سمير يدخّن

نازك الطنطاوي

سمير صبي مدلل، فهو الوحيد على أخواته الأربع.. كانت جميع طلباته أوامر، لا أحد يستطيع أن يرفضها.. وذات مرة شاهد سمير أخته الصغيرة (لبنى) تسطّر دفترها بمسطرة جميلة مزخرفة اشترتها من مصروفها الخاص، فأُعجب بالمسطرة، وأراد أن يأخذها، لكن لبنى رفضت بشدّة، وقالت وهي تحاول أن تخبّئ المسطرة:

- هذه مسطرتي، ولن أعطيها لك مهما حاولت.

عندما شاهد سمير وجه لبنى والغضب يتطاير من عينيها، رمى نفسه إلى الأرض، وأخذ يصيح ويبكي بشدّة.

سمعت الأم صوت سمير، فتركت ما في يدها من عمل، وأسرعت إليه، لتعرف سبب صياحه وبكائه..

فتحت الأم باب الغرفة، فرأت بنتها لبنى تضع يديها خلف ظهرها، كأنها يخبّئ شيئاً ما، وسمير يصرخ ويتوعد بأن يأخذها منها.

أسرعت الأم إلى سمير وضمّته إلى صدرها ثم التفتت إلى لبنى، وسألتها بغضب

- ما الذي يريده سمير، وأنت تخفينه عنه؟..

اضطربت لبنى وقالت والدموع تنهمر من عينيها الحلوتين:

- اليوم يا أمي اشتريت هذه المسطرة، ومسير يريد أن يأخذها مني، وإذا أخذها فسوف يكسرها.

غضبت الأم كثيراً، ثم اتجهت نحو لبنى وأمسكت بيدها وأخذت منها المسطرة، ثم أعطتها لسمير، وهي تمسح دموعه وتقول:

- خذها يا حبيبي، وكفَّ عن البكاء..

نظر سمير إلى أخته لبنى بفرح وتحدٍ وقال لها وهو يعرك عينه بكفّه:

- اذهبي واشتري غيرها.. هذه لي:

وحملت الأم ابنها، وخرجا معاً، تاركين لبنى تجهش في البكاء.. في المساء حضر الأب إلى المنزل، وعندما عرف ما حصل بين سمير ولبنى، لم يعجبه تصرف الأم، وقال لها معاتباً ناصحاً:

- يا أم سمير.. سوف تُفسدين الولد بتصرفك هذا..

ردّت أم سمير وهي تقبّل سميراً:

- يا أبا سمير، بعد أن أكرمنا الله بسمير، تريدني ألاّ ألبّي له كل طلباته؟..

كبُر سمير وكبر معه دلاله وأنانيته، وكبرت معه أخواته أيضاً، ولكنهنّ كنَّ يتحاشينه، ولا يتكلمن معه إلا للضرورة، مما جعل سميراً وحيداً منزوياً لئيماً، يحبّ نفسه وأمه فقط.

وذات يوم وبينما أم سمير تعمل في المطبخ، دُقّ الباب بشدّة، وإذا بسمير يخبط الباب ثم يتجه إلى غرفته دون أن يُلقي التحية على أمّه:

استغربت الأم من تصرف سمير ولكنها لم تحاول أن تفهم ما به، خوفاً عليه من أن يشتدّ غضبه، ويصرخ ويحطم كل ما تراه عيناه..

ويوماً بعد آخر أخذت تصرفات سمير تزداد غموضاً، وأصبح عصبي المزاج، قليل الأكل، لا يحب الجلوس في المنزل إلا نادراً، وعندما حاولت والدته الاستفسار عن سبب خروجه المتواصل، كان سمير يتعلل بأنه يدرس مع أحد أصدقائه.

لاحظ الأب أنّ سميراً لا يجلس ولا يسهر معهم إلا نادراً، وأنه يقضي معظم وقته في غرفته مغلقاً الباب على نفسه، وكلما حاول أن يسأل عن سبب خلوته، كانت الأم تقول له بسعادة:

­ الحمد لله الذي هداه، وأظنه الآن يستعدّ للامتحانات..

ولكن جواب الأم لم يكن ليشفي قلبه، ويهدئ من مخاوفه..

وجاء يوم دخلت سمر -وهي الأخت الكبرى- إلى المنزل وعيناها مليئتان بالدموع، واتجهت نحو أمها في المطبخ وهي لا تستطيع أن تُمسك نفسها عن البكاء وقالت:

­ ماما.. سمير يدخّن..

 سقط قلب الأم من هول ما سمعت، وأحسّت بدوار في رأسها، وأرادت أن تكذّب ابنتها سمر، إلا أن سمر استمرت قائلة:

- اليوم وعند عودتي إلى المنزل، لمحت سميراً وحوله مجموعة من أصحابه الذين يذهب معهم، رأيتهم جميعهم يدخنون..

