جلسة مغلقة

جلسة مغلقة

إبراهيم عاصي *

رأيت القوم يمرون بحذر ويمشون بتحفظ ، ويتحدثون بما يشبه الهمس .

يقفون على باب الغرفة كالأصنام ، أو يخرجون من الغرفة تغمرهم نشوة عجيبة ، ويسيطر عليهم إحساس بالظفر غريب .

أما نحن ـ الوسيط وصاحب لي وأنا ـ فقد استمر انتظارنا زهاء عشرين دقيقة ، وبعدها جاءنا الإذن ، وفتح لنا الباب ودخلنا عليه تباعاً .. ولما وصل دور المصافحة إلي ـ وكنت الأخير ـ ظنني من المقبلين فدفع يده إلى جهة فمي ، فضغطت عليها في شيء من المقاومة ، فوقفت في منتصف الطريق ، وانتهى السلام بمصافحة وحسب !

كان يتصدر الغرفة الوثيرة بجرمه الممتلئ ، ووجهه الريان المزدان بعينين مكحولتين ، وقد أرسل لحيته على سجيتها ، وتوج رأسه بهالة ضخمة من لفائف الشاش الأبيض الناصع .

الغرفة فاخرة الأثاث . فهناك السرر المرفوعة التي حفت بجنبات الغرفة من جهات ثلاث ، وهي السرر المخصصة للزوار. أما في الجهة الرابعة ـ وأعني صدر المجلس ـ فقد كانت النمارق المصفوفة ، والزرابي المبثوثة التي اتخذ منها فضيلة الشيخ لنفسه مسنداً من الخلف ، ومتكآت ليمناه ويسراه ، وأما الأرض فقد كسيت بأبهى ما أنتجته بلاد العجم من طنافس ، يحار المرء في جمال نقشها وبديع ألوانها .. على أن روائح البخور من ندٍ يومض ، وصندل يحترق ، إضافة إلى أنواع العطور المختلفة التي كانت تفوح من أردان القوم ، وتنضح بها لحاهم .. كل ذلك كان يضفي على المكان جلالاً ، ويبعث فيه سحراً ومهابة !.

كان الوسيط الذي رتب مكان وزمان الزيارة ، أحد مريدي الشيخ المتحمسين الناشطين . دأبه أن يتجول في الجوامع ، ويتعقب المصلين ، فحيثما وجد واحداً منهم بادي الصلاح ، كثير الدعاء ، ظاهر التقوى .. دعاه لسلوك الطريق ، وحاوره في ضرورة التتلمذ على شيخه للتخلص من (الأنا) وتزكية النفس ، والكفر (بالأغمار) ، وللوصول بالتالي إلى الله . وغالباً ما كان هو الرابح ، لأنه كان يحسن اختيار النوعيات بما أوتيه من خبرة وفراسة على مر الأيام .

لقد وقع الاختيار علي ذات يوم ، عندما فرغت من إحدى صلواتي في أحد مساجد المدينة . ولكن بالنظر لتعثر المحادثات ، واحتدام الحوار بيننا بلا طائل ، فقد أغراني كثيراً بمقابلة الشيخ وأصر إصراراً على ذلك ، لما عند الشيخ من حجة دامغة ، ورأي مفحم ، وسحر حلال !. ثم كانت هذه الزيارة .

انتبهت إلى نفسي ، فوجدتني أنا الوحيد الذي يجلس بلا تحفظ ـ أعني بلا تكتف أو تكور ـ ويحدق في وجه الشيخ بلا تهيب ، ويركز عينيه في عينيه ، لا يغضي ولا ينكس له طرف ، أو ينخفض له رأس من تعظيم أو تقديس !

لم يكن الوسيط بحاجة لأن يقدمني إليه ، فالزيارة مرتبة من قبل ، ولكنه كان فيما لاحظت ، بحاجة لأن أرفع عنه هذا الحرج الخانق الذي أصابه شخصياً ، بسبب ما أخذ يبدر مني من (سوء أدب) مع الشيخ ، ابتداءً من الإحجام عن التبرك بتقبيل يده ، ومروراً بهذه الجلسة (غير المهذبة) ! وانتهاءً بما لا يدري من تطورات الأمور !.

***

حين بدأ الشيخ يتحدث واعظاً ، ظهر وكأنه يستأنف كلاماً سابقاً .. كان يوجه الكلام إلى الجميع ، ولكن عينيه غالباً ما كانتا تصدمان بعيني اللتين ظلتا لا تتحولان عنه .

وكان من كلام الشيخ فيما كان قوله :

.. الأرض كروية فعلاً ، والذين يقولون بغير هذا من أهل العلم مخطئون .. والعلم ضروري لكل واحد ، وقد فرضه الدين ولكن علم الشرع لا علم الطبيعة !. الله تعالى هو المعلم الأول للإنسان (الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم) .. وعلم الشريعة علمان : علم اكتساب ، وعلم من لدن الخبير الوهاب .. أما علم الاكتساب فهو علم الكتاب ، وهو علم موقوت سريع الزوال وقد يتمنطق صاحبه فينزلق إلى الضلال .. وأما العلم اللدني فهو العلم الذي يجود به على أوليائه المعطي الوهاب .. الله لا يتخذ ولياً جاهلاً ولو اتخذه لعلمه .. هذا هو أسمى أنواع العلوم .. الحمد لله على ما علمني .. وهنا عطس الشيخ عطسة قوية ، وصل رذاذها ـ عن غير قصد منه ـ إلى وجوه بعض من كانوا يجلسون قبالته جثياً ، فما وجدت إلا أيديهم تمتد إلى تلك الوجوه فتمسحها ، وألسنتهم تلهج بالصلاة على النبي وآله .

وتابع الشيخ يقول : النفوس ثلاث : نفس متضخمة ، ونفس متوهمة ، ونفس مستفهمة ، المتضخمة تهلك صاحبها ، والمتوهمة تضعه على حرف ، والمستفهمة تأخذ بيده إلى أهل الحقيقة والعرف .. إن من لا شيخ له فالشيطان شيخه ، ومن كان الشيطان شيخه هلك ، كالسيارة التي يسوقها مجنون لابد أن تتدهور!.

والعلماء ورثة الأنبياء . وإن الذي لا يعرف الله لا يعرف كيف يعبده والمعرفة لا تكون إلا عن طريق الشيخ . والمعرفة لا تتحصل بالعيان لكن بالجنان ، وهي كالنور الوهاج من حاول تلقيها مباشرة احترق ، ومن تلقاها بواسطة الشيخ سما وسمق .. الشيخ هو (الترانس) يمتص التيار الشديد ثم يوزعه بمقادير.. وإن لله (خواص) في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، وخواص الأشخاص هم الذين يصنع الله منهم واحداً على رأس كل قرن لينقذ الخليقة ويحيي الطريقة ويوصل إلى الحقيقة متمثلاً بالشيخ . وهؤلاء الخواص هم المفوضون بتوزيع الضياء والمقصودون عند طلب الشفاء ، والمؤملون عند نزول البلاء .. والزهد للصلحاء تاج ، والخشونة لهم من البطر سياج .. وهنا أغمض الشيخ عينيه نصف إغماضة ، وشرد بهما عبر النافذة المواجهة لها ، في شبه شخوص نحو السماء ، ثم أصدر تنهدة عميقة وأردفها بشهيق مديد مقطعاً فيه لفظ الجلالة : آلـ .. لـ .. ـه .. كبيـ .. ـر.. وعندها شهق الجميع من حولنا بصوت واحد ، وبخشوع مرعب ، مع اختلاج مفاجئ : هو .. هو ..

*   *   *

سادت فترة صمت . كانت يمين الشيخ تعابث أطراف لحيته ، وكان يدور في رأسي الكثير من التساؤلات ، وقد رأيت أن الفرصة باتت مواتية لطرحها فأردت أن لا تضيع مني فعاجلت فضيلة الشيخ قبل أن يدخل في حديث جديد قائلاً :

ـ سيدي الشيخ : هل أستطيع أن أفهم من كلامكم السابق أنكم من الخواص ، وأنكم من أصحاب العلم (اللدني) ؟ فأجاب باختصار :

ـ نعم تستطيع أن تفهم ذلك ، وكله من فضل ربي .

فأضفت :

ـ وهل لي أن أستفسر منكم عن بعض الأمور ؟

قال ، وقد تجهم وجهه بعض الشيء :

ـ استفسر. قلت وقد استشففت سر تجهمه :

ـ أرجو عدم المؤاخذة يا سيدي ، فربما كان من الأولى بي أن أظل مستمعاً إلى مواعظكم وحكمكم الثمينة ولا سيما وأنني أخبرت بأنكم تجيبون على أسئلة المتسائل من قبل أن ينطق بها وأنكم تستشفون ما في الصدور.. على أنني قد أكون صاحب فضول ، وإذا شئتم : مستعجل معرفة ، ويقيني أن حلمكم يتسع لي . فقال ، وقد تهلل وجهه وابتسم :

ـ بكل سرور.. نعم .. اسأل يا ابني . قلت بلا مقدمات .

ـ ما بال هؤلاء القوم يجلسون بين يديكم جثياً ؟ وما بال الآخرين ينسحبون من أمامكم القهقرى مطرقي الرؤوس ذليلي النفوس ؟!

اربد وجهه من جديد .. تنحنح قليلاً .. ثم أجاب بفتور :

ـ سلهم هم . هم يجيبونك .

قلت وقد علتني الدهشة :

ـ وما شأني بهم حتى أسألهم ؟! قال :

ـ عنيت من ذلك أنهم هم الذين يفعلون هذا من عندهم ، أما أنا فما أمرتهم به أبداً . قلت :

ـ ولكن أمرك يا سيدي مطاع فيهم ، فلماذا لا تأمرهم بألا يغالوا في تعظيمك ؟!

يبدو ان الشيخ أحس بأن رياح الحديث غير عادية ، وأنها ربما تجنح بالسفينة إلى حيث لم يكن يتوقع أو يشتهي ، إذ ما هي إلا نظرة خاطفة ـ ذات معنى ـ أجالها فضيلته فيمن حوله .. حتى رأيت جميع الحضور ينسحبون بخشوع الواحد تلو الآخر ويخرجون ، حتى الوسيط !

لم يبق إلا صاحبي وأنا ، وصاحبي لم يأت معي إلا مجرد مستمع .. ولما خلا الجو قال الشيخ بكبرياء :

ـ خشيت أن يسيئوا الظن بكم فتأخذهم الغيرة فيحصل لكم شيء ! على أنني لم أقتنع بهذا التبرير، وقد لاح لي أن وراءه غاية أخرى غير ما ذكر.. وقبل أن أعلق بأي كلمة تابع يجيب :

ـ أما عن (أمري) ، فإنه مطاع فيهم ولا شك . وهم يعلمون أنني لا أرغب في تصرفاتهم تلك ؛ ولكن القضية خارج طوقي وفوق إرادتي!..

فقلت مستوضحاً بتعجب :

ـ لكنني لم أفهم ما تعنيه يا سيدي ؟!

فقال :

ـ القضية في غاية السهولة والوضوح .. إنهم يرون في ما لا يرونه في غيري ! وما لا يراه غيرهم فيّ !.. إنه ثوب ألبسني ربي إياه ! فقلت :

ـ ولكن جوابكم يا سيدي جعل الأمر عندي أكثر غموضاً فما السبب ؟ قال :

ـ يلزمك الإخلاص والتسليم يا ابني ، ومتى سلمت وكنت مع شيخك كالميت بين المغسل ، فهمت كل شيء ، ولم تعد تسأل عن أي شيء !..

لم أشأ أن أدخل في متاهات أخرى ، فقلت في نفسي لأنتقل إلى سؤال آخر . فمضيت وسألت :

ـ وماذا تقولون عن أولئك الذين مسحوا وجوههم برذاذ عطاسكم يا سيدي متبركين مصلين على النبي ؟!

علا وجهه شيء من الاستخفاف بتفاهة السؤال ، ثم تنحنح ، وبعدها شهق شهقته المعهودة العميقة الملحنة : آلـ .. لـ .. ـه .. كبيـ ... ر.. وأردف بعدها بلهجة المنتصر قائلاً :

ـ يبدو أنك لم تسمع بحديث (النخامة) يا ابني ؟! قلت :

ـ وما حديث النخامة يا سيدي الشيخ ؟ قال :

ـ ذاك الذي جاء فيه أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبركون بنخامة الرسول صلى الله عليه وسلم !.

