عفاف
عفاف
إبراهيم عاصي *
سطعت الأنوار من المصابيح الكهربائية التي ضمت إلى أسلاك متعارضة في سماء الدار.. وانطلقت الزغاريد تشق سكون أمسية الصيف الندية .. وفاحت ريح عبقة ، وانتشر في أرجاء الدار الواسعة ، الشذا المضمخ طيباً وعطراً .. وأجلست العروس على كرسيها بين أترابها وجاراتها والقريبات. ثم أديرت كؤوس الشراب ووزعت قطع الحلوى بين أصوات ناعمة شجية ، وألحان حلوة عذبة تأخذ بمجامع القلوب ، فغمرت الجميع نشوة لا حد لها ، واستبد بهن شعور من الغبطة ممتع بديع .. إلا واحدة كانت هناك غير بعيد عن الدار، تلحظ ذلك كله وتتملاه بين حبات من الدموع تنفرط من عينيها حارة غزيرة ، وزفرات لاهبة تصعدها من الأعماق . إنها (عفاف) بنت الجيران التي وقفت خلف شق في نافذة غرفتها المطلة على الاحتفال . لم تستطع (عفاف) أن تقف طويلاً خلف شق النافذة ، فقد دب في أوصالها وهن لم تتمالك معه أن انصرفت عن المشهد تخنقها عبراتها . ثم طرحت نفسها على ارض غرفتها فارتمت متهالكة ملتوية العنق مبعثرة الشعر، شاردة اللب والبصر، حول عينيها بعض تورم ، وعلى فمها أكثر من سؤال ثم أخذت ـ وهي شبه غافية ـ تخاطب إنسانة في نفسها في نفسها بصوت خفيض :
.. هكذا كتب علينا يا (عفاف) : تحرق بنار الجسد واكتواء بلهيب الذات والغيرة .. فها هي ذي (نوال) بنت الجيران تزف الليلة إلى عروسها لتنعم بوداعة السكن إلى الزوج ، ثم بدفء الحنان على الطفل .. وأنت ، كما أنت يا (عفاف) : تمر بك الأيام والسنون ، ولا شيء لك سوى عواطف تضرم ، وأحلام تتلاشى .. فإلى متى يا رب ؟ إلى متى أنتظر ؟ ألا يكفي أني دخلت الثلاثين ؟؟..
يا رب .. أنا لست أبتغي عرساً تسطع فيه الأنوار، وتصدح الألحان وتعلو فيه الأهازيج . ولا زفافاً يضوع فيه العطر، وتوسوس الحلي ، وتنطلق الزغاريد .. إن كل ما أبتغيه هو إنسان .. هو زوج أبدد لديه غيوم وحدتي ، أسكن إليه ، أتفيأ ظله في صحراء هذه الحياة القاحلة ، وفي درب عمري المجهول .. بل إن كل ما أبتغيه يا رب هو أن أسمع إلى جانبي من يناديني ـ ولو لمرة واحدة ـ بذلك النداء الخالد ؟ " ماما .. ماما ". أريد أن أكون أماً ويكون لي طفل .. طفل أضمه إلى صدري ، وألقمه ثديي ، وألثم وجهه وعينيه .
أريد طفلاً طالما استشعرت ـ واهمة ـ نفسه الناعم يتردد في أذني فأحسست نشوته تسري في فؤادي .
ويا رب .. لا حاجة لي ـ وأنت العليم ـ أن أطلعك على ما يعتلج في نفسي كلما مررت بواجهة مخزن يبيع لعب الأطفال ، أو عما يهتز في أعماقي كلما شاهدت قبعة صغيرة أو عربة صغيرة ـ ولو كانت فارغة ـ أو شريط شعر ملون .. أو كلما لاحت لناظري طفلة تدرج إلى جانب أمها ، أو طفل استلقى على ذراعي أمه في طريق ..
إنه الشعور بالحياة والموت معاً . إنه شعور غريب ، عنيف ، لذيذ مؤلم . إن فيه خدراً لكل أحاسيسي .. إن فيه ناراً تلامس كل عصب في جسمي ..
وما أن وصلت الخواطر والتصورات بعفاف إلى هذا الحد .. حتى أخذت تتقلب في مكانها ، ثم جلست من ارتماءاتها وهي تفرك عينيها وتديرهما فيما حولها بشيء من التفحص والاستيحاش .. ثم لم تلبث أن سمعت وقع أقدام تقترب من غرفتها . وانفتح الباب برفق .. وإذا أمها فيه واقفة ، وعلى وجهها وجوم متلبد ، وفي لسانها عقد توشك أن تنفك لينفلت من ورائها حديث طويل .. ثم ألقت التحية : مساء الخير يا عفاف . فردت عفاف : مساء الخير يا أمي .