وقع الخبر على الأم وقوع الصاعقة، لكنها سرعان ما سيطرت على نفسها، وقالت لابنتها:

- لا تخبري أحداً بما شاهدته، وخاصة والدك ريثما أتحقق من الأمر..

أخذت الأم تراقب ابنها دون أن يدري، ومن حين إلى آخر  كانت تفتش خزانته ولكنها لم تعثر على شيء.. إلى أن جاء يوم وبينما الأم ترتب سرير سمير، وإذا بشيء ما تحت فراشه، وعندما أخرجته كان علبة سجائر، تبسمرت في مكانها، والدهشة تعقد لسانها، وبينما هي في حالتها هذه دقّ جرس الباب بعنف، ودخل سمير.. نظر سمير إلى أمه متسائلاً:

 - ما بك يا أمي.. يا غاليتي؟

استجمعت الأم قواها وقالت له:

­ أنا مندهشة منك ومن تصرفاتك.. الحق عليّ وليس عليك.. تعال إلى هنا.

أمسكت الأم بسمير وأدخلته إلى غرفته وقالت له بحزم:

-  الآن عرفت سبب اصفرار وجهك، وعزوفك عن الطعام، والسعال الذي ينتابك من حين إلى آخر، وخاصة عند الصباح..

صُعق سمير من تصرّف والدته نحوه، وأحسّ بضيق شديد، وأراد أن يتكلم ولكن هول المفاجأة أسكتته..

أمسكت الأم بعلبة السجائر وصوتها يرتجف من الغضب، ودون أن تدري انهالت عليه تضربه بشدّة وهي تقول:

- كيف هانت عليك  نفسك وأنت تشرب هذا السمّ الخطير؟.. ألا تعلم أني متّ وعشت حتى رأيتك تخرج إلى الدنيا، وتملأ حياتنا بالسعادة، وربيتك كل شبر بنذر، وأخيراً وبعد أن صرت صبياً يافعاً، تريد أن تُهلك نفسك، وتُهلكني معك..

تخلّص سمير من يدي والدته بصعوبة، وأسرع نحو غرفته وأغلقها على نفسه، وصاح بعصبية:

- دعيني وشأني، فقد كبرت وصرت مسؤولاً عن تصرفاتي..

 في المساء.. اجتمعت الأسرة على مائدة العشاء، ولكنَّ سميراً لم يكن معهم. ولاحظ الأب حزن الأم ووجوم بناتها، فسارع إلى سؤال زوجته عن الذي أصابهم؟ وأين سمير؟

وأمام سكوت الجميع.. ترك الأب المائدة واتجه إلى غرفة سمير، فإذا هو يبكي، وحول عينيه هالة من الزُرقة، فصرخ بدهشة:

- من فعل هذا بك؟..

وقبل أن يكمل كلامه، كانت أم سمير تقف خلفه قائلة بحزن:

- أنا ضربته.. تصوّر يا أبا سمير إنّه يدخن.. يا للفضيحة:

نظر الأب إلى سمير والشفقة تملأ عينيه:

- أهكذا يُعامل من ارتكب ذنباً؟..

ثم قال بحزم:

- هل تسمحين أن تتركينا وحدنا..

نظرت الأم نحو ولدها وقلبها يتفطر عليه من الحزن، ثم أومأت للبنات أن يذهبن إلى النوم، بدون أن تتفوّه إحداهن بكلمة واحدة، فيما اتجهت هي نحو غرفتها، وأخذت تصلي، وتبتهل إلى الله القدير، أن يهدي ولدها ويحفظ لها وحيدها، ويُبعد عنه رفاق السوء.

أما أبو سمير فقد احتضن ولده بحنان، بينما هو يبكي ويخبئ وجهه عن والده من شدّة الخجل ويقول:

- انظر يا أبي ماذا فعلت أمي! -وأشار إلى عينيه ويديه-

تناول الأب منديلاً وأخذ يمسح الدموع من عيني سمير، ويقول له بود:

­ هكذا بدون سبب؟.. وأنت تعلم أنّ أمك تحبّك أكثر من نفسها..

أطرق سمير رأسه إلى الأرض خجلاً، وصوته يجهش بالبكاء، فناوله الأب كأساً من الماء وهو يربت على كتفيه مهدئاً:

- تكلّم يا بُني.. هل ما تقوله أمّك صحيح؟.. منذ متى تتعامل مع السجائر؟؟..

سكت سمير لحظات ثم قال بأسف:

- منذ أن تعرفت على صديقي عمر، كنا نذهب بعد الانصراف من المدرسة إلى دكان قريب من منزلنا، فيشتري سيجارة، ونجلس معاً إلى أن ينتهي هو من تدخين سيجارته.. وسكت قليلاً ثم أردف قائلاً:

- وذات يوم ألحّ عليّ عمر أن أضع السيجارة في فمي، أجربها، وعندما رفضت وصفني بالطفل الصغير قائلاً:

- إنك لن تكبر إذا لم تدخّن..

