المحطة

سما حسن -فلسطين

 حين رآها من بعيد تأخذ مكانها بين المنتظرين على محطة الباص، لم يكن يتوقع أن هناك بشرا بهذا الجمال، وتسوقه الأقدار لينتظر الحافلة، ويتسابق مع من المتسابقين للوصول إلى باب الحافلة الضيق، وقفز درجات سلم الصعود بلياقة ومرونة قلما يقفزها الإنسان في الظروف العادية، ولكنه يكتشفها في نفسه بمجرد تعرضه إلى احتمال أن تفوته الحافلة وانتظار الحافلة التالية، نظر إليها مشدوها بهذا الجمال الذي كثيرا ما وصف ما هو أقل منه بدرجات في قصصه القصيرة التي يكتبها لنفسه، ولم تنشر له منها قصة واحدة، ولم يحزن لذلك، لأنه يعتبر بطلات قصصه الجميلات جمالا يقارب الحوريات وعرائس البحر نساءه  اللواتي لا يسمح لأحد أن يعرف أوصافهن وملامحهن كما رسمها على الورق، أما هذه التي تقف أمامه، فلم يكتب قلمه وصفا يقترب من مستوى جمالها، فوجد نفسه يقف مبهورا لاهث الأنفاس إلى جوارها تماما، إلى درجة أنه اشتم رائحة شعرها السنبلي الذهبي الطويل المتطاير الذي يصافح صفحة وجهها بود وزهو، كانت رائحتها أنثوية لا تقارن بما اعتاد أنفه أن يشم، استنشق رائحتها… وعب منها في صدره وكأنه غريق يجود باخر أنفاسه بين أمواج تجذبه نحو موت محقق، حين شعر أن رئتيه قد امتلأتا بهذه الرائحة… عاود التنفس ببطء… وحرص ألا تفلت الرائحة وتتسلل مع زفيره مرة أخرى… وقد تضامن الهواء معه وحمل إلى أنفه نسمات معبقة بعطرها الممتزج برائحة صابون فاخر، أخذ يستنشقه منتشيا وسابحا بأفكاره الأخرى.

كان يحمل بيده اليمني كيسا بلاستيكيا به عدد من أحذية أطفاله، ليصلحها كما طلبت منه زوجته، وهي تودعه في الصباح بنفس العبارات التي يسمع منذ سنوات… قبل  ذهابه إلى عمله وهي منشغلة بتسريح شعر ابنتها الطفلة الصغيرة … فيما الطفلة تبكي وتنظر إليه مستنجدة، ولكنه وكالعادة ولى دبره هاربا من الدخول مع هذه المرأة في جدال عقيم.

   “لا تنس كذا… وتذكر شراء كذا… وإياك أن يخدعك البائعون ويبتزون أموالك التي نحن بحاجة إليها”

هذه المرأة هي ابنة عمه… أصر والده على زواجه بها وهو ابن ثمانية عشر عاما، وهي تصغره بعامين، وذلك لأن عدة أسباب ساقها الأب أمامه وهو يستذكر دروسه استعدادا لامتحانات التوجيهي، ومنها أنها ابنه عمه اليتيمة والوحيدة، وأنه الأحق بها من الغرباء والزواج عصمة له من الحياة المليئة بالمغريات، وأنه ووالده بحاجة لامرأة تعنى بهما بعد وفاة أمه، لم يجد اعتراضا يسوقه أمام حجج أبيه، وفي غضون أيام قليلة تزوج منها.. هو لا ينكر أنها جميلة ممشوقة… وأنه اكتشف رجولته الغضة على جسدها الطري، وبعد عدة شهور انتفخ بطنها بأول جنين يحمل علامة رجولته المكتملة، والتي كان والده يشكك فيها نظرا لصغر سنه… أصبح ممارسة رجولته فوق جسدها الذي تكور تدريجيا نوعا من الخبال، فهي دائمة التأوه والشكوى من الحمل تارة، ومن البيت الذي ألقى بمسئوليته هو ووالده إليها، فأصبحت ربة البيت الأولى،  وسرعان ما مدت نفوذها، وفرضت سطوتها على القاطنين وعلى الممتلكات، حتى الأب العجوز فقد هيبته ونفوذه أمام حاجته لها لترعاه، وتقوم على شئونه.. وقد راقت لها اللعبة كثيرا، فأصبحت قوية متنمردة… سليطة اللسان خاصة بعد أن قذفت من رحمها توأما من الذكور إلى باحة البيت الخالية، فأصبحت بذلك هي السلطة العليا بلا منازع ، وقد أخبرها بعد وضعها التوأم عن حتمية وقف سيل الأطفال، فبكت وولولت واستجارت بأبيه، واتهمته بأنه يخطط للزواج بأخرى من فتيات المدينة،  فصمت صاغرا، أما بعد وفود الأطفال فلم يجرؤ على مجرد تذكيرها بوقف هذا السيل الذي يراها تستمتع بزيادة عدده. واصل أفكاره السابحة إلى القرية، حتى حين يعود من جامعته في المساء إلى القرية بعد غياب طول النهار في المدينة المجاورة، ويحاول أن يُسقط على جسدها كل ما رآه من مشتهيات وإغراءات في الحرم الجامعي، أو في شوارع المدينة الزاخرة بأنواع من النساء والفتيات اللواتي يشعلن النار في جسده، رغم عمره الذي بالكاد يقترب من العشرين، ولكنه خبر النساء، وبالتالي أصبح يعرف الفرق بين النساء وتلك التي تركها في البيت تلقم ثدييها طوال النهار للتوأمين الصغيرين، وسرعان ما انتفخت وبطنها الذي ينتفخ.. والحياة نمضي والبيت يكتظ بالصغار والحجرة تضيق بهم، وهي تصر أن يظلوا من حولها… بعضهم على السرير بينهما… وبعضهم يتمدد على الأرض، وهو يذهب كل يوم إلى الجامعة ويعود ممتلئا بمشاهد وتصورات حول المشاهد التي تزيد من اشتعاله.

***

تخرج من الجامعة وحصل على وظيفة مدرس في المدينة.. وتحولت حياته إلى مشاهد متكررة بين البطن المنفوخة والثدي المدلى، والشعر المنكوش والصغار الذين يطلقون المواء، رضع ويتعاركون بمجرد أن تدب أقدامهم على الأرض،  واللسان السليط الذي يكيل الاتهامات بالتقصير واللامبالاة بهذا الجيش الذي بات يخاف من تكاثره.. بعد وفاة أبيه حيث لم يعد له سند لمواجهتها، مما جعلها تستبد أكثر.. صارت الآمر الناهي.. تعيث فسادا لدرجة أنها لفت شطائر الأولاد بأوراقه التي كتب عليها قصصه، شعر يومها أنها فتكت ببطلاته، ومزقت شعورهن المسدلة بأظافرها، وأنشبت أسنانها الصفراء والتي لا تفكر بدعكها باختراع اسمه فرشاة الأسنان، بأعناقهن المرمرية. انتابته رغبة شديدة بالبكاء على نسائه اللواتي اكتشفت زوجته مكانهن وعلاقته البريئة بهن، ولكنه أحجم عن مجرد تأنيبها، لأنه يعرف لهجتها المتهكمة الساخرة التي تواجهه بها، حين تراه منزويا على غفلة منها يكتب  ويخفي الأوراق والقلم بين ذراعيه و صدره ووجهه، وكأنه  يضاجع امرأة في بهو كنيسة فتضبطه بالجرم المشهود، لا يبقى أمامها سوى أن تقدمه لمحكمة من محاكم التفتيش التي كانت تعدم الساحرات في القرون الوسطى، أحيانا يشعر نحوها بالرثاء، فهي لم تغادر القرية، ولا تعرف من الحياة أكثر من بيتها وأطفالها، لم  تودعه  في الصباح بقبلة، ولا تستقبله في المساء بوردة، لا تجلس قبالته ليقرأ لها فقرة من كتاباته.. ولكن ما يطفح حقدا عليه فقد حولت حياته إلى حياة قاتمة التي لا يرى منها فكاكا..

***

نظر إلى ساعته، فأدرك أن الحافلة تأخرت، وأن أفكاره قد أخذته بعيدا، في حين رائحة الفتاة لازالت تدغدغ حواسه.. يتجرأ لأول مرة في حياته ويقرر أن يحادثها، ولكنه ألقى بالفكرة قليلا إلى ما وراء أذنه، حتى تصل الحافلة فسوف يسرع ليختار كرسيا لها إلى جواره معتمدا على خبرته في صعود الحافلات، وإشفاقا منه على هذا الجمال من عناء البحث عن كرسي في حافلة تعود إلى القرية في نهاية النهار، ولكنه عاد  فحدث نفسه، أن هناك الكثيرين ممن جذبهم جمالها، وسوف يقومون بما ينوي فعله، اقترب منها أكثر… نظر ألى صدرها الصغير الذي تحكم تقييده تحت بلوزة وردية.. وتذكر ثديي زوجته اللذين لم يعد يجد فارقا بينهما وبين ثديي بقرة يراها في الحقل المجاور لبيتهم، كم تمنى أن تقيدهما بحماله صدر من تلك التي يراها في واجها ت المحلات، وشعر بلذة وهو يتخيل نفسه يفك رباطهما الصغير من الخلف، فيتدليان أمامه صغيرين خجولين وقورين، فينحني أمامهما إجلالا وإكبارا، ويخجل من لمس طهارتهما الملائكية، فيعيدهما إلى قيدهما الأول، ويقدم لهما اعتذارا، وعليهما برفق بأطراف أصابعه، تأملها أكثر فرأى عينيها جميلتين بلون فيروزي رائع، يحملان تعبيرا خاويا وكأنهما  لا يمتان بصلة لصاحبة هذا الجسد بطوله الفارع والقامة الرشيقة، وشعر أن نظراتها الخاوية  نوع من الغرور والتعالي، وقرر أن ينتحل لهذا الجمال العذري إن تعالى وتكبر، وقرر أيضا ألا يدخلها في مقارنات فاشلة تقلل من شأنها مع زوجته التي تنتظر عودته بالأحذية للصغار.. ضرب جبهته بباطن كفه حين تذكر كيس الأحذية الذي يحمله، لو لمحته ستعرف أنه أب لجيش من  الأطفال، وأسرع يخفيه خلف ظهره ويدعو الله في سره ألا تكون قد لمحته.

كانت تهز قدمها قلقة…إذن هي مثله تشعر بتأخر الحافلة.. سوف يجلس إلى جوارها في الحافلة… وأثناء صعودهما سوف يحتك متعمدا بمؤخرتها.. طافت على مخيلته دون قصد مؤخرة زوجته التي تحشرها في ثوب مثل الكيس، تمتلئ ببقع الزيت ومخاط الصغار، وبقايا الطعام ,الذي يمسحونه بثوبها من الخلف أثناء التصاقهم بها وهرولتهم خلفها من مكان إلى مكان في البيت الواسع.. ترى كيف سيكون شعوره وهو يحتك بها، حين يقترب وجهه من وجهها، تلفح أنفاسها أنفاسه وهما يدلفان الحافلة ويطلقان تنهيدة على أول درجة تفضي إلى داخلها، علامة على نجاحهما في تجاوز أزمة الاختناق المرورية في الصعود…هيأ نفسه لمشاعر لم يخبرها، ولم يكتب عنها في قصصه، ماذا لو لمحت الأحذية؟ سيخبرها أنها لأخوته الصغار، فمن هم في سنه لم يتزوجوا بعد، تمنى لو كان معه كراسته التي كتب فيها آخر قصة له، ولم تصل لها يد زوجته، لعرضها عليها وحدثها عن مواهبه، لو رفضت الحديث معه، وأشاحت بوجهها الساحر إلى الناحية الأخرى كما تقتضي تربية الفتيات المهذبات ..لحظتها سيكتفي بالجلوس إلى جوارها والنظر إلى محاسنها طول الطريق.. ان هذه الحادثة سوف تجعله ينسى المرأة التي تركها في البيت لأعوام قادمة.. هذه الفتاة رائعة ساحرة… والنظر إليها قد حوله إلى قديس أو راهب… لا يرغب بأي  امرأة في الكون سواها… فهو مستعد أن يرجم أو يجلد أو يصلب  بعد الظفر بها.

لاحت الحافلة من بعيد… واستعد لتنفيذ مخططه… فرأى فتاة أخرى تلوح أيضا وتقاربها جمالا..تقترب وتقترب…. ثم أصبحتا في مواجهة بعض، حين صك سمعه وقوف الحافلة… لم تكن حافلته المنتظرة التي ستعود به إلى قريته.. وكانت حافلة بعلامة مميزة وشعارا مميزا على جانبها.. صعدت الفتاتان خفيفتان تتبادلان الحديث والإشارات. دون زحام.. لم يصعد إلى الحافلة سواهما.. انطلقت.. شيعها بنظره فيما أحكمت قبضة يده على كيس الأحذية.

يشرفني زيارتكم لمدونتي:http://blog.amin.org/samahasan/