و ما كادت الأم تدخل وتجلس حتى انطلقت تقول :
إلى متى ؟.. إلى متى يا عفاف تعيشين في هذه الهواجس السود ؟ لقد حزرت أنك لن تحضري حفلة العرس ولذلك لم أحضرها أنا أيضاً ، ولكنني كنت أظن أنك ستنامين مبكرة ، ولم يدر بذهني أنك ستسهرين إلى هذه الساعة المتأخرة من الليل !. تتقلبين في هموم تنطق بها هذه العيون الرخوة الحمراء ، ويبوح بسرها هذا الوجه الشاحب !..
فقالت عفاف : مهلاً يا أماه .. مهلاً لا تكثري علي من اللوم ، ولا تعجبي من سوء حالي ، بل لومي من كان هو السبب أصلاً في هذا الشقاء الذي أعانيه ، وسوء حالي الذي أكابده .
ـ وماذا تقصدين بهذا الكلام ؟ ومن تعنين بهذا التعريض ؟
ـ أقصدك أنت يا أمي !.
ـ تقصدينني أنا ؟!.
ـ نعم أنت .. لأنك أنت السبب !.
ـ وهل أنت جادة فيما تقولين يا عفاف ؟
ـ نعم ولست بهازلة . فأنا لا زلت أذكر كيف أنك ـ منذ أكثر من عشر سنوات ـ وفضت خطبة ابن عمتي بحجة أنك ستكملين لي دراستي .. ولازلت أذكر كيف أنك رفضت خطوبة أخرى بحجة أنني لازلت صغيرة وخطبة ثالثة ورابعة .. وأنت تصطنعين شتى المعاذير والحيل في رفض الناس . وقد كنت أنا حينذاك فتاة غريرة لا أملك من أمري شيئاً ولا أعرف مدى خطورة ما تفعلين على حياتي وعلى مستقبلي !
ولكن الأم لم تملك نفسها أن قطعت الحديث قائلة :
ـ أهكذا !. مرة واحدة .. تلقين علي يا عفاف باللوم كله ؟ أهكذا تتهمينني بالإساءة إليك وأنا أمك التي ربتك وتعبت بك الأيام والليالي ؟؟
إن الذي قلته صحيح فقد رفضت عدداً من الخطاب طلبوا يدك .. ولكن لا تنسي أن هذا شيء قديم وقد مضى عليه سنوات . وكذلك لا تنسي أنني كنت وقتئذ أبحث لك عن الأحسن ، وأتطلع إلى الصهر المثالي ، الصهر الذي يناسب عائلتنا في علمه ، ومورده ، وشكله وأصله وفصله .. بحيث يفوق في مزاياه جميع أصهرة العائلة .. إلا أنني لم أوفق إليه على الرغم من تشددي على تلك الشروط ، فما ذنبي ؟
ـ ذنبك أنك كنت صلبة ، وأنك كنت متشددة كما أقررت أنت الآن لي .
ـ بل إن الذنب ذنبك يا عفاف وأنت بهذا الاتهام تجبرينني على أن أصرح بأشياء كثيرة على الرغم مما أشاهده عليك من دلائل الإعياء وملامح الضيق والسأم . وإن كنت الآن غير ذاكرة فسأذكرك بكل شيء .
منذ حوالي سبع سنوات يوم خرجت إلى الحياة العملية (معلمة) لأول مرة بعد إنهائك الدراسة .. أتذكرين كم واحداً تقدم لخطبتك ؟ لقد تقدم الكثير ومنهم (المحامي نديم) نديم هذا الذي رفضته مع أنه أهل لك فهل تذكرين ماذا كانت حجتك يومئذ ؟:
إن أهله بسطاء .. إن أهله متأخرون .. لا يعرفون تقاليد الزيارات .. اختلاطهم بالمجتمعات قليل .. أمه (غشيمة) أخجل من أن تكون حماتي .. تلك كانت حججك في رفضه ولم نشأ أنا ووالدك أن نقول لك (لا) . ثم (يحيى) زميل أخيك في الدراسة ألم يتقدم إليك وبإلحاح ؟ ماذا كان يعيبه ألم يكن على أهبة التخرج مدرساً مع أخيك (مروان) ؟ ألم يكن مناسباً لك في ثقافته وهيئته ونظرته إلى الحياة ؟ فلماذا لم تقبلي به ؟ ماذا كان اعتراضك عليه ؟ :
إنه ليس من أبناء الأسر المعروفة .. إن أباه قروي نزح إلى المدينة والناس لم ينسوا ذلك بعد . وأنا لا أحب أن أربط مصيري بابنه وأتعرض لانتقادات رفيقاتي وقريباتي والناس ...
وفي هذه المرة أيضاً لم نشأ أن نقول لك (لا) .
ثم (إحسان) الشاب العصامي ذو الخلق ، الذي أحرز الثقافة والوظيفة المحترمة بدأبه وجهده . لماذا أحجمت عنه ؟ ماذا قلت في رفضه ؟ ألا تذكرين ؟ :
وماذا يعني أنه ذو خلق ؟ أنأكل ونشرب ونلبس من أخلاقه ؟ وهل تبني الأخلاق (فيلا) ؟ وهل تشتري الأخلاق سيارة ؟ إن دخله محدود فليس له إلا راتبه ـ وإن كانت وظيفته كبيرة ـ إن الناس (يشيعون) عنه أنه متدين ! وإني لن أربط مصيري بإنسان يعترض علي بلباسي أو في غدوي ورواحي .. أنا لا أوافق على إنسان ربما ألزمني بتغطية شعري إن لم يتماد فيفرض علي الحجاب . أنا لا أطيق واحداً من هؤلاء فقد سمعت عنهم من صديقاتي وقرأت عنهم في (المجلات) الشيء الكثير !
وفي هذه المرة أيضاً لم نشأ أن نقول لك (لا) .
ثم تلاها مرات ومرات ، وكنت أنت تتذرعين وترفضين . فهل تذكرين شيئاً من هذا أم لا تذكرين ؟
وهنا خرجت عفاف عن صمتها وإنصاتها لتقول :
نعم .. نعم أنني أذكر ذلك كله وأذكر معه أنني ما كنت على خطأ في كل ما جرى !..
ألست أستحق شاباً خيراً من جميع أولئك الذين تقدموا إلي ؟ ألست متعلمة ؟ ألست موظفة ذات دخل ؟ ألست على جانب من الحسن والجمال ؟. كم كنت تفاخرين بي في المجالس ؟ كم كننت تتباهين بجمال شعري ، وخفة دمي ، وبياض لوني وذكائي في كل زيارة اصطحبك فيها ؟! إذاً : كنت أستحق الشاب الذي بحثت عنه طويلاً ورفضت من أجله الكثير. وإن كنت لم أحظ به .
ـ كأني أشتم من كلامك رائحة غرور كبير يا عفاف أحسب أنه هو الذي كان يسيطر عليك ، ولعله هو السبب فيما آلت إليه حالك التي منها تتألمين !..
ـ وأين وجدت الغرور يا أمي : إن كلامك هذا لعجيب !..
ـ ولكني لا أجد فيه ما يدعو للعجب ولولا حرص مني على مشاعرك لمضيت معك في تفصيل طويل .
ومع هذا فإني أقول لك باختصار : إن داء العصر الذي تعاني منه معظم الفتيات ولاسيما المتعلمات والموظفات منهن .
ـ هل أستطيع أن أفهم من كلامك هذا أن (الغرور) هو الذي فوت ويفوت فرص الزواج على هذا العدد العديد من الفتيات اليوم ؟
ـ نعم .. ولكن لا على أن (الغرور) هو وحده السبب في ذلك . إنه سبب مهم إلا أن أسباباً كثيرة تشاركه الأهمية .
ـ لنظل الآن في حديثنا عن (الغرور) : هل علاجه في رأيك ألا تتعلم الفتاة ؟ وألا تتوظف ؟
ـ لست أقصد هذا أبداً ، ولا يمكن أن أقصده ولولا ذلك ما حرصت على تعليمك وإنما الذي أرمي إليه وألاحظه ، أن غالبية المتعلمات يعشن في وهم وخيال ، يحلقن في عليين ، يطللن في كبر وتيه على بقية الناس ، مما يعزلهن عن الناس ويؤثر في مجرى حياتهن .
ـ والوظيفة ... ما علاقتها بالموضوع ؟
ـ وكذلك (الوظيفة) فأنا لا أنكرها على الفتاة عندما تكون في المجال الذي يحفظ عليها كرامتها وأنوثتها كالتعليم مثلاً ، ولكنني ألاحظ أن أكثر الفتيات ذوات الدخل يتعالين ويشمخن ويثقلن بالمتطلبات والمساومات ويضايقن بالشروط والالتزامات التي يضعنها على كل خاطب أو راغب ، ولاسيما إذا كان للأهل طمع أو حاجة في موردهن، ومن هنا كان الإيذاء بالغاً عليهن بسبب الوظيفة التي تقف حائلاً بينهن وبين الناس في كثير من الحالات .
