بانتظارهم

بانتظارهم

ماجد رشيد العويد*

كأنما اجترحته يد الفناء، فانسرب ماؤه في الزحام، صار لعيني كالسراب ولمخيلتي كالهاجس يدق وباستمرار عتبة هدوئي فيقلقني غيابه.

لم يدع وراءه أثراً يدل عليه، أو لعلهم محو كل آثاره، ولم يبق منه سوى تلك الابتسامة الهادئة موسومة بها أحاديث ليلنا السامر، وكذلك ترتيله الذي طالما تفجّر الصبح عليه.

خلق غيابه حالة من الإرباك، كثيراً ما وصلت إلى حد التفجر.. آثار مشيته، بصمة عينيه على المكان، خلو المآذن من عذب صوته، الرنين الخافت لضحكته، وفيضان روحه مع كل آية يرتلها. كل ذلك بعث مساحة كبرى من الكآبة، فزهدنا الدنيا في غير إيمان، وفي قلق عال، وغامت بهجة اخضرار الروح. 

في طريقي إلى مدرستي، وبآلية، كنت أنظر إلى كل جدار فألمس في الحفر بقايا نظرة آسرة، ومن الحجارة يطالعني وجه بعثت فيه الأيام نوراً. أمشي فأحس صوتاً يتقـافز من طلل المكان. أتخيله بثوبه الطويل الخشن، فيطرق حفيفه ذاكرتي، وتجرني خطواتي على إيقاع احتكاك الثوب بالأرض.. هكذا إلى أن يتلاشى من مخيلتي ـ حيناً ـ حضوره الشفيف مع زحام أول الصبح.

قلت لنفسي: لعلّه انتقل إلى مكان آخر. أجابني صوت معاند: ربما أقيل من الحياة. كان الصوت مستفزاً قادماً من أحشاء خوفي عليه، فتنبهت. أطلقت من يدي حركات وإشارات دالة على رفضي أن يؤول باكراً إلى الموت، فهو في نضارة العمر.. جسد اتسق جماله، وتخللته نفس هادئة. وقلت لابد أن غناءه في الصباحات يدل على نقائه وطهره.

ذات مساء قال لي وقد سألته عن السبب في إطلاق حنجرته كل صباح:

ـ لا يوجد في الدنيا أجمل من الغناء.

ـ وهل تسرّي به عن نفسك؟

ـ إن صوتي الذي وصفتموه بالشجي العذب ، يقرّبني من الناس، وأنشئ به معهم تلك الآصرة التي ما كان لها أن تنمو وتمتد لولاه.

وقلت له:

ـ ولكن كيف تغني وأنت تؤذن في الناس؟

قال:

ـ ومن قال لك إن الغناء حرام؟

ـ هكذا اتفق.

ـ غير صحيح، فالغناء في غير فحش غداء الروح.

يومها أدركت أن رقة ترتيله، وحلو أذانه وعذوبة غنائه نقلته من بؤس الحياة إلى فيحائها، وارتقت به وصعّدت روحه وهذّبت أحاسيسه. وقلت له:

ـ رغم ما تبديه ملامحك من الفرح فأنت تخفي أمراً ما!!

ـ هذا صحيح، فالناس يحبون إشراكهم فيما هو سار، وينفرون منك إذا عرضت عليهم مشاكلك.

ـ فهل تغفر لي فضولي، وتحدثني عن هذه المشاكل.

ـ لاشيء، ولكن يخامرني الإحساس بأن أحلامنا موؤدة كما نحن. كل شيء هنا ضامر، ولهذا أجد في الأذان دعوة إلى إيقاظ النفس والروح قبل الجسد. ما يحزنني هو يقظة الموت فينا، ثم تراني أصدح بالمواويل أنظّف بها أحشائي من وجع الضياع، نعم نحن في ضياع الأخ يغلب على أخيه.

ـ ولكن ماذا يمكنك أن تفعل وأنت وحدك؟

ـ لا يهم، ولكن وكما تسمع فأنا أحب تلاوة  " وإذا الموؤدة سئلت، بأي ذنب قتلت "

على صوته صباحاً ننفلت من أسر الكرى، فنسرع في حمل سلال النفايات بهمة عالية إلى خارج أبواب منازلنا. نقف دقائق يسرَح خلالها العقل، وتتقافز روح الوجد، وتفرّ الابتسامات العاشقة فيتلقاها بحنو، أثير الصباح المعبأ بالندى.

قيل إنهم أخذوه، وقيل إنه تزوج ورحل إلى مدينة أخرى، وقيل إنه رؤي يصعد باتجاه السماء، وكثيرون أكدوا هذه الروايـة، منهم رجال رسميون، وآخرون شبه رسميين. ولكن الثابت أنه اختفى، وكان لاختفائه أثـر كبير، إذ تغير وجه الصباح، فغدا مشرباً بالفتور، وأن السماء تشف من ثوبها الأزرق عن سديم مغبر فيزداد وطء الكآبة.

ذات ليل..

غالبت أخلاطاً من المشاعر. مشيت باتجاه النهر، لا ألوي على شيء، وقبل العبور إلى الجسر انعطفت يساراً، وظللت أحاذيه في سيري إلى أن انعطفت يساراً مرة أخرى. كنت أعب نسيم الليل، وتعب مع الغلس أذناي رجعَ صوته، وهو يرتل " وإذا الموؤدة سئلت، بأي ذنب قتلت " فأترنّح مزهواً بعذب الصوت، وأظل أسير إلى أن تنشق السماء عن شفق متجدد.. ومع الأصوات العابرة، ومع دبيب البشر تجري بحّة شجية تملأ سماء المدينة، توقظ النائمين الذين يعيشون صحواً خالصاً على رنّة موال. لقد تحلل صوته في دمي وسرى في العروق سريان الشفق في الفجر المدعم بالندى. وبين كل نداء ونداء من أفواه الباعة، ينطلق من حنجرة أبي سليم موال يغنيه مغموساً بماء الشجن، حتى صار غناؤه توقيتاً. وشعرت وأنا أعود أدراجي أنهم لابد أخذوه. كنت بهذا الإيمان أعبر برزخاً من الشك المظلم إلى اليقين، مخترقاً بآية " وإذا الموؤدة سئلت " فضاء خاملاً، وعابراً كتلاً من المدن الهالكة إلى هنالك حيث يطفو الصوت بعيداً عن الرجال الرسميين وغير الرسميين... ومن يومها وأنا أتلو الآية بانتظارهم..                                

              

*أديب سوري