الهاتف

الهاتف

نازك الطنطاوي

في الصّباح استيقظت (نبيلة) على رنين الهاتف، أمسكت السمّاعة، وأنصتت، ثمّ لم تتمالك نفسها من هول ما سمعت، فألقت سمّاعة الهاتف، وألقت نفسها على الكرسي الذي كان بجوارها، والدنيا تدور من حولها، وأخذت الدّموع تنهمر من عينيها، وكأنهما ينبوعان من الماء الحار.. ولكن هل صحيح ما سمعتْه، أم أنّ أذنيها قد غشيتْهما غاشية، فلم تسمعا جيداً؟

أدارت قرص الهاتف في الحال، وطلبت صديقتها سعاد، ردّتْ سعاد:

- ماذا بك يا نبيلة؟ هل أنت بخير؟

لم تردّ عليها نبيلة، لأنّ صوتها كان مخنوقاً، وبعد أن استردّت أنفاسها قالت وهي تشرق بدموعها:

- تعالي في الحال، فأنا في انتظارك.

عندما حضرت صديقتها سعاد، احتضنتها وهي تبكي بحرقة.. عقدت الدهشة لسان سعاد ولكنها استعادت رباطة جأشها وقالت:

- كفاك بكاء يا أختي، وقولي لي ماذا بك؟ وعلى ماذا تبكين؟ هل سيتأخر زوجك في السفر أم هناك مكروه لا سمح الله؟

جلست نبيلة على الأريكة، وصعّدت تنهيدة حرّى كأنها شُواظ من نار تلتهب في أعماقها، وقالت:

- هل تصدّقين أنّ أحمد يخونني؟

- أعوذ بالله.

- وأنّه يكذب عليّ ويزعم أنّه مسافر فيما هو مع إحداهنّ؟

- أعوذ بالله... ما هذا الكلام الخطير يا نبيلة؟ لعلك تلقّيت مكالمة من امرأة مجهولة؟

واستمرّت نبيلة كأنها لم تسمع اعتراض سعاد:

- لقد كنت له وما زلت مثال الزوجة الصالحة، فهو السيّد وأنا الخادمة، لم أكن أناقشه بشيء، وكلّ شيء يأمر به أنفّذه له فوراً، وليس على لساني سوى: حاضر.. حاضر.. فماذا أفعل له أكثر من ذلك؟ أنا لم أقصّر بحقّه..

ردّت عليها سعاد في هدوء:

- أنت المخطئة يا نبيلة.

تساءلتْ نبيلة في حنق:

- كيف؟ ولماذا؟

أجابت سعاد: أولاً: لأنّك صدّقت كلام امرأة مجهولة، ولا تعرفين غرضها من هذا الكلام، وأتوقّع أنّها تريد إفساد العلاقة بينك وبين زوجك.. وهذا واضحٌ لي وضوح نفسك البريئة.

ثانياً: الحياة الزوجية -يا نبيلة- ليست إصدار الأوامر وتنفيذها.. الحياة الزوجية مشاركة بين الطرفين، وتقاسم للهموم.. صحيح أنت تحبّينه ولا تخالفينه في الرأي، ولكنّ الزوج يتمنّى من زوجته إذا حدّثها عن همومه، أن يجد عندها الحلّ.. أن تخفّف عنه وطأة تلك الهموم.. وإذا أخطأ ترشده إلى الطريق الصحيح، تفرح لفرحه وتحزن لحزنه، يحبُّ أن يراها تعتني به، كما تعتني بنفسها وهندامها عند لقاء صديقاتها.. تتكلّم معه ويتكلّم معها عقلاً بعقل، وتبادله مشاعر نبيلة بمشاعر نبيلة.. يا نبيلة.. إن زوجك لا يريدك خادمة مطيعة يا نبيلة.. يريدك شريكة حياة كاملة..

فتحت نبيلة فمها من الدهشة وقالت:

- أنا أصنع ذلك؟ لا لا .. أنا لا أستطيع...

وعندما سألتها سعاد عن السبب أجابت:

- إني أحترمه جداً، وأخاف منه، فكيف تريدينني أن أكلمه أو أنصحه؟ هذا شيء محال.

ردّت سعاد:

- كلا يا صديقتي أنت مخطئة.. زوجك ليس سبعاً مفترساً حتى تخافي منه.. احترميه.. والاحترام غير الخوف تماماً.. إنك في هذه الحالة تضطرينه إلى معاملتك كدمية في جوفها شريط مسجّل عليه كلمة: حاضر.

قالت نبيلة:

- ألا يغضب أحمد إذا أنا فعلت ذلك؟

ردّت سعاد:

- كلاّ يا صديقتي. أشعريه بأنه سيد البيت، بدون أن تكوني خادمة تحت قدميه.. يجب أن يشعر بأن له بيتاً يستريح فيه، وزوجة تصغي إليه، أي امرأة بكلّ معنى الكلمة، إذا حضر إليها طالعتْه بابتسامة عذبة تنسيه همومه، وإذا دنا منها شمّ رائحتها العطرة الخالية من بُخار الطبخ، وثوبها نظيف يشع بالفرح للقاء الزوج الحبيب.. بهذا سوف يحبُّك حبّاً حقيقيّاً، وإذا فعلت غيره تكونين قد حرمته من نعمة السّكن النّفسي التي ينبغي أن يحسّ بها، ويشكر الله تعالى عليها.. اسمعي نصيحتي يا أختي فالدين النصيحة.

وفيما هما كذلك دقّ الباب ودخل أحمد.

قالت سعاد، وهي تتأهب للمغادرة:

- هيا اذهبي إلى الحمام واغسلي وجهك بسرعة..

وانسلّت من البيت بسرعة، تاركة نبيلة تتصرّف التصرّف اللائق... انصرفت وهي تقول لها:

- أريد أن أسمع الأخبار الطيّبة يا نبيلة..

وأسرعت نبيلة تغسل وجهها، وتلبس أجمل فستان لديها، وجلست تجاذبه أطراف الحديث... فلم تلحظ عليه ما يريب، بل كان كعادته ذلك الرّجل الزّوج الطبيعيّ المحبّ لزوجته وبيته.. حامت حول الموضوع ولكنّه بقي طبيعياً كعادته، وعلّق على الذين يمضون أوقاتهم في المقاهي بأنهم ناس تافهون لا يفهمون قيمة الحياة الزوجيّة، ولا يقدرونها قدرها.

أحسّتْ نبيلة بالخجل من نفسها، وأنّها ظلمت زوجها عندما صدقت الكلام الذي جاءها عن طريق الهاتف، وعلمت أنّ أحمد بريء من ذلك الاتّهام الذي سمعته عنه، فالمتكلّمة في الهاتف إنسانة تافهة مغرضة تريد أن تفسد ما بينها وبين زوجها لحاجة في نفسها، وتذكّرت قول الله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا).