انتحار رجل عادي
يوسف حامد أبو صعيليك
ما زال الناس في حيرتهم منذ أن مات عبد الله الفران :
- لماذا انفجر عبد الله الفران بالبكاء بعد كل هذه السنين فجأة ؟!.
وقصة عبد الله الفران قصة عادية جداّ ، .......... بل ربما بدت للبعض أنها أسخف من أن تروى ، ..... قصة موت إنسان عادي جداً .
عبد الله الفران ..... لطالما تردد هذا الاسم على ألسنة أهل حي الثورة العربية .
و عبد الله الفران عامل الفرن البسيط ، بهيئته الرثة ، مجرد اسم يتردد تردداً عادياً على الألسنة بحكم الجيرة ، أو بحكم التعامل شبه اليومي معه عندما يحتل مكان بائع الخبز في المخبز أثناء غيابه ، وما أكثر ما يحتل هذا المكان لطيبته ، وهو الطيب حد السذاجة .
والفران عبد الله ذو أسماء متعددة ، طالما أطلقها عليه الساخرون ، أو" زعران " الحي ، أو حتى البسطاء .
فهو " الفران " عند البسطاء ، وهذه التسمية لا تفارق اسمه الأول " عبد الله " ، فلا يذكر عبد الله إلا وتتلوه فوراً " الفران " .... هكذا بحكم العادة التي ألفها ساكنو الحي .
وهو " الأعور الدجال " لدى صبيان الحي المشاغبين ، وكذلك هو " قَرٌّود" لدى محبي التهكم ، ولكل من هذه التسميات أو النعوت قصة خاصة ، أو سبب أدى لهذا الربط ، بين عبد الله وهذه التسميات .
وهكذا لم يكن هناك شيء غير عادي في عبد الله الفران يثير الاهتمام سوى أن عبد الله الفران راضٍ كل الرضا في مراحل حياته المختلفة ، بخلاف أهل الحي ، بدليل أنه لم يتذمر أو يشكو من أي شيء طوال حياته ، ولم يفتح فمه ليقول " لا " لأي كان ولأي سبب .
وصفة الفران التي التصقت بعبد الله طوال حياته منذ أن كان صبياً في العاشرة يعمل في مخابز الحي ، جاءته من عمله الذي لم يحاول مرة أن يغيره ؛ أو أن يتذمر منه .
لقد ظن جميع من سمعوا باسم عبد الله الفران لأول مرة أن عبد الله الفران هو صاحب المخبز لملائمة النعت للمالك أكثر منه للصانع ، ولكنهم جميعاً أسقط في أيديهم لخيبة ظنهم السابق في عبد الله الفران.
وعبد الله الفران أجعد الشعر ، متوسط القامة ، نحيف لدرجة يظنه معها الرائي ظلاً ، محمر الوجنتين دائماً لكثرة معايشته حرارة بيت النار صيفاً وشتاءً ، متسخ الثياب دائماً ، حتى في ساعات راحته التي قلما ينعم بها في بيته ، فهو أشبه بالقرد – عند بعض أولاد الحي – لعدم تناسق حمرة خده مع سمرة وجهه .
وعادة ما يطلق عليه أولاد الحي وزعرا نه لقبه الثالث " الأعور الدجال" لعور في عينه اليسرى .
كل فرد في حي الثورة العربية قال يوماً " لا " ، أو اعترض على أمر ما في حياته ، إلا عبد الله الفران .
فكل أهل الحي رغبوا بالهجرة إلى أمريكا ، إلا عبد الله الفران لم يحاول التقدم بطلب للسفارة الأمريكية كما فعل الكثيرون ، بل لم يفكر في هذا الشيء مطلقاً .
كل أهل الحي بكوا في المناسبات المختلفة إلا عبد الله الفران لم يفعل ، ولم ير باكياً ولو مرة واحدة.
كل أهل الحي هبوا للمشاركة في تشييع جنازات أحبتهم ، إلا عبد الله الفران لم يشارك في جنازة ما أبداً حتى في جنازات أبيه وأمه ...... وابنه ، صدقوا ، أجل ابنه .
ولم يحتج عبد الله الفران على حدث ما ، على خفض اجره من قبل صاحب العمل ، أو على حرب أبيد فيها مئات البشر ، أو على تزوير ما في انتخابات ما ، حتى أنه لم يعترض على الشروط المجحفة التي وضعتها حماته عند تقدمه لطلب يد ابنتها .
كل شئ أهل الحي يفعلونه استثني منه شخص وحيد هو عبد الله الفران ، طبعاً إلا الزواج ، وحتى زواجه جاء رغماً عنه بإرادة أمه، ولكنه يعترض ، ولم تصدر من تلك الـ " لا ".
روي أن أمه قالت أنه لم يبك أو يصرخ عندما ولدته كباقي المواليد ، وهذا ما جعلها تعتقد أن ابنها ولد أبكماً ، فأكلها الحزن حسرة لأيام خوفاً من أن يكون وليدها أبكماً ، حتى ظهرت بوادر الأمل بعد فترة ، وزال الخوف من هذه العلة .
والقصة الغريبة هنا ، أن عبد الله الفران قد تحول فجأة إلى غرابة الأطوار منذ أن رأى ذات نهار زهرة بيضاء تنتزع الأخيرة في حياتها ، ذابلة تنحني بانكسار وداعي ، تبكي آخر لحظات الحياة ، كان الاصفرار يحتل الجزء الأكبر من مساحة أوراقها التي تراجع فيها الاخضرار إلى الوراء ، ومنذ ذلك الحين وهو يراقب موتها البطيء ، فيظن من يراه أنه يستمتع بمراقبة موتها البطيء .
وما لبثت أوراق الزهرة البيضاء أن جفت وتركت زهرته الحياة ، فاستسلمت للريح التي ما لبثت أن اقتلعت بقاياها من موطنها ، وحملت أوراقها الجافة إلى حيث المجهول ، عندما رأى عبد الله الفران غصنها الباكي وحيداً من دونها ، ندت عنه دمعة تلتها أخرى ما لبثت أن تلتها دمعات .
منذ تلك اللحظة ، طرأ التغير الملحوظ على سلوك عبد الله الفران ؛ تصدر منه بين الآونة والأخرى قرقرة تشبه الضحك تبين فيما بعد أنها نشيج عبد الله الفران .
ومن العجب أن يبكي عبد الله الفران حتى في احلك الظروف ، فطوال الأربعين عاماً الماضية لم تنزل من عينيه دمعة واحدة حتى عندما مات أبوه ، فقيل يومها أن الرجل إن لم يبك رحيل أبيه ، فلن يستطيع الصمود أمام رحيل أمه ، فلا بد أنه سيبكي لموتها ، ولكن الغريب أن عبد الله الفران لم تذرف عيناه أي دمعة عندما لبت روح أمه نداء باريها ، فزُعم أنهم قالوا:
- لعله يدخرها لمصيبة أكبر .
وبعد سنوات مات ابنه البكر ، فقالوا إنه من المستحيل أن يصمد الأب أمام موت ابنه ، ولكنهم خسروا الرهان هذه المرة أيضاً ، فلم يبك عبد الله الفران هلاك فلذة كبده ، فرماه بعضهم بالبلادة ، بل شطح بعضهم يومها فقال باستحالة اقتراب الموت منه ، فكيف يقترب الموت من شخص بليد ، لا يعرف مما يدور حوله شيئاً ؟! ، فمن العجب أن لا يبكي إنسان أمام كل هذه المصائب ، خاصة إذا كان عربياً ، إلا إذا كان بليد الشعور .
أما منذ بداية التحول ، فلم ينظر أحد في عينيه إلا ورأى الاحمرار يكسوهما ، والوجوم يغطي وجهه ، أما لسانه فلم يعد يتحرك ، ولكأنما فقد النطق إلى الأبد .
لمحوه ذات مرة يبكي ، فلجأ إلى ركن منزوٍ ما إن رآهم قد رأوه ، فصار الهروب دأبه كلما نظر أحدهم في وجهه ، بل صار ملازماً لزاوية أكثر إظلاماً لكي لا يرى أحدهم ما جد من تغيير على قسمات وجهه .
ولم يعرف أحد سبباً لبكاء عبد الله الفران ، فلم يكن يجيب عندما كانوا يسألونه ، وإنما كان يلوذ بالصمت ، وتسقط الدمعات على رغيف الخبز الذي يقوم برقه .
عندما أطل معلمه عبود برأسه من بوابة المخبز الزجاجية باحثاً عنه ، فوجئ به يجلس عند زاوية البوابة ، فصرخ طالباً منه العودة إلى عمله ، فلم يستجب لطلبه ، اقترب منه مستطلعاً عن سر رفضه ، فرأى أن وجنتيه قد ابتلتا بالدموع ، فصرخ مستغرباً :
- ما هذا عبد الله ؟!.
وعندها انفجر عبد الله الفران يبكي بصوت عالٍ ، تجمع بقية العمال حول عبد الله عندما سمعوا بكاءه و نحيبه المرتفع ، لكنه لم يأبه لهم ، واستمر في شهيقه ، ولما رفع رأسه ، وجد ظان رجال الحي قد تجمعوا حوله متسائلين ، مبدين دهشتهم لهذا التغير الغريب ، والبكاء المتواصل :
- أنت الوحيد الذي لم يبك ، فلماذا بكيت الآن ؟!.