ـ وعن أثر (الجمال) في المشكلة ، وقد نوهت إليه ، ماذا تقولين ؟
ـ إذا أردت الحقيقة ، فإن الكلام في هذه النقطة محرج لي ولك بآن واحد ولعل من المناسب أن نتجنب الحديث فيها .
ـ لكنك يا أمي لم تزيديني بهذا الكلام إلا فضولاً لمعرفة الجواب !
ـ إذا كان لابد من الحديث فليكن بصراحة ليس فيها مواربة :
إن الفتيات اللواتي لا يتوهمن الحسن والجمال في أنفسهن نادرات . فما من أم إلا وتجد ـ بعين الأم ـ أن ابنتها ملكة جمال ، وحتى إذا لم تكن كذلك فإنها لا تدخر وسعاً في كيل المديح لها والإطراء عليها ... كيما (تروج) لها وتحسنها في أعين الناس ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً .
وفضلاً عن ذلك فإن وسائل (الميكياج) الحديثة وأزياء اللباس و(التسريحات) ما تركت فروقاً تذكر بين جميلة وغير جميلة : فمن كان شعرها " خفيفاً " حشته ، أو أسود شقرته . ومن كان لونها أسمر بيضته ، ومن كانت قامتها قصيرة أطالتها بكعب عال أو (بسد عال) . ومن كانت عيناها ضيقتين وسعتهما بشتى الخطوط والألوان وهكذا ...
والذي نشأ عن ذلك هو اعتداد معظم الفتيات ـ وهماً أو حقيقة ـ بمحاسنهن ولا شيء يقتل البنت (يا عفاف) كاعتدادها بحسنها وفتنتها سواء كان ذلك حقيقة أو وهماً لأن المعتدة المغرورة تجد أن كل من هم إلى جانبها دونها منزلة ومقاماً ، لها عليهم حق الاحترام وواجب الإطراء والتقدير!..
ثم هي لا ترضى بأول خاطب يتقدم لها ولو كان مناسباً ولا بالثاني أو الثالث أو الرابع .. فهي كلما ازداد خطابها ازداد تيهها ودلها .. وبالتالي يصعب عليها أن ترضى وتختار واحداً من المتقدمين ؛ في الوقت الذي يبدأ فيه الراغبون فيها ينكمشون عنها ويتوجسون منها عتواً واستكباراً ومساومات . وتكون النهاية أن لا تتزوج أبداً فتبقى (وحيدة) ، أو تتزوج ممن لم تكن ترضاه بالأصل " خادماً " لها !. والطامة الكبرى أن تبقى بعد الزواج مغرورة بحسنها الذي تحاول فرض سلطانه ، فتحيل بيت الزوجية إلى دار حرب لا تنتهي ، ومشاحنات لا تنقضي إلا بطلاق ـ في الغالب ـ تتبعه " عنوسة " إلى الأبد .
ـ ولكن صراحتك هذه مرة جداً يا أمي وإني لأراها تضعني وإياك في قفص اتهام واحد .
ـ قلت لك قبل أن أصارحك : إن الجواب محرج لكلينا ، فأبيت إلا الجواب ومع هذا فالمشكلة ليست تمسنا نحن فقط وإنما تمس معظم الفتيات والأمهات والبلاء أعم وأشمل مما تتصورين .
وهنا وجدت عفاف الفرصة مناسبة لتنقض على أمها بسؤال تدينها فيه طالما حاولت ذلك جاهدة منذ البداية :
ـ أرأيت يا أمي كيف أنك تتحملين جانباً كبيراً من مسؤولية ما آلت إليه حالي القلقة اليائسة في (وحدتي) الموحشة هذه ؟ فأين كانت ملاحظاتك هذه وآراؤك تلك حتى حجبتها عني إلى الآن ؟ ولماذا لم ترشديني إلى الأصلح ؟ لماذا ؟ لماذا ؟..
ـ مهلاً يا عفاف مهلاً .. أنا كنت مثلك بل مثل باقي الأمهات غير واعية لشيء من كل ما ذكرت ، ولكن الأيام علمتني بعد أن صرت أماً .. أماً متقدمة في السن قد تجاوزت الخمسين .. علمتني التجارب وعركتني الأيام ، الأيام التي لا ترحم .. الأيام التي تعطي دروسها قاسية ، وتلقن عبرها مرة
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979