ثم قال:

- ولكن كانت هناك فتاة شقراء جميلة تجلس مكانك..

أجابت منى وهي تنظر إلى الأرض من الحياء:

- هذه صديقتي هدى، كانت تجلس خلفي، وعند تغيبي عن الامتحان، طلب منها المفتش أن تأخذ مكاني، وتكمل امتحانها، هكذا قالت لي.

كان محمد يستمع إلى منى، ولا يكاد يصدق أذنيه، وبعد قليل استأذن هو ووالدته وأخواته ثم خرجوا جميعاً.

وفي الطريق كان محمد ما تزال الدهشة تعقد لسانه، فأرادت والدته استدراجه بالكلام علّها تعرف ما يفكر به ولدها الغالي، ولكن محمداً ظل صامتاً لا يتكلم، وعند وصولهم إلى المنزل استأذن محمد والدته وأخواته بلطف وذهب إلى غرفته دون أن ينطق ببنت شفة.

في صباح اليوم التالي، قصّ محمد على والدته وأخواته ما دار من حديث بينه وبين العروس، وكيف أنه كان يقصد صديقتها الشقراء الجميلة، فاستوقفته والدته قائلة بحب:

- لا تحزن يا ولدي، غداً بإذن الله أذهب إلى بيت الفتاة وأعتذر لها وآخذ عنوان صديقتها التي أعجبتك وكأن شيئاً لم يكن..

وأكملت أخته الكبرى سمية بابتسامتها الحلوة، وهي تضع يدها بيد أخيها الغالي وتقول وهي تتمايل بدلع وحب:

- ثم نذهب إلى حبيبة القلب هدى، ونراها، ثم نخطبها لك إن شاء الله.

ضحك الجميع.. وسكت محمد ولم يعلّق على كلام أخته ووالدته، ثم ارتدى ملابسه، واستأذن من الجميع وخرج إلى عمله.

وعند الظهيرة عاد محمد من مدرسته، وتناول طعام الغداء مع أهله، وبينما هم يشربون الشاي، قالت أم محمد لولدها:

- اذهب يا ولدي وارتح قليلاً في غرفتك، وعندما تستيقظ سوف توصلنا إلى بيت أهل الفتاة التي كنّا عندها البارحة لنأخذ عنوان صديقتها..

نظر محمد إلى والدته حيران لا يدري ماذا يقول، وبعد هنيهة من الزمن، قال محمد لوالدته:

- سوف أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة –يا أمي- وبعدها أقول لك ماذا أقرر..

دخل محمد إلى غرفته بعدما توضأ، وصلّى صلاة الاستخارة ثم ذهب إلى فراشه لينام من عناء اليوم.

وبعد العصر كانت أم محمد تجهز نفسها وبناتها للذهاب إلى أهل الفتاة، فخرج محمد من غرفته، وعندما شاهد أمه وهي مستعدة للخروج، أقبل نحوها وقبّل يديها ثم جلس بجانبها قائلاً بود ورضا وابتسامة مشرقة تعلو وجهه:

- صليت الاستخارة – يا أمي الحبيبة- ورضيت بما قسمه الله لي، ورضيت بأن تكون منى من نصيبي.. وسوف أتصل بوالدها لأتفق معه على جميع الأمور.