فأجبت دون تريث ، ولكن بشيء من الانفعال :

ـ أما الصحابة فقد عرفت من هم في مجلسكم ! ولكن من هو الرسول ؟! هل تراه أنتم !

 ثم استأنفت للحال أقول :

إنني أفهم يا سيدي ، أن يحسن قوم من البسطاء أو غيرهم الظن بإنسان ما ، فيضعونه ـ مغالين ـ مواضع الأنبياء بسبب ما أوتيه من صلاح أو علم أو ولاية ظاهرة .. ولكنني لا أفهم أبداً أن يضع إنسان ما نفسه بنفسه موضع النبي مهما كان هذا الإنسان ، وكائنة ما كانت مكانته العلمية أو الروحية ؟! بل إنني لأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول : إن أي إنسان يدعي لنفسه هذا المقام ويطلب امتيازاته تلميحاً ـ ولا أقول تصريحاً فذلك أنكى وأبشع ـ فقد حكم على نفسه بالجهل ولو أوتي علم الأولين والآخرين ، وعلى روحه بالإفلاس ولو قام الليل وصام النهار دهره ، واجتمعت عليه الأمة كلها !..

بدأ فضيلته يتلجلج ، ولا أخفي أنه بدأ يتفقد ريقه بأطراف لسانه ، فلا يجد منه إلا القليل . إلا أنني تابعت أقول :

ـ ولهذا يا سيدي ـ أرجو معذرتكم ـ إن أنا تجاوزت حدي وقلت : إن عملهم ذاك إذا تكرر في عطسات أخرى ، فإن من شأنه أن يسيء إلى سمعتكم . هش قليلاً لهذا المخرج المواتي واندفع يوافق على كلامي بقوله :

ـ الحق معك .. الحق معك يا ابني .. إنهم يجهلون ! سامحهم الله وبصرهم ..

*   *   *

قرع الباب قرعاً خفيفاً ثلاث مرات .. صدر الأمر من الشيخ للقارع أن ادخل كان الداخل غلاماً قسيماً وسيماً ، ضاوي العود من عبادة ، شاحب الوجه من قيام وسهر، منحني الرأس من إجلال ، خفيف اللحية ، أنيق الهندام .

استقبل أول من استقبل شيخه ، فقدم له على صينية فاخرة كأساً من الشاي العقيقي . ثم جاءنا الدور ـ صاحبي وأنا ـ وحين بدأنا نحسو الشاي كان الغلام قد خرج ، وكان صاحبي قد بدأ ينتهز الفرصة ليدوس على قدمي وليهمس في أذني :

ـ كفى .. كفى يا محمود .. لفها .. لقد تضايق الرجل .. لنشرب ولنمش حالاً .

لم أرد على صاحبي ، بل عدت للحديث ، ولكنني بدأته بقولي :

ـ شايكم عطر ولذيذ يا سيدي . فأجاب مجاملاً باقتضاب :

ـ هنيئاً . فقلت :

ـ سيدي الشيخ . بالأمس عندما تعرفت على مريدكم المخلص السيد عبد القادر، دار بيني وبينه حول الحديث الشريف القائل : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ". وقد سمعت منه تفسيراً عجيباً لهذا الحديث ! الأمر الذي كان الدافع الأول في حضوري إليكم تشوقي لكم . لقد قال ـ حفظه الله ـ : إن تغيير المنكر باليد هو من اختصاص العلماء . وإن التغيير بالقلب هو من اختصاص العوام ! وكما أنه لا يقبل من الحكام أن يغيروا منكراً بأقل من يدهم ، فإنه لا ينبغي للعوام أن يغيروا منكراً بأكثر من قلبهم ! فما رأي فضيلتكم في ذلك ؟

قال الشيخ بكل طمأنينة ووثوق :

ـ إن ما قاله ولدنا السالك ، هو عين الصواب .

قلت دهشاً وبلا ريث :

ـ وهل هذا هو رأيكم الشخصي ، أم هو رأي جماعة الفقهاء والمحدثين ؟ قال :

ـ بل هو رأينا الشخصي ! قلت بدهشة أشد :

ـ ولكن الأمر على جانب من الخطورة عظيم يا سيدي ! إن الحديث الشريف المشار إليه ليس حديثاً عادياً ، إنه من الأحاديث الأمهات التي ترسي إحدى القواعد الضخمة في صرح بناء الإسلام التشريعي .. إنها قاعدة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) !. بل إنها (فريضة الجهاد) !. ولهذا فاسمحوا لي أن أعترض على هذا التفسير الذي أبديتموه ، ولو من الناحية اللغوية على الأقل ..

إن كلمة (من) فيها الإطلاق مع العموم .. وإن كلمة (منكم) وما تحتويه من ضمير جماعة العقلاء دون تمييز بين عالمهم وجاهلهم ، أو ملكهم وسوقهم .. وإن عبارة (فإن لم يستطع) وما تفيده من معنى الإلزام المتدرج بحسب الطاقة القصوى ، وليس على أساس الإعفاء والتمييز المبنيين على مبدأ الفصل بين الطبقات .. كل ذلك مما يقف داحضاً دافعاً لأي تفسير على شاكلة التفسير الذي فاه به تلميذكم السالك السيد عبد القادر ووافقتموه أنتم عليه .. ولا يغيبن عن بالكم يا سيدي أن أقل ما يترتب على تفسيركم للحديث هذا على النحو السابق ، هو تعطيل مبدأ الجهاد في الإسلام لإعفائكم العامة منه ، والعامة هم سواد كل مجتمع وهم جماهيره ، ولا يخفى عليكم ـ من خلال مطالعاتكم للتاريخ ـ أنه ما من عرش طاغية حطم إلا وكانت معاول الجماهير هي الفاعلة فيه ! وليس من فئة اعتدت وبغت على شعوب أو أفراد ، إلا هبت في وجهها أول ما هبت جحافل الجماهير !. وإن الفئة التي حصرتم بها حق تغيير المنكر باليد هي فئة الحكام ، يعني فئة الحكام والمتنفذين ، بينما واقع المجتمعات العام في القديم والحديث يؤكد لنا أن المنكر لا يفشو أول ما يفشو إلا على أيدي هؤلاء ! فمتى كان الباغي يقاضي الباغي ؟ والسارق يحاسب السارق ؟ والظالم ينكر على الظالم ؟ والزاني يعب على الزاني ويقيم عليه الحد ؟! متى كان ذلك يا سيدي ؟!.

استوى الشيخ قليلاً في جلسته ، وقد ظهر عليه ضيق شديد ؟ ولوحظ أنه يتمتم بكلمات غير مفهومة .. وبعد أن أشاح بوجهه عنا ذات اليمين وذات الشمال عدة مرات ، قال بلهجة المشفق علينا ـ رفيقي وأنا إذا افترض أنني أتكلم باسمه أيضاً ـ وبعبارة اليأس منا ، قال :

ـ سامح الله ولدنا عبد القادر، لقد أفهمني أنك شاب (روحاني) يحتاج إلى بعض النفحات ، وإذا بك ـ ولعل صاحبك معك ـ رجل (عقلاني) محجوب ! إن علاجك ليس عندنا يا ابني ، يمكنك أن تذهب إلى أهل (الشريعة) إذا شئت فهناك تجد ضالتك وتسألهم ما تريد . أما نحن أهل (الحقيقة) فإن لنا موازيننا الخاصة وفهمنا الخاص لمعاني النصوص ، وإننا لا نسمح لأحد أن يشتط على طريقتنا في الفهم وأسلوبنا في الوزن! وإن كنا لا نحمل عليه ، بل ندعو له بالإبصار وزوال الحجب عن قلبه وعينيه !.

