حمائم مرزوق
نعيم الغول
مرزوق ذو الملامح السمراء التي ورثها عن أمه القادمة من أعماق الصعيد المصري "تصعد" إلى سطح الدار وفتح باب "الخم"* حيث تجمعت حمائمه التي نزل إلى سوق الحمام واشتراها من مصروفه وعيدياته التي جمعها على مدى سنتين. كان من بينها حمائم مصرية وشامية وبالطبع الكثير من الحمام البلدي. وابتسم بفرح حين استشعر اليقين بأن حمائمه ستسبق حمائم ابن جيرانهم الذي أحضرتها له أمه الروسية من جورجية وأوكرانية ليتذوق معنى تحليق الحمام الحر.
همس : "ستحلقين أعلى وابعد."
كان قد لاحظ بعد عودته من صلاة الفجر في المسجد أن الغيوم سارت أمام الريح إلى أماكن أخرى بعيدة كقوافل تنقل الحرير والبشائر. ألجمه الدفء قليلا، وود لو بقي هكذا ساكنا طوال العمر تحت سماء صافية بلا مطر، وشمس لا تحجبها غيوم. "برجمت"* بعض الذكور للإناث داخل الخم. فقرر أن يضع حدا للغواية "الخـُمـِّيـَّة " فأخذ الحمائم البلدية والشامية والمصرية وأطلقها في الشمس.
قال لها:" هناك مساحة في الأجواء لم تصلي إليها بعد . اذهبي إليها وعودي لي بخبرها."
تلك البقعة كانت خلف الأفق ،وكان كثيرا ما يجلس مع والده يحدقان إليها حيث يحاول الوالد أن يشرح له ما يوجد خلفها، والولد يلح على أبيه بالذهاب إليها، والوالد يرد بأنه حاول ذات يوم فسقط على رقبته وكادت تدق عنقه، وأنها واسعة وبعيدة يضيع الفرد الواحد فيها وأنها تحتاج الى بحر من الناس كي تمتلئ وتفيض بجمالها على من يحبها. ومرزوق في كل مرة يقف غاضبا ويقول :"يوما ما سأذهب وحدي."
حوَّم السرب في الجو، وكان يبدو من بعيد كمتزلج على الماء يدور مع الموج يعلو ويهبط ويتمايل. وبين الفينة والأخرى كان يرى السرب يلمع حين ترتد أشعة الشمس عن أبدان الحمائم فتبدو كقناديل تتنقل في السماء ترسل أضواءها إشارات فرح الى الأرض الحزينة.
استسلم مرزوق قليلا للحظات انكسار القيود تلك.
ومرت ثوان قبل أن يسمع إطلاق نار كثيف باتجاه سربه الذي كان يمتص اصفر الشمس وازرق السماء بوله و نشوة. ورأى حمائمه تخر الواحدة تلو الأخرى.
ركض كامرأة تلاحق لصا خطف طفلها الذي جاءها بعد عقم سنين، وحين وصل الى البقعة التي تلقت جثث حمائمه وجدها ترابا احمر ربما من البكاء أو ربما من دم سال ويختلط به. أولاد كثيرون وقفوا ينظرون بحزن. بعضهم أمسك بعيدان وأخذا يرسم على التراب أجسام الحمائم سأل: "أين هي ؟" قالوا : جاء رجال بسرعة وكان معهم رجل يبدو كصياد محترف وكان يوجه إليهم الأوامر.
وقالوا : سمعناه يقول :" خذوا الجريحة إلى المستشفى وادخلوها باسم نزيل هارب. الحمائم الميتة ادفنوها فورا واكتبوا سبب الوفاة . تلك الحمراء الضخمة "ضحية جرائم الشرف" والبيضاء الناصعة " الحرية اللامسؤولة " والبنِّية "الغاء الحدود القطرية " والسوداء "الإرهاب".
فتح مرزوق الخم ثانية فوجد الذكور ما تزال "تبرجم" للإناث في وصلة غواية لا نهاية لها. تناول بعضها وأطلقه باتجاه تلك البقعة . ومرت ثوان قبل أن يرى نفسه يركض مع طوفان من أولاد وبنات الحي باتجاه البنادق وهم يصرخون " دعوها تحلق".
إضاءات :
§ الخم : بيت الطيور الداجنة وخاصة الدجاج والحمام.
§ البرجمة: الصوت الذي يخرجه ذكر الحمام لأنثاه أثناء التودد والمغازلة.