ومنذ ذلك اليوم، ونحن نشتري كل يوم بضع سجائر، ندخّن بعضها ونخبئ الباقي إلى المنزل..

هزّ الأب رأسه بحزن قائلاً:

- الآن عرفت سبب اعتصامك بالغرفة، وعدم الخروج منها إلا بعد أن تتخلص من هذه الرائحة العالقة بك وبملابسك..

أومأ سمير برأسه موافقاً على كلام والده، بينما استمر الأب في الحديث:

- ألا تدري يا بني أنّ التدخين حرام، بعد أن أثبت الأطباء ضرره؟ إنّه آفة كريهة، أصابت الإنسان بكثير من العلل والأمراض، فهو يؤثر على الغدد اللمفاوية والنخامية، والمراكز العصبية، ويؤثر أيضاً على القلب وعلى الرئتين، ويرفع ضغط الدم، ويضيق المجاري التنفسية، ويصيب المعدة بالسرطان، ويضعف العضلات، ويصل تأثيره أيضاً على العيون..

 فتح سمير فمه من الدهشة، فيما تابع الأب كلامه:

- الغريب أن المدخّن يُقبل على شراء هذه السموم بلهفة وشوق، لما تحدثه في كيانه من تفاعل غريب تجعله يلحّ في طلبها، إلى أن تقضي على حياته نهائياً..

سكت أبو سمير لحظات، كان يجيل خلالها عينيه في عيني ولده، ليرى تأثير كلماته فيه، ثم تابع يقول:

- التدخين -يا بني- هو أهم الأسباب التي تؤدي إلى أمراض الرئة المزمنة، ومن الواضح علمياً أنّ التدخين يسبب تغييرات في القصبات الهوائية والرئة، تتطور تدريجياً حتى تسبب التهاب القصبات المزمن، ويبدأ هذا المرض بسعال خفيف في الصباح ثم يتطور إلى ضيق في التنفس، والنزلات الصدرية المتكررة والصفير عند التنفس.

وعندما توقف الأب لحظة عن الكلام، قال سمير في خجل:

- ولكنّ البائع  يا أبي قال لنا: إنّ هذه السجائر التي نستعملها قليلة النيكوتين لذلك فهي غير مضرّة بالصحة..

ضرب الأب كفاً بكف وقال:

- أستغفر الله العظيم.. أستغفر الله العظيم.. لقد أُجريت تجارب كثيرة على السجائر المنخفضة القطران، فوجدوا أن المدخنين يستنشقونها بعمق، لإحساسهم بأن دخانها خفيف.. الأمر الذي يؤدي إلى وصول القطران وغيره من السموم التي يحتويها الدخان إلى أطراف الرئة، ومن ثم تصاب الرئة بنوع من السرطان، يُعرف طبياً باسم (ادينوكارسينوما) وهو سرطان الخلايا الغديّة.

خفف الأب من لهجته بعد أن أخذ نفساً عميقاً ثم قال:

- والصغار والشباب -يا بُني- أشدُّ تأثراً بالدخان من الكبار، لأن شرايين قلوبهم تكون أطرى، وتتقلص بقوة أكثر.

وبعد أن أثبت العلماء هذه الأضرار، أفتى علماء المسلمين بحرمة التدخين، لأنه السبب الرئيس في تقلص شرايين القلب، وهذا بدوره يؤدي إلى الذبحة القلبية المفاجئة، فالأبحاث الطبية أظهرت بشكل غير قابل للجدل، التأثير السيئ للتدخين على القلب وشرايينه، وهذا الضرر يبدأ من تدخين السيجارة الأولى، حتى ولو لم (يبلع) المدخّن الدخان، لأن مادة النيكوتين تذوب في اللعاب، وتمتص بواسطة الدم، وتسبب تقلصاً واضحاً في شرايين القلب، وباقي شرايين الجسم.

لم يتمالك الأب نفسه، فسقطت دمعتان سخينتان على وجنتيه أراد أن يخفيهما بقوله:

-  بعد كل الذي سمعته ­يا بني­ هل ستستمر في التدخين أم تعاهدني أن لا تعود إلى هذه العادة السيئة مرة أخرى؟ ولا إلى أولئك الأصحاب السيّئين الذين لا يجلبون لك إلا المتاعب والأمراض والشرور؟.

وبينما كان سمير يعاهد أباه على ترك التدخين، دقّ جرس الباب وإذا بأخته لبنى تخبر أخاها أن صديقه عمر في الباب.

 مسح سمير وجهه بكلتا يديه، ثم استأذن أباه بأدب، واتجه إلى الباب الذي يقف أمامه صديقه عمر وقال له بحزم:

 - أرجوك أن تنسى بيتي هذا إذا لم تقلع عن التدخين.. لأني عاهدت الله وعاهدت أبي أن لا أعود إلى هذه السموم مرة أخرى..