لم أشك في أن فضيلة الشيخ قد أراد طردنا ـ بفصيح العبارة ـ من مجلسه ، ولكنني تجاهلت كل شيء ، حتى نظرات صاحبي إلي التي باتت تأكلني أكلاً !. وتابعت الحديث بتلطف مصطنع وبأعصاب أهدأ ، فقلت :

ـ سيدي الشيخ ، لقد ظلمتموني ظلماً كبيراً من حيث لا تريدون .. إنني رجل (مسلماني) ولست (عقلاني) ! إنني باختصار مسلم وكفى ، هكذا أظن في نفسي ، أو هكذا ـ على الأقل ـ أريد أن أكون . ثم أنكم ظلمتم كل رجل (روحاني) أيضاً لما افترضتم ـ ضمنياً ـ من بداهة الانفصام والتناكر بين الروح والعقل ، في حين أنه لا انفصام ولا تناكر بينهما ، وإنما هناك التكامل والتعاضد لتكوين الشخصية الإسلامية المثلى ، وبلوغ مرتبة الإيمان الصحيح .. هذا وإن المسلم الصحيح ـ يا سيدي ـ لا يستطيع أن يتصور الحقيقة منفصلة عن الشريعة ، أو يتخيل الشريعة غير الحقيقة ، والإسلام هو الإسلام وكفى!.

وعلى أي حال فإن تفسيركم للحديث ـ بالرغم من أنه شخصي كما قلتم ـ لابد أن يكون مبنياً على العقل أو النقل ، وإنني طالب دليل وباحث عن حق أعتصم به من الضلال والهوى ، لا أكثر ولا أقل . فما دليلكم إذا سمحتم ؟

تنهد الشيخ تنهدته العميقة المعهودة الملحنة : آللـ .. ـه .. كبير .. وسكت برهة يعابث لحيته الرهوة .. ثم أجاب كمن يطل من عليائه على رعية مسكينة جاهلة .. أجاب بقوله :

ـ برغم كل ما ذكرت أو قد تذكر من تعاريف للمسلم فإن لك ولأمثالك عندنا تصنيفاً ثابتاً هو أنك (عقلاني) ولو لم تكن عقلانياً لما سألتني الدليل !. ولا بأس أن يكون واضحاً لديك تمام الوضوح أننا قوم لا نفتي بالدليل ، ولا نعول على عقل أو نقل !. إننا نستلهم تفاسيرنا وفتاوانا وأحكامنا من لدن ربنا الذي خلق العقل والنقل ، نستلهمها مباشرة بالفتوح والتجلي دون أية واسطة !. وإني لأقول لك : إنه العلم (اللدني) وكفى ! و " حدثني قلبي عن ربي " هو إسنادنا الوحيد ليس غير !.

كاد يطير صوابي من خطورة هذه النتيجة التي انتهى إليها حديث الشيخ ، وهمست أن أقوم منصرفاً بعد أن اعتقدت أن تصريح الشيخ هذا هو القول الفصل في منهج القوم ، وهو الشيء الذي كنت أسمعه عنهم ولا اصدقه إلى أن تحريته بنفسي فكانت هذه الصدمة المخيبة ! ووجدتني بعدها في غنى عن أية استفسارات أخرى . إلا أن فضيلة الشيخ تحول فجأة إلى مهاجم ـ في محاولة منه للإجهاز عليّ وقد ظن بتفرسه الخاطئ أنني أفحمت فسكت ـ وهممت بالهرب ـ فقذف بسؤاله دون أية مقدمات :

وما رأيك أنت في (كرامات الأولياء) ؟ فعاودت الجلوس باطمئنان وأجبته بدوري بلا تردد :

ـ الأولياء جميعاً على رأسي وعيني .. وإنني موقن تماماً بأن لله عباداً إذا أرادوا أراد ، وإنني لأحفظ منذ زمان بعيد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل " ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له ، لو أقسم على الله ، لأبر الله قسمه ". عند ذلك قال :

ـ ومن الولي في نظرك ؟ قلت :

ـ الولي في نظري هو من تحلى (بالعَيْنات) الثلاث . قال :

ـ وما هذه العينات الثلاث التي لم أسمع بها من قبل الآن ؟! قلت :

ـ العين الأولى تعني (علم) ، والثانية تعني (عبادة) والثالثة تعني (عمل) ولا بد من اجتماعها معاً في الولي ، وأن أية عين تسقط منها فإنها تسقط صفة الولاية عن الولي . فالعالم الذي لا يتعبد ، كتاب فقه ، والعابد الذي لا يعلم ، مطمع شيطان رخيص . والعالم العابد الذي لا يعمل ، أناني لا يهمه إلا خلاص نفسه . قال :

ـ وماذا يكون شأنك مع ولي صادق الولاية ، إذا لاقيته وعرفته ؟ قلت :

ـ أحبه .. أجالسه ، أقتدي به .. أتعلم منه .. ولكنني لا أتعبد إليه بالخشوع ، ولا أومن له بالعصمة ، ولا أقر له بالوحي ولا أجثو بين يديه طاعة ، أو أطأطئ له رأسي كمصري قديم أمام فرعونه .. وبالتالي فأنا لا أمسح وجهي متبركاً بمقذوفات عطاسه مصلياً على النبي ، لاعتقادي : كما أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ، فكذلك عطاسه لا يمكن أن يقذف بكافور ولا صندل !. ثم تابعت أقول : ولا ننس يا سيدي أن للولي (آيات) فضلاً عن (العينات) . قال :

ـ وما آياته ؟ قلت :

ـ آياته كثيرة ومنها : ألا تكون له دولة ، وألا يكون له كهنوت ، وألا يتميز عن عامة إخوانه (بالهالة والهيلمان) .. أو ليس الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم هو القائل : " إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد "؟! وهو القائل : " وعليّ جمع الحطب "؟! أو ليس هو أيضاً الذي كان يأتي الغريب يبحث عنه بين أصحابه فلا يميزه منهم فيقول : أيكم محمد ؟!.

لم يمهلني فضيلة الشيخ لمجرد أن ابتلعت ريقي ، فأطلق سؤاله الجديد :

ـ وما رأيك في الذكر ؟ فقلت للحال :

ـ ألا بذكر الله تطمئن القلوب . قال :

ـ ولكن الذكر على أنواع ؟ فقلت :

ـ كلها تطمئن القلوب إلا واحداً . قال :

ـ وما هو ؟ قلت :

ـ هو ذلك الذكر الذي يحرف فيه لفظ الجلالة تحريفاً قبيحاً ليصبح مجرد نبرة إيقاعية (أهْ ، أهْ ، أهْ ...) تصلح للدبك الجماعي المصحوب بتوترات نفسية صناعية مفتعلة ، خالية من الخشوع الحق ، والاطمئنان الصادق .

وتابعت أقول :

أما بقية أنواع الذكر، فما أحلاها جلاء للقلوب الصدئة ، وطمأنينة للنفوس القلقة ! وما أحسنها هادياً على الطريق ، وعاصماً من شياطين الإنس والجن !

وإذا رأيته يحضر لي أسئلة أخرى ، فإنني عاجلته قائلاً :

ـ يا سيدي ، للحقيقة أقول : إنني احتككت بعدد من مريدك وتلاميذتك ، فوجدت فيهم المؤمن الصادق الإيمان ، والشاب الناشئ في طاعة الله المتعفف عن الشهوات .. ووجدت فيهم أناساً شفت نفوسهم ورقت أرواحهم من العبادة ، واكتهلت أجسادهم من فرط الصيام والقيام وهم بعد شباب .. ووجدت المتواضع المؤدب والأنيس المهذب ، ووجدت ووجدت .. وهذا كله جميل ورائع !.

ولكنني لم أجد الشاب القذيفة الذي يهدر كعمر! ولا الفارس المندفع كرافع وسمرة ! ولا المؤمن الإيجابي الثائر كابن مسعود وأبي ذر! ولا الإنسان الذي يعيش عصره بنباهة وذكاء وحذر، الذي ليس (بالخب ولا الخب يخدعه) ؟! لقد كان من صفات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم " رهبان في الليل فرسان في النهار" فما بال قومك رهباناً في الليل ، رهباناً في النهار؟!

ولم يدعني فضيلة الشيخ أسترسل .. انتزع مني طرف الحوار بشيء من التبرم والنزق ليقول :

ـ هذا كلام سبق لنا وسمعناه كثيراً من أمثالك ! إنكم أناس تنقصكم (الحكمة) ، وبعد النظر، وحسن الاستفادة من دروس السيرة النبوية الشريفة !. إنه لا بد من (التزكية) تزكية النفوس أولاً ، ولا بد منها ثانياً وثالثاً ، ومن بعد ذلك يأتي دور المسلم الإيجابي .. الفارس .. الثائر!.. إن رسولنا الكريم بقي في مكة ثلاثة عشر عاماً لا عمل له إلا تزكية نفوس أصحابه وتربيتها على مبادئ الإسلام وأخلاقه ، ولما تم له ذلك أقام الدولة في المدينة ، وحارب في بدر، وفتح مكة ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ..

أظلم جو الغرفة بعد أن أوشك قرص الشمس على الانطفاء وراء الأفق ، ولم يبق منه إلا شعاع ضئيل لا يزال ينفذ إلينا كليلاً من النافذة الغربية التي تواجهنا .. انتبه صاحبي إلى ذلك ، فقام من مكانه وأدار مفتاح النور فتوهجت الثريا المدلاة السقف ، بمصابيحها الكريستالية البراقة . وكان في النافذة الأخرى كوب ماء فجاء به وقدمه للشيخ فشرب منه ، وشربت ما تبقى من سؤره ومضيت أجاذبه الحديث:

ـ كلامكم يا سيدي جميل ومعقول . ولكن لي عندكم سؤالاً واحداً صغيراً بهذا الصدد ، فقال فضيلته :

ـ اسأل يا ابني . قلت :

ـ هل لي أن أعرف كم هي المدة (دورة التزكية) عندكم ؟ متى تبدأ ؟ متى تنتهي ؟ وكم سنة تدوم ؟ إن دورة التزكية في مدرسة الرسول دامت ثلاثة عشر عاماً ، ثم كان منها الأبطال والقادة والساسة الأعاجب ..!

فما بال هذه الدورة لا أول لها ولا آخر عند بعض سادتنا من الشيوخ ؟! بل ما بال الناس عند هؤلاء الشيوخ (يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا ؟ أم تركوا فناموا؟!) إني لأعرف أناساً منهم انتسبوا إلى دورات تزكية ، منذ أحاد السنين ، وما زالوا هم هم : (مسكنة ودروشة وتزهداً وغفلة وسلبية وانعزالية ..) ولم يتخرجوا بعد ؟! يستشري الكفر من حولهم فلا يعبأون ! يشتم الله على مسمع منهم فلا يتحركون ! يستأسد البغاة والطواغيت على أهل الإيمان فيداهنون ويهادنون !

تسأل الواحد منهم : من مختار حارتك ؟ فيكون جوابه : إنا لله وإنا إليه راجعون !.

وتسأله : السماوات أكبر أم الأرض ؟ فيقول : أركان الإسلام خمسة ، وغنا إلى ربنا منقلبون !؟

ثم تابعت أقول ـ برغم ما بدا على الشيخ من تبرم وضجر لم يستطع إخفاءهما ـ : أنا أفهم التزكية يا سيدي ، شحنات من الإيمان يتلقاها المؤمن فتجعل منه بركاناً من نار ملتهبة ، تحرق الباطل وتزهقه .. وأفهمها فيوضات من نور الحق تنفذ إلى قلوب الحيارى ونفوس التائهين ، فتحييهم وتجعل منهم خلقاً فريداً شديداً .. أما أن تحولهم إلى جبال من جليد ، أو تفحمهم ولو قطعاً من ألماس ،فذلك ما يصح في تسميته (دورة تخدير) وليس (دورة تزكية) !.. تنهد فضيلة الشيخ تنهدته العميقة المعهودة الملحنة : آللـ .. ـه .. كبير.. وقبل أن يتكلم ، صاح المؤذن : " الله أكبر" لصلاة المغرب ، وانقطع الحديث فقمنا دون أن نحدد موعداً للقاء جديد .

أما عبد القادر ـ الأخ الوسيط ـ فقد عبرت به واقفاً خلف الباب في ذلة وانكسار! كان قد مضى عليه كذلك زهاء ساعتين ومن يدري فلعله كان يكفر بوقفته تلك ، عن خطيئته التي ارتكبها بتعجله الذي أحرج موقفه عند شيخه ، إذ ساق إليه رجلاً (عقلانياً) على أنه (روحاني)؟!

              

* أديب سوري معتقل منذ عام 1979