الموت صمتا

الموت صمتا

لبنى ياسين

[email protected]

هو كان رجل الاختصار , رجل القضايا المعلقة , رجل العبور المار  ليلا في قطارات الهروب, رجل النقاط الحازمة التي تنهي السطور بترفع ,تشي هامته الطويلة بنفس أبية, بينما يشي نحوله و لمعان عينيه بطبع ناري ليس من السهل إخماد براكينه.

هي كانت امرأة الخوف, لا تكاد تشغل مكان فاصلة تتكئ بحياء على السطر لتفصل  بين جملتين متقاربتين , امرأة الأرض الساكنة التي توقفت عن الثورة و ربما عن الدوران منذ عصور..امرأة الرغبات الأرضية بكل ما فيها من تهميش و تضليل.

على هامش الحياة التقيا قليلا , قليلا بما يكفي للقاء عابر دام دهرا, بهرها عنفوانه ..شدها كبرياؤه , ارتعدت إعجابا بتحليقه في سماء الفتنة...بهرته هو بساطتها و أعجبه انبهارها بكل ما فيه.

قالت له : أهلي لن يرضوا بك ..فأنت تنتمي لديانة أخرى .

قال لها : إن لم تحلقي للسماء , لن تنزل السماء إليك , إن لم توغلي في أعماق البحر ..لن يفتح هو لك ذراعيه و يتوجك بانكسار أمواجه عند الغروب حورية بحر... و القرار لك.

هي أرادت أن تكون له , أرادت أن تكون مثله,أغرتها فكره الإيغال في الماء الأزرق , فغادرتهم ذات شمس بدون حقيبة سفر, فقط تركت ملاحظة صغيرة:

-  اعذروني ..أريد أن أرى علو السماء , و عمق البحر ..احبكم جميعا.

    طوت مسافات الاختلاف على جناح المحبة... تأبطت كبرياءه , و ركبا                                

    أول طائرة للفرح تقلع باتجاه أحلامهما , على صوت انبهارها به يعلن

   أن على ركاب طائرة الشوق حزم أمرهم  و الصعود إليها.

لم يكن ثمة غيرهما على متنها , و بضع تفاصيل أخرى مهملة , لم تكن تستحق التفكير بالنسبة إليه , شغلتها حد الهلوسة .

ثم هبطت الطائرة على مطار الحياة اليومية , و على مدرجها الوعر... بدأت طقوسهما تبدي اختلافاً شرسا,  و بدأت هي تهوي من علياء السماء بسرعة مخيفة.

سألته مراراً: ماذا تحب أن أطبخ للغذاء ؟ هل تريد أن أجهز لك الحمام لدى عودتك؟؟هل يحتاج قميصك إلى غسيل؟؟

سألها هو  : أيكفيك هذا العلو؟ أم تريدين أن نحلق أكثر؟ هل كانت السماء زرقاء كما ينبغي لعيون حبيبتي؟؟هل أحببت السير فوق الغمام؟؟

كان ثمة هوة كبيرة متسعة  بينهما ..لم يستطع أن يبني لها جسرا من دقات قلبه..لم تستطع هي القفز فوق تلك الهوة ..كانت تنفلت من بين يديه , و هولا يستطيع شيئا لإيقاف ذلك السيل الجارف المار بينهما.

ذات يوم قال لها: دعكِ من الغذاء , دعكِ من قميصي , سأصوم دهرا إن أنت شاركتني حياتي , شاركيني جنوني , شاركيني حزني , عمديني بدموعك و سأغدو نبيا , ابتريني بحزمك و لتتركي بي عاهة لا أبالي ..لا تقفي متفرجة هكذا أريدك معي في كل خطوة اخطوها.

لم تفهمِ شيئا مما قاله وقفت و هي سادرة اللب ..لم تع ِ ما الذي عليها أن تفعله  عدا تجهيز الغذاء و ترتيب أمور المنزل , فاستفاضت حيرة .

بعد شهور لم يلتقيا فيها إلا على حافة سرير , لم يتحدثا إلا بضع كلمات , احضر لها الجريدة التي اعتاد أن يكتب فيها , رماها في حضنها دون أن ينبس ببنت شفة و مضى صامتا نحو سرير الغربة .

فتحت الجريدة ..توجهت إلى زاويته ..كان عنوانها : "الموت صمتا " , تتحدث عن فجيعة الحب غربةً بين حبيبين لا يمتلكان لغة ما , عن حبيبين يتحدثان لغتين مختلفتين تماما , عن انتحار الشوق في لوعة  الاختلاف , عن اغتيال العشق في حضرة الصمت , عن جنازة الحب المتواضعة التي لم تكن تليق أبدا بعلاقة كتلك.

هي ..لمت حقيبة الخيبة , و عادت أدراجها  منتعلة حزنها على طائرة الندم.