- لماذا كسرت القاعدة التي متمسكاً بها طوال السنين الماضية؟.
- لماذا بكيت ؟!.
- كل الرجال بكوا في هذا الحي إلا أنت ، فلماذا تراجعت ؟! .
لم يكن عبد الله يسمع ما يقولون ، بل كان مستمراً بالبكاء بصوته المرتفع كطفل صغير ،
قال رجل بصوته شبه الضاحك :
- صام صااااااام ، وأفطر على بصله .
- هكذا مرة واحدة ؟.
- إن دموعه سيولاً .
قفز عبد الله من بين الملتفين حوله ، وشق جمعهم ، وانطلق يجري وسط الشارع ، واستمر بكاؤه الجاري مع جريه حتى وصل إلى بيته .
دخل عبد الله ولم يبتسم لأطفاله ، عادته التي فقدها منذ أن بدأ بالبكاء ، واتجه إلى حجرة ذات بــاب مـعدني كثير الثقوب ، وأغلقه على نفسه ، ولم يستجب لنداءات زوجته المتكررة .
لا أحد يدري ما الذي كان يفعله عبد الله الفران خلف الباب ، لا زوجته ، ولا أطفاله الخمسة ، وتساءلت زوجه في تفكيرها المسموع عن سبب لوي زوجها " لبوزه " كدأبها في ترديد هذه العبارة منذ التغيير ، ثم استدارت دورة كاملة واقتربت من باب الغرفة التي أغلقها عبد الله الفران على نفسه ، ثم طرقته ، لكنه لم يجب ، فعادت لتطرقه مرة أخرى بعنف ، غير أن عبد الله لم يكن يتحرك من مكانه فيما يبدو ، اقتربت منحنية ووضعت أذنها اليمنى على الباب بانحناءة تبدو معها أشبه بالدجاجة في وضع مضحك ، حتى لامست أذنها الباب ، وأنصتت ، لم تسمع شيئاً في البداية ، فاعتقدت أنه صمتَ صمْت الموت ، لكنها سمعت بعد قليل ، ما يشبه الأنين المكتوم ، والشهيق الذي يبدو وكأنما يجاهد صاحبه في إخفائه ، واستمر في إغلاق الباب على نفسه حتى الصباح التالي عندما استيقظت زوجه ولم تجده ، كان قد ذهب إلى عمله منذ الثالثة فجراً كعادته .
في المساء عاد من عمله، كان وجهه قد تحول إلى بقعة صفراء ، واختفى من تحت جلده الذي يغلف مقدمة رأسه أي أثر لحمرة الدم ، بدا على وجهه أنه لم ينم ليلة الأمس ، وكانت آثار دموع لم تجف بعد على وجهه ، وعيناه حمراوان تبدوان غائرتين في محجريهما ، فأخذت زوجته تمطره بوابل من الأسئلة ، وحاولت اكتشاف سر تحوله ، لكنه لم يكن يجيب ، بل توجه إلى الحنفية المكسور أحد قرنيها ليزيل آثار الدموع ، ثم دخل إلى حجرة بائسة ، بعد قليل لحقت به زوجته تحمل إبريقاً من الشاي ، وضع فوق طبق نحاسي مستدير ، يحمل كأسين من الزجاج فارغين ، كانت الغرفة ذات المظهر الباكي مبعثرة الأشياء ، غارقة في الفوضى ، تنبعث من أطرافها وزواياها رائحة عفونة ورطوبة تزكم أنف الداخل إليها ، عند زاوية من زواياها تربع مذياع قديم تبدو عليه بصمات السنين فوق كرسي معدني صدئ ، أجزاؤه شبه منفصلة عن بعضها ، موضوع بجانب فراش إسفنجي مهترئ مليء بالثقوب الواسعة ، جلس عليه عبد الله الفران ضاماً ركبتيه بيديه إلى صدره ، ينظر إلى زوجته التي جلست أمامه ، تثرثر مستمرة دون توقف ، شاكية ساخطة تارة ، وغارقة في الضحك تارة أخرى .
تناولت أحد كأسي الشاي ، ورشفت منه رشفه ، ساحبة بصوت مزعج رشفات الشاي بشفتيها الغليظتين ، دون أن تلحظ أنه يعيش في عالم آخر بعيداً عنها ، ثم عادت إلى حديثها الذي قطعته رشفات الشاي ، تحرك ذراعيها مع كل حرف يخرج من بين شفتيها ، وبعد أن أنهت حديثها وكأسها ، رأت أن عبد الله فران لم يتحرك من موضعه ، بل إن وجه عبد الله فران لم يتغير السكون المريب فيه .
نادته طالبة منه أن يشرب كأسه ، لكنه لم يجبها ، وبعد أن أعادت تكرار ندائها عدة مرات ، اقتربت منه هازتاً جذعه بيديها ، فرفع رأسه مذعوراً ينظر اليها بدهشة ، ثم قفز من مكانه واتجه إلى الغرفة الأخرى ضارباً الباب خلفه بقوة .
في اليوم التالي لم يكن عبد الله فران موجوداً في الغرفة فأخذت زوجت تجري في أنحاء البيت كالمذعورة بقسماتها القلقة ، تصرخ على صغارها ، ساخطةً لاعنةً عيشها النكد.
بعيد الضحى بقليل ، طرق الباب ، وكان المعلم ( عبود ) يقف بالباب ، ونظراته الماجنة الباحثة تفتش في أنحاء البيت ، تكاد تخترق جدره ، ولما أطال العبث بنظراته ، سألته بضيق عن سبب مجيئه سألها عن سبب عدم مجيء عبد الله الفران عن العمل ، فأكدت له أنه غير موجود في البيت منذ الصباح أيضاً.
ركب عقلها القلق منذ تلك اللحظة ، فأخذت تدور بين بيوت أقربائه تسأل عنه ، لعله لجأ إلى أحدهم ، حتى عادت قبيل الغروب ، وهي تلهث دون أن تعثر لعبد الله الفران على أثر .
ولم يكن أحد ليهتم بوجود عبد الله الفران أو عدمه ، فهو مجرد خيال موجود في هذا الكون ، دون أن يكون لوجوده أي معنى ، ولم يكن أحد من أقربائه ليبدي الاهتمام ببحث زوجته عنه ، ولم يتوقع أي منهم أن يخترق عبد الله الفران حدود حي الثورة العربية إلى خارجها .
دخلت المطبخ ووضعت إناءً تناوبت سياط النار وبدايات الصدأ عليه بفعل القدم على موقد أشد بؤساً منه ، ولما لم تجد علبة الثقاب استدارت ساخطة لتشتم قدرها وحظها العاثر بحكم عادتها المتأصلة فيها ، وأخذت تبحث عن علبة الثقاب لجدها أخيراً ملقاة فوق مقعد خشبي صنعه عبد الله بيده ذات يوم .
عندما التفتت إلى الزاوية التي كان الباب المفتوح يغطي جزءاً منها ، لفت انتباهها وجود حذاء عبد الله الفران موضوعاً في الزاوية ، ابتسمت وحدثت نفسها على عادتها بصوتها المسموع لعله عاد أثناء بحثها عنه ، قررت أن تذهب إلى حيث ظنت وجود عبد الله الفران ، ولكن الباب كان مفتوحاً على مصراعيه ، فولجت الحجرة تبحث لكنها لم تجده ، وكذا كان في الحجرة الأخرى ، عادت إلى المطبخ تتساءل عن سر وجود الحذاء في المطبخ ، " هل يعقل أن يكون قد خرج حافياً ؟، وهذا ما لا يفعله سوى المجنون ؟ ، أيكون قد جن ؟، وهو الأقرب إلى الجنون هذه الأيام ؟.".
بعد قليل تناهت إلى سمعها أصوات الفئران قادمة من " السدة " تعبث بمحتوياتها فجعلت تنظر إلى السدة محاولة استكناه سر جلبة الفئران ، فلمحت قدماً آدمية تظهر من خلال بوابة السدة الصغيرة ، فأسرعت وأحضرت السلم الخشبي ، وما أن نظرت في جوف السدة حتى بهتت وصرخت ، كان جسد عبد الله الفران ممداً بلا حراك ، فاغراً فاه ، قد جحظت عيناه ، نفضت يده ، لكنها سقطت على الأرض مستسلمة ، لمست وجهه ، كان بارداً ....... متجمداً ، فصرخت مولولة حتى اجتمع الجيران على ولولتها ، وعلموا بالخير اليقين ، انتحر عبد الله الفران ، تناول السم الموضوع للفئران ، وقضى .
تجمع الناس حول جثته ، متسائلين عن سبب انتحاره المفاجئ ، لكن أحداً لم يكن يجيب عن سؤالهم ، فقد مات سر عبد الله معه .
في اليوم التالي ، كان جسد عبد الله الفران يتوسد التراب بدموعه ، ولكن السؤال الذي بقي يتطاير في أجواء الحي لمدة طويلة :
ما سر بكاء عبد الله الفران المفاجئ